لولوة المنصوري
بوعي كان ذلك الاختيار أو دون وعي، أنكتب النهاية لنتكهن بمصيرنا أم لغايات أخرى؟ هل يحدث أن يتطابق مصير النص تمام التطابق مع مصير الكاتب؟ وهل التطابق تام عن قصد أم عن مصادفة؟ من يملك طاقة وضع ممر لنهاية خاصة به، نهاية أحبها، أو حذِر منها؟ موضوع إشكالي منبثق من الإحساس بأن بعضنا يسجل صورة لنهايته دون أن يدري، سواء داخل قصيدة أو بين ثنايا فصل من الرواية، وبعضنا يخلق صورة لموت بطل تمناها لنفسه، فتحدث له بصورة موازية ومماثلة للتفاصيل تماماً.
إن ذاتنا المتوارية في الظلام والمشغولة بنهاية معينة دون سواها، غالباً ما نسقطها على شخوص حكاية ما أو بين مسارات قصيدة، عبر نظم حزين تنثال من جداوله المنسيّة تنبؤات النهاية المحتّمة، فصول سردية ومقاطع شعرية ننفث الحياة فيها ونحركها في مآويها وفضاءاتها وحلبات الوجود الورقيّ، نرسم منحنيات تلكم الكائنات وتعرضها لضربات القدر القاسية أو طوالع السعادة والاستبشار، وبشعور الإيمان بوجودها الحقيقي في هيئة الكيان المتمازج، تلتبسنا مع الزمن وتصير هي نحن، وقد كنا نظن أنها لا تحسّنا ولا تحيط بنا، لكنها في الواقع وكما يقول الروائي المغربي بنسالم حِمّيش عن شخوصه: (لا شيء يمنعها من أن تسأل عني وتتمنى لقائي قصد قضاء أغراض وحاجات، أما أن تخرج يوماً عن تدبيري، أنا الرّاوي، شاهرة عليّ شكواها وعصيانها، وربما عِصيها وأسلحة بيضاء أو رصاصية، وهذا أوغلُ منه ولو حدث لكان من صميم المعجزات). الراوي والمتجردة، ص: 13، إن الحدث الذي تركه حِميش احتمالاً مفتوحاً على تأويل القارئ، قد يكون في الخروج الأقصى والأبعد لشخوصنا عن تدابيرنا وطوعنا، وبالتالي استلاب أرواحنا واستيطان أعماقنا إلى درجة تحريك مسار السرد حسب هواها، متمثلة بالوحيّ الذي ينجز إيحاءه بطريقة مثلى للبطل، للراوي، للمؤلف، وهكذا قد يحدث في لحظات الالتحام مع النهاية المتوقعة، أن نسقط موت البطل لا شعورياً على موتنا، أو قد يحدث العكس وفق معاناة اللحمة والاتحاد في النص.
لوحة النهاية
جسّد هذه الفكرة كتّاب كُثر في تاريخ الأدب العالمي، وبوضوح كبير ومُحيّر كانت الكاتبة البريطانية فرجيينا وولف أعمق من جسّد لوحة النهاية، حين كتبت تفاصيل موتها/ موت البطلة، في مشهدين من روايتين، أحدهما (جيوب مثقلة بالحجارة) والتي بدا من العتبة الأولى (العنوان) تلخيصاً دقيقاً لما قامت به فرجيينا لطريقة موتها، بعد أن ملأت جيوب معطفها بالحجارة ودخلت عميقاً في نهر أوز، لتغرق منتحرة في مشهد عنيف على الذات، انتُزعت فيه الرّوح انتزاعاً مرعباً، إذ أن أكثر أشكال الموت ألماً هو امتلاء الجوف البشري بالماء إلى حد التورّم والانتفاخ وانفجار الخلايا، وكأنها رضيت بابتلاع ماء الكون الأول والعودة إلى الأصل الهيليوي القديم، وبعيداً عن الشكل الأسطوري الذي أضفته فرجيينا وولف على نهايتها، فإن في موتها تجسيد لمشهد شعري من مشاهد الانتحار النهريّ، لوحة تراجيدية وجودية رغم قساوة الطريقة، وكأننا أمام لوحة لا ندري هوية المنتحر فيها، أهي التي انتحرت في النهر، أم النهر الذي انتحر فيها؟ وقد صرحت فرجيينا بقوة رغبتها في مجابهة الموت من خلال شخوص روايتها (الأمواج) قائلة في إحدى المشاهد:
«سأقذف نفسي أمامك، غير مقهورة أيها الموت، ولن أستسلم».
