د. أم الزين بن شيخة
لا تزال قضيّة المرأة اليوم، بعد قرن ونيف من النضالات النسويّة، موضع جدل فكريّ واجتماعي وسياسي، وذلك على الرغم من إقرار أهمّ الدساتير الدولية لمبدأ المساواة بينها وبين الرجل في كل الحقوق والواجبات.
ولا تزال الحركات النسويّة في حالة تدفّق باهر، حيث وصلنا اليوم إلى ما يسمى بالموجة الرابعة في تاريخ النسويّة الحديثة، والتي انطلقت منذ الثورة الفرنسية، ووقّعت بيانها الفكري الحاسم مع كتاب «الجنس الثاني» لسيمون دي بوفوار(1949)، وانتهت اليوم إلى ما يسمى بنسوية الهاشتاغ منذ حركة «أنا أيضاً». ولقد أثارت هذه الحركة النسوية الجديدة جدلاً فكريّاً حادّاً بين النسويات في أوروبا وأمريكا، بين من ترى فيها «ثورة جنسية»، ومن تكتب عنها تحت عنوان «إرهاب نسوي جديد»، إضافةً إلى ذلك ثمّة من الفيلسوفات من يعارض هذه الحركة النسوية الجديدة بتهمة كونها حركة نخبوية برجوازية إقصائية لا تتوجّه إلى كل النساء، وهو ما تصرّح به الفيلسوفة النسوية الأميركية نانسي فرايزر، التي تقترح ضرورة تحرير النسوية من أسئلة الجندر والجنس، من أجل الاهتمام بمشاكل أكثر راهنية من قبيل اللاعدالة واللامساواة، التي تعاني منها النساء اليوم سياسياً واجتماعياً.
ستتوزّع خطة هذا المقال على ثلاث مراحل:
أوّلاً: تنزيل حركة «أنا أيضاً» ضمن الحراك النسوي العام.
ثانياً: التعريف بهذه الحركة بوصفها «ثورة جنسية» جديدة.
وثالثاً: رسم حدود هذه الحركة بوصفها ضرباً من «المعتقد النسوي»، الذي يؤدي إلى رسم هوّة جنسية مفزعة بين الرجل كما لو كان «وحشاً» والمرأة بوصفها «ضحية»
(1) موجات نسويّة:
ثمّة طرق عديدة لتأريخ نضالات النساء، من أجل المساواة مع الرجال، أو من أجل التحرر من الهيمنة الذكوريّة، أو من أجل تحرير النساء والرجال من النظام الاستعماري الإمبريالي القائم على هيمنة الرجل الأبيض على الأرض والنساء والدول الضعيفة، أو من أجل تحرير حقل الجنسانية باقتراح مقاربات مغايرة للغيرية الجنسية.
وفي الحقيقة، بوسعنا أيضاً إحصاء نسويات عديدة: النسوية الليبيرالية والنسوية الاشتراكية والنسوية الراديكالية ونسوية السود، والإيكولوجيا النسوية، والنسوية ما بعد الاستعمارية.. أو بالتمييز بين نسوية مساواتية نظّرت لها سيمون دي بوفوار، التي تعتبر «أنّ المرأة رجل كالآخرين»، ونسوية اختلافية تنظّر لها لوس ايريغاري.. ونسوية الجندر والأقليات الجنسية وتخريب الهوية ليوديث باتلار منذ كتابها «اضطراب في الجندر» بتاريخ 1990... ونسوية جديدة تجد في كتاب بربرا بولا بتاريخ 2019 عنوانها النموذجي.
لقد انطلقت الحركات النسوية منذ القرن التاسع عشر، وتحديداً منذ الثورة الصناعية بمطالبة النساء بالحق في الاقتراع، وهي حركة وقعت تسميتها بالموجة النسوية الأولى انطلقت منذ 1850 إلى 1945، وقادتها نسوية برجوازية، وقعت محاربتها بشدّة من طرف نسوية اشتراكية عمّالية أدّت إلى «يوم التضامن العالمي بين النساء البروليتاريات» بتاريخ 8 مارس 1910، والذي صار يعرف باليوم العالمي للمرأة.
