عز الدين بوركة
وُلد الفن المعاصر عشية الحرب العالمية الثانية، مع العرض الثاني لمبولة دوشان Duchamp الموسومة بـ«النافورة»، وإن يذهب مؤرخون إلى التأريخ لميلاد هذا «البراديغم» مع إعلان مليفيتش «موت الفن الحديث!» عبر لوحته «مربع أسود» (1915) والعرض الأولي للنافورة سنة 1917.
يستند الفن المعاصر على «البراديغم» الفرداني الجديد، المتعلق بالتجاوز المستمر ـ واليومي ـ للحدود والقواعد. فيعارض بالتالي براديغم الحداثة وكل ما تعلق به من تيارات تصويرية وتجريدية، كاسراً جميع القواعد التقليدية للفن من إطار وعرض وجمالية... عبر اقتراح أعمال مغايرة وجديدة، إلا أن هذه الأعمال تظل متعلقة بما يمكن تسميته بـ«نشاط ثلاثي» كما تذهب إليه الباحثة والعالمة السوسيولوجية نتالي إينيك N. Heinich، في مؤلفها «النشاط الثلاثي للفن المعاصر» (1998)؛ نشاط مرتبط بـ: التجاوزات transgressions (من لدن الفنان) وردود الفعل Réactions الرافضة (من لدن الجمهور) والدمج intégration (من لدن المؤسسات والنقاد والمهتمين): أي تقبل المنجز ـ المعاصر ـ والاعتراف به كعمل فني في آخر المطاف... إذ تعتبر إينيك أنّ ـ وفي ظل ما تسميه بـ«جزء من الربح الدائم» (اليد الساخنة La main chaude) ـ أيَّ عملٍ فني معاصر جديد يجد نفسه باستمرار داخل تلك «اللعبة» (النشاط) الثلاثية triple jeu: من تجاوز ورد فعل ودمج. إلا أن «التحفة الفنية» المنتمية لهذا الفن و«المتجاوزة للحدود» تحتاج معانيها إلى أن يتم تفسيرها باستمرار، لأنها لا تعتمد على قانون متداول للإدراك الجمالي الرائج، وهنا يكمن بإلحاح دور النقاد والمختصين. وهكذا تُظهر الباحثة أن هذا النموذج الذي اعتمدته والمستوحى من سوسيولوجيا الأديان، يُمكِن تطبيقه على مجال الفن المعاصر، ما يعطي النقاد دوراً حاسماً في هذه العملية، فالفن المعاصر لا وجود له دون تفسيره.
البراديغم والتعايش
وهذه الجدّة في الفن بالنسبة لنتالي إينيك لا تلغي سابقيها، إذ يمكن تقسيم الفن إلى 3 براديغمات Paradigmes كبرى ومتلاحقة: كلاسيكي وحديث ومعاصر، (مع إمكانية التعايش فيما بينها). لكلّ منها تعريف واضح للفن؛ فالبراديغم الكلاسيكي، ينطلق الفن فيه من الشرائع المتوارثة عن التقليد، بينما في الحديث فيتم تعريف الفن فيه بأنه نابع من باطن الفنان، والذي ينطوي على تجاوز القوانين التقليدية. وأخيرا فالفن المعاصر هو «لعب بالحدود التي تعتبر عادة فنا». وتختلف -أيضا- التجربة الاستتيقية بين هذه البراديغمات الثلاثة، حيث إن الفن المعاصر يبحث عن الحساسية، بينما الكلاسيكي فمسعاه هو الرفع من الروحاني، وأما الحديث فيروم إلى البحث عن التعبير الجمالي العاطفي. من هذا المعطى وحديثاً عن البراديغم، فالعمل الفني عرف تغيرات في التعريف والمعنى، إذ إن التعريف المعاصر لا يرتبط بأي معطى كلاسيكي وحديث، فالأثر المعاصر يتعامل مع التغيرات القائمة على مستوى الحكم والقيمة.
اليد الساخنة:
لهذا تستعين نتالي ـ في مؤلفها ـ بمرجعيات مختلفة من كتب وبحوث ميدانية ورصد وأعمال فنية وإحصاءات وتحاليل نصوص متخصصة، ما يجعل هذا الكتاب شاملاً للأوجه المتعددة التي ترسم معالم هذا الفن الجديد، أو البراديغم الجديد كما يحلو للباحثة وصفه. ما أتاح لها القدرة للتطرق إلى مختلف الآراء والأفكار بحيادية ومنهجية علمية، عمادها تحليل الأعمال من منطلق سوسيولوجي يرتهن إلى الوصف والحكي، لهذا اختارت ألا تؤثث الكتاب بأي صور ومراجع بصرية، إذ إن كل الأعمال التي اختارتها نماذجَ لما تروم تفسيره ومعالجته، قامت بوصفها (حكيها) لغوياً. وبشكل حيادي لم تكف هذه العالمة السوسيولوجية على مناقشة الأعمال والمفاهيم، رافضة الأحكام المسبقة، دارسةً المصطلحات المرتبطة بالأعمال، وكل ما يُشكل وفقاً لها «النشاط الثلاثي»: التجاوز، ردة الفعل والدمج. وقد ذهبت إلى اعتبار أن ما تسميه بـ«الربح الدائم (أو اليد الساخنة)» يتسع يوماً على يوم، أي أن الأعمال التي يتم دمجها في خانة الفن المعاصر لا تكف عن الدخول بشكل دائم في ذلك النشاط الثلاثي.