أما الشاعر والمسرحي الإسباني فديدريكو جارسيا لوركا، في قصيدته (الموت الأسود) كأنما تنبأ بموته واغتياله وببقاء السبب وراء فنائه غامضاً وعجيباً، إذ لا أثر عليه حتى الآن إلا في قصائده، ولعل غياب أثره الجسدي دلالة على انتشاره في الأبدية، ذوبانه في الذرّات، اندماجه في كل رعشة أثيرية، اختصاره لرحلة الطيّف والألوان واللمعان، وكأنه اختار أن يُدفن في الهواء، طليقاً، ليعيش كشبح، وتحتضنه قصيدة بعيدة، لن يكتبها أبداً.
عبّر عن ذلك الخفاء الموتيّ في قصيدته (نبوءة موتي):
«عرفتُ أني قتيل، فتشوا المقاهي والمقابر والكنائس فتحوا البراميل والخزائن سرقوا ثلاثة هياكل عظيمة لينتزعوا أسنانها الذهبية ولم يعثروا عليّ نعم، لم يعثروا عليّ».
المذيعة والشاعرة المصرية سلوى حجازي قبل حادثة موتها يقال إنها كرهت فجأة الأضواء والشهرة وبدأت تنمو لديها هواجس غامضة عن الموت، بأن ثمة نهاية مأساوية تنتظرها وهي في زهرة العمر، سيأتي ملاك الموت ليقتلع جذور عمرها دون شفقة، فعبرت عن ذلك بقصيدة كتبتها باللغة الفرنسية: «عندما أتخيل مستقبلي أراه حافلاً بسوء الطالع، فأبكي عليه مقدّماً، إني أرى الموت قريباً جداً، ومن ورائه كارثة كبيرة، فأحبائي لا يزالون صغاراً، أصغر من أن يستطيعوا العيش وحيدين» (1)
وفي 21 من فبراير 1973 حدث ما تنبأت به سلوى وفق الحادثة الشهيرة بـ (طائرة الخطوط الجوية العربية الليبية الرحلة رقم 114)، والتي قصفتها طائرات الفانتوم الإسرائيلية بعد أن رفض الطيار الانصياع لهم وهم يطيرون بجانبه فسقطت فوق سيناء المحتلة آنذاك.
سيلفيا بلاث، اختارت أن تموت في الغاز، أن تعبئ رئتيها بهواء فاسد، وكأنها أرادت إخبارنا بأن لا فرق بين هواء العالم الفاسد وهواء الغاز، يكمن في كليهما مركز الغاز السام، مهما اختلقنا التبريرات لتبرئة المجتمعات، إن المرأة أو الأمهات على الوجه الأخص منذ الخليقة الأولى وهي تتنفّس الغاز الذي تنفثه القرارات المتعسفة المتذرّعة بالدين والعادات، تقف على الجمرة الملتهبة ولا يعبأ أحد باحتراق قدميها التي كان من المفترض واللائق أن تجري الجنة من تحتها.
الموت الذي اختارته سيلفيا كان كابوسياً مؤلماً بمعنى الكلمة، إن للمرأة أطفالا ينامون داخل براءة أحلامهم في الغرفة المجاورة المحكمة الإغلاق، بينما هي مستمرة في استنشاق غاز الفرن في المطبخ إلى حد الموت، يا إلهي..
ما أقسى موت الأم بهذه الطريقة!
عكست سيلفيا نهايتها المأساوية المؤلمة في قصائدها قبل الأوان، فكانت جل قصائدها أشبه بأشباح تأتي من الماضي لتحرّض بلاث على تعجيل الموت، كان الحديث عن الانتحار هو ذروة شعرها، وإن تعاملت مع الموت باعتباره فنّاً ككل شيء.
اعتبرت سيلفيا بلاث من أوائل الشاعرات اللواتي تنبأن بمولد النسوية، وقد أشارت في إحدى قصصها التي كانت بعنوان (صندوق التمنّي)، إلى أزمة تأكيد الهوية والصعوبات التي تواجه المرأة الخلاقة التي لا تستطيع أن تحلم أحلاماً كبيرة وهي سجينة عالم ذكوري يحرر الرجال ويكبّل النساء ويفرض على أحلامهن قيوداً صارمة.