ولقد وجدت هذه الحركة النسوية الأولى في كتاب جون ستيوارت ميل، بعنوان «في إخضاع النساء» (1869) انطلاقتها الفكرية الأولى، وفي نصّ روزا لكسمبورغ بعنوان «الاقتراع النسائي والنضال الطبقي» (1912) تعبيرته النضالية الثانية.
أمّا الموجة النسوية الثانية، فقد ظهرت بعد الحرب العالمية الثانية مع غزو النساء لسوق الشغل ودخولهن الجامعات، وقد تميّزت هذه الفترة باكتشاف المرأة لنفسها وبنضالها ضدّ الهيمنة الذكورية التي شخّصها جيّداً كتاب بيار بورديو تحت عنوان «الهيمنة الذكورية» (2002). ممّا أدّى إلى ظهور نسوية راديكالية بعد أحداث مايو 1968 بفرنسا، ولقد تعززت هذه الموجة بين 1960 و1970 وقامت خاصة على المطالبة بقيم جديدة في العلاقة بين الجنسين، وذلك ضد النزعة البطريركية، أمّا الموجة الثالثة فيؤرّخ لها انطلاقاً من 1980 وظهرت بالولايات المتحدة الأميركية، وانطلقت من حركة الأقليات من بينهن النساء السود.
(2) حركة «أنا أيضاً»:
هنا نتوقف عند الموجة النسوية الرابعة، التي تتنزّل ضمنها حركة «أنا أيضاً»، فهي حركة يجري التأريخ لها خاصة منذ 2012 وتتلازم مع تقدّم استعمال وسائل التواصل الرقمية، وهي نسويّة تطالب بالعدالة للنساء في خصوص مسألة التحرّش الجنسي والعنف ضدّ المرأة، ويعدّ فيسبوك وتويتر وانستغرام ويوتوب إذن وسائل ومجالات نضال هذه النسوية الافتراضية ضدّ كراهية النساء، وأشكال العنف الجنسي في المؤسسات الجامعية، ولقد مثّلت واقعة الاغتصاب الجماعي في نيودلهي بتاريخ 2012 وقتل ايسلا فيستا 2014، وأخيراً واقعة هارفي ونشتاين 2017 من أهمّ الأحداث التي ناضلت ضدّها هذه النسوية الرقمية.
في هذا السياق النسوي الرقمي، تتنزّل نسوية الهاشتاغ التي يؤرّخ لها أيضاً منذ تأسيس تويتر أي سنة 2006، والذي أدى إلى ديمقراطية القضايا النسوية، وظهور نسويات مراهقات وشابات في فئة عمرية تتراوح بين 18 و29 سنة، وأنتجت هذه الموجة النسوية أيديولوجيا نسوية حول التحرش الجنسي، والتمييز في العمل، والتمثيل القائم على التمييز الجنسي لصورة المرأة في وسائل الإعلام، وكراهية النساء.. أمّا عن حركة «أنا أيضاً» فقد ظهرت تحديداً في شهر أكتوبر 2017 بعد هاشتاغ دوّنته الممثلة السينيمائية الأميركية أليسا ميلانو، التي تعرضت إلى تحرش جنسي من طرف هارفي ونشتاين المنتج السينيمائي الأميركي، الذي اتهمته قرابة عشر نساء بالتحرش الجنسي، ولقد تم طردهن من شركته بعد ذلك.
وغيّرت هذه الحركة النسوية من المشهد النسوي بعامة، بحيث فسحت المجال أمام المرأة ضحية التحرش الجنسي كي تقصّ ما حدث معها على وسائل التواصل الاجتماعي، وتذهب الباحثة النسوية الفرنسية فلورنس روشفولت إلى أنّ أهمية هذه الموجة تكمن في «أنّها قد حرّرت كلمة النساء على مستوى عالمي»، بحيث إنّ كلمة النساء لم تكن تُسمع إلاّ بين النساء، في نوع من تحريم الحديث فيما يحدث من جرائم جنسية.
(3) حدود نسوية الهاشتاغ:
تذهب العديد من النسويات اليوم إلى التعبير عن حدود هذه النسوية الجديدة القائمة على نسوية رقمية تتخذ من الحقل الافتراضي مجالاً لها.