النشاط الثلاثي
احتوى الكتاب على ثلاثة أقسام رئيسة، بالإضافة لمقدمة: أولها «التجاوزات، تجربة الحدود»، حيث تعالج الباحثة ما سمّته بالفن على حدود الفن والفن على حدود المتحف والفن على حدود الأصالة والفن على حدود الأخلاق والفن على حدود القانون. وأما القسم الثاني، فتعلّق بـ«ردود الفعل، من اللامبالاة إلى الرفض»، حيث تعالج كل من الاختلافات والاستفسارات والرفض الجمهوري والرفض العالِم، للعمل الفني. أما القسم الثالث، فتعلق بالحديث عن «الدمج: الجدران والكلمات»، وفيه تناولت بالتحليل كل من مواقف هواة الفن ووسائل الوسطاء وخطاب الخبراء، وكما كتابات الأخصائيين، أي كيفية دمج الأعمال الجديدة في خانات الفن.
وبالتالي، فنشاط الفن المعاصر ـ بالنسبة للباحثة ـ يتراوح بين ثلاثة محاور متعلقة بالتجاوزات الحدودية التي يقترحها الفنانون المعاصرون عبر أعمالهم، وما تتلقاه هذه الأخيرة من رفض ورود أفعال سلبية تجاهها من قبل الجمهور، وكما الدمج الذي يقوم به المختصون لتلك الأعمال «المقترحة» داخل خانات وتيارات فنية. فقد عرف الفن والعمل الفني، توسعاً مفاهيمياً وفكرياً كبيراً، خاصة بعد منتصف القرن الفائت، وذلك بفضل «حركة متعارضة في شكل مزادي [من المزاد]». وإن تتواجد نماذج يصعب التوفيق فيما بينها، من حيث الحدود المادية للمتاحف، والحدود الفكرية لتحديد ما هو فني من عدمه، إلا أن الفنانين هم أنفسهم الذي يقومون -نظرياً- بتجاوز تلك الحدود، وكما تحريكها. ما يدفع بسوسيولوجيين إلى الدخول في خط التحليل والمناقشة، ونتالي إينيك واحدة من هؤلاء العلماء الذين يتناولون سوسيولوجيا هذا المعطى. فتسعى بالتالي، داخل منجزها هذا إلى اتباع خطواته خطوة بخطوة وشرح «قواعد هذه اللعبة».
قواعد «اللعبة»
تكمن ميزة هذا المؤلَّف، في إثبات بأن هذا النظام لا ينحصر في تلك «السحرية» التي تشكل علامة فارقة ومميزة بالنسبة للجمهور العام. فالفنان الذي يسعى للتجاوز، لا يعمد إلى الإنجاز «أي شيء»، بل إنه يسعى لتخطي سابقيه وتمييز نفسه عنهم. أي أن يتقن الثقافة المعقدة لبيئة الفن والتي ذات مرجعية عالية. هذا البعد أقوى في فرنسا ـ الفضاء الذي تناقشه الفنانة ـ حيث تهيمن المؤسسات العامة على سوق الفن المعاصر، حيث يلعب فيه «الخبراء» دوراً حاسماً. فـ«إلى أي مدى، إذن، ستذهب هذه التجربة الكاسرة لحدود الفن؟». يرتبط الفن المعاصر بالتغيرات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، الغربية بالخصوص، وحتى الفكرية والفلسفية، خاصة الما بعد حداثية، التي تحاول تخطي الحداثة والسرديات الكبرى الملتصقة بها، بما في ذلك ما التصق بالفن وما ارتبط به من مفاهيم أخلاقية كلاسيكية ورؤى حداثية. وبفعل هذا التفكيك للمبادئ الأساسية التي حددت تقليدياً العمل الفني، تميل الفئات العامة المختلفة، إلى التصرف برد فعلي سلبي، بل بعنف في بعض الأحيان تجاه تلك الأعمال، بدعوى أن القِيَم تنتهك بذلك. ولكن شيئًا فشيئًا، يقوم الوسطاء المتخصصون (النقاد، والجامعون، والمدبرون ومديرو المؤسسات...) بدمج هذه «التجاوزات» توسيعاً لحدود الفن، وبالتالي إثارة ردود فعل جديدة - وتجاوزات جديدة وجذرية بشكل متزايد، ما يجبر الجمهور على التسامح مع الأعمال المعاصرة وتقبلها. وتظل هذه «اللعبة» قائمة باستمرار في ظل الظهور الدائم للأعمال والأفكار الفنية الجديدة والثورية في عالم الفن.