لقد عانت سيلفيا منذ نشأتها لفقدان الأمان والإحساس بالسلام على هذه الأرض، نجدها هنا تخاطب الأب الغائب الذي لم تعرفه كثيراً مذ كانت في الثامنة من عمرها، والذي استحال إلى شبح موت خانق، فكتبت فيه: كأنك لم تكن يوماً كأني جئتُ إلى هذا العالم من رحم أمي وحدها سريرها الواسع ارتدى ثوب القداسة مُتّ كأيّ رجل فكيف لي أن أشيخ الآن؟ أنا شبح انتحار شائن كان حبي هو الذي قاد كلينا إلى الموت وأشد الآلام التي عانتها سيلفيا هو حبها لرجل خائن اختارت بعده أن تضع حداً لمعاناتها الطويلة، فحفرت لنفسها قبراً في السماء، وكان الغاز هو جسر العبور إليه، وحدث أخيراً ما أرادت حين لمست ذلك السكون الذي لا يعود منه أحد: «يشبهني أكثر أن أستلقي وأخوض مع السماء محادثة مفتوحة سأكون مفيدة في نومي النهائي عندئذ قد تلمسني الأشجار مرة وتجد الأزهار بعض الوقت لي».
القلق الأمومي
ما ميّز المتنبئات بالموت شعراً هو حالة القلق الأمومي الذي يسبق الموت، القلق على ترك كائنات ممزوجة من دم النبات البريء وضوء الملاك؟ كيف ستتعلم أن تكبر دون حماية وحضن يكفل لها الطمأنينة والأمان؟ لعل الفقد الأمومي والشوق لحضن الطفل والقلق من الوضع الاجتماعي المسيّس بأحكام تدينية مزعومة هو أكثر ما ترك الشاعرة الإيرانية فروغ فرخزاد فريسة تشاؤمها الباذخ الذي بلل سحرية أجوائها الشعرية، وتنبّأت من خلاله بموتها المبكّر، تاركة قصيدة لابنها الذي علمت أنها لن تتمكن من احتضانه وإعادته إلى كنفها مجدداً:
هذه آخر التنويمات على مهدك، لعلّ الصوت المتوحّش لصرختي صدى في سماء شبابك.
ليكنْ ظلي التائه منفصلاً وبعيداً عن ظلك وإذا، يوماً ما، التقينا ثانيةً، فلن يفصل ما بيننا إلا الله.
أعلمُ أن صراعي لم يكن سهلاً أمام هؤلاء الزهّاد الأتقياء الكذبة إن مدينتي ومدينتك، أيْ طفلي الحلو، كانت على الدوام عشًا للشيطان.
سيجيء يوم ترتعش فيه عيناك بحزن أمام هذه الأغنية الموجعة ستفتش عني في كلماتي قائلاً لنفسك:
هذه كانت أمي.
تولستوي وآنا كارنينا
ما معنى أن يموت ليو في محطة قطار؟ في الطريق الفاصل ما بين البقاء والرحيل؟ المكان نفسه الذي قاد إليه آنا كارنينا لتلقى حتفها الفظيع على سكة الحديد هناك في الرواية؟ ما معنى أن يهرب كلاهما من التعسف الأرثوذكسي الديني وتعاليم الكنيسة، لتكون المحطة هي دلالة الرّفض والهروب ورغبة التحول، مع اختلاف مسببات النهاية وحوافز الموت عند كليهما؟ وأحسب أن تولستوي قد احتار ملياً قبل اختيار تلك النقطة النهائية التي يضع عندها حدّاً حاسماً لسردية حياته، رأى شبح آنا كارنينا يبرز له في المحطة ويغويه بالانتحار، غير أن دقات قلبه الأخيرة كانت أسرع من نداء طيف الرواية، قد اختارت له موتاً شهماً ومريحاً يليق بمشوار كاتب روسي عظيم.
***
يبدو أننا نجذب ما ننغمس فيه من نصوص قدرية ومصائر متخيلة، نجذب أقدار أبطالنا، محببة كانت أم مخيفة، فما نخاف منه نجذبه إلينا أيضاً، غير أنه بإمكاننا تغيير نهاياتنا بالاستغراق داخل النهاية المطلوبة، والكتابة هي أكثر أشكال الاستغراق والجذب، ومن السخرية أن يتمكن الجميع من فرض نهاية يحبها، إن هذه المنظومة لا تقوم لها قائمة إلا لمن تحقق لديه الامتزاج والذوبان في جداول النص، أي أنها أشبه بالكتابة الحلمية في زمن الحلم، الكتابة من داخل الحلم، غير أن الفارق أنك قد تدرك في الحلم أنك لا زلت تحلم، بينما الغرق في الكتابة لا يتيح لك فرصة الإدراك بشكل موتك القادم الذي بدأت بالكتابة عنه دون أن تعي ذلك، دون أن تفهم الإشارة، أو تنتبه بأنك ترسم مساراً لموتك.