سوسيولوجيا الفن
هذا هو «النشاط الثلاثي» ـ أو اللعب الثلاثي ـ الذي يرتهن إليه العمل الفني المعاصر، بل الفن المعاصر عموما، كما توضح السوسيولوجية نتالي إينيك في مؤلفها هذا، حيث تقترح أنه علينا ألا ننظر فقط لـ«مقترحات» الفنانين من لوحات ومنحوتات وتنصيبات فنية (أنستلايشن) وفيديوهات فنية وفنون الأداء (بيرفورمانس) والحدوثة Happening وتَدَخّلات-الموقع in situ... لكن يجب النظر ـ أيضا ـ إلى ردود الأفعال تجاه هذه المقترحات (الأعمال الفنية) من أحداث وكتابات وأحاديث paroles... وكما النظر إلى «صكوك» اندماجها في فئة الأعمال الفنية: (الجدران، المتاحف، المال، دور العرض، أسماء المؤسسات الحاضنة، المجلات المختصة، النقاد، وكتابات المختصين...)؛ فبالتالي لابد من ربط بين هذه المقاربات المجزأة، والتي تُكوّن ـ في نظرها ـ سوسيولوجيا العمل الفني وسوسيولوجيا التلقي والوساطة: إنها سوسيولوجيا العمل الفني المعاصر.
ولتوضيح ذلك، استندت الباحثة على أحدث الاتجاهات في العلوم الاجتماعية، من منطلق تحليل جمالي للأعمال الفنية المعاصرة. فضلاً عن الدراسات الاستقصائية والملاحظات والإحصاءات الميدانية وتحليل النصوص المتناولة لهذا البراديغم الجديد، في جو من الاعتراف والرفض الذي يعرفه الفن المعاصر اليوم، من قبل الداعمين والرافضين له. لا تحاول نتالي إينيك في مؤلفها هذا أن تكون منحازة إلى طرف دون الآخر، بل إنها تحاول أن تعالج العمل الفني المعاصر في «مشرحة» سوسيولوجية تتطرق فيها إلى كل الرؤى بكل حيادية. مبرزة بالتالي خلفيات تلك «الخصومات» التي تدور حول الفن المعاصر، وما يلعبه هذا البراديغم على مستوى القيم والمتعة، عبر تلك الثلاثية التي تؤطره.
الرفض والدمج
يتناول الكتاب كل تلك الأنشطة الثلاثة التي حددتها نتالي إينيك ـ باعتبارها عماد الفن المعاصر ـ بشكل دقيق وتحليل عميق، يبتغي التطرق إلى مختلف الزوايا التي تحدد هذا البراديغم وتؤطره، وإن كان يتخذ من مفهوم التجاوز منطلقا له. وكل من يقول التجاوز يقول الحدود، فالفنانون المعاصرون يسعون إلى تخطي هذه الأخيرة، وهدم القواعد الفنية المتعارف عليها، غاية في كسر كل ما هو سائد وفتح آفاق مغايرة، تتداخل فيها كل العناصر فيما بينها، بما فيها «اللافنية». وتتعلق هذه الحدود بتلك الموجودة في الفن عينه، والمتاحف والأصالة والأخلاق والقانون.
وقد استعانت لتوضيح ذلك بأعمال مثيرة للجدل؛ آثارٌ تتعرض عند ظهورها لردود الفعل الرافضة. لهذا تأخذ نتالي الوقت الكافي، لتحليل الجمهور وردود أفعاله تجاهها، فاصلة بين آراء الأشخاص العاديين والمختصين والنقاد، محللة بذلك ثلاث مراحل متعلقة بردود الأفعال تلك، وهي: اللامبالاة والتساؤل والرفض. ثم تنهي مؤلفها بوضع الخطوط العريضة لانتقال العمل الفني المعاصر من حالة الرفض (السلب) إلى حالة القبول (الإيجاب)، أو ما تصفه بـ«الدمج»، أي كيفية دمج العمل الفني في البراديغم المعاصر وفي خانات الفن، بعدما تلقى الرفض والاستهجان من لدن الجمهور، ولا يمكن لذلك أن يقع بدون تدخل من قبل مشاركين des partenaires فاعلين في العملية، من نقاد وإعلام ومديرين وقائمين على المعارض والمتاحف والمزادات.