ويمكن تجميع أهمّ الاعتراضات على هذه النسوية في النقاط التالية:
- اقتصارها على وسائل التواصل الافتراضية تجعل من هذه الموجة النسوية محدودة وحكراً على الفئات المالكة لوسائل التواصل الرقمي، ممّا يجعل منها نسوية إقصائية برجوازية لا تخاطب جميع النساء في العالم.
- إنّ هذه النسوية تقف في مستوى مفهوم محدود للنضال النسوي هو نضال افتراضي على تويتر أو فيسبوك أو انستغرام، دون القدرة على النضالات الحقيقية على أرض الواقع، وهي بهذا المعنى نسوية كسولة نرجسية وفردانية تقف في حدود الكلام عن تجارب فردية في التحرش أو العنف الجنسي.
- إنّ هذه النسوية الجديدة قد خلقت مناخاً تنافسياً وعدائياً بين الرجال والنساء، بدعم الهوّة الجنسية بين المرأة في صورة الضحية، والرجل في صورة الوحش المفترس.
ومن أجل تفصيل هذه الاعتراضات، نتوقف عند ثلاثة مواقف نسوية نموذجية، بيّنت حدود هذه النسوية الرقمية، بوصفها أوّلاً «أشبه بالمعتقد»، وبوصفها ثانياً قد «تؤدي إلى حرب بين الجنسين»، وبما هي ثالثاً حركة نخبوية تسقط من اعتبارها أهمّ معركة نسوية، وهي مسألة العدالة والاعتراف في مجال الحياة السياسية والعمومية.
تقول الصحفية والفيلسوفة الفرنسية بيغي ساستر: «إنّ حركة «أنا أيضاً» قد وقع احتكارها من طرف نسوية أشبه بالمعتقد»، وهي بذلك تعتبر هذه الحركة ضرباً من الضجّة الإعلامية، كما لو كنّا «نخترع حدثاً من أجل بيع الورق»، لكن الأمر لا يتعلق هنا بحدث تاريخي أو أنثروبولوجي، بل هو حدث رقمي اتّصالي غير ممكن الظهور إلاّ على مساحة رقمية تحوّل المرأة من مقام الكرامة، أي الدفاع عن كرامتها، إلى مقام الضحيّة كما لو كانت قاصراً.
وهذه النسوية تصفها ساستر بكونها أيديولوجيا شمولية قائمة على نزعة هووية، تختزل العالم في صراع عدائي ومغلق بين المضطهِدين والمضطهدين، وتحتجّ ساستر في هذا السياق على إمكانية تقنين الحياة الحميمة، وتحويلها إلى موضوعة قضائية وقانونية، وبالإضافة إلى ذلك، يتعلّق الأمر في هذه النسوية الجنسية، بما تسمّيه حرفياً «ديكتاتورية أقلية نفسية» أي المرأة بما هي ضحية للعنف الجنسي، على الأغلبية.
وتقرّ بأنّ «مسألة العنف الجنسي ليست مسألة علاقة بين النساء والرجال، بل هي مسألة حضارية ينبغي مقاربتها عبر المنظومة القضائية»، وهي تقترح بذلك نسوية معتدلة ضد النسوية الراديكالية، أي نسوية الدفاع عن العلاقات السلمية بين الجنسين وعلى المساواة في الحقوق والواجبات.
وتقول: «أنا أدافع عن الحرية والحقيقة»، لكن هل يمكن اعتبار نسوية «أنا أيضاً» ثورة جنسية، أو هي نزعة شمولية في معنى أيديولوجيا نسوية؟ ذاك هو الجدال الذي دار بين نسويتين فرنسيتين، أي بين فيلسوفة هي بينيريس لوفيت، ومؤرخة هي لور مورالنت.
وفي هذا الحوار، نشهد على جدال فكري واشتباك حقيقي حول نسوية الهاشتاغ، التي وجدت في حركة «أنا أيضاً» انطلاقتها الأولى، وهو حوار منشور على الإنترنت بتاريخ 6 أكتوبر 2018، تحت عنوان مثير هو التالي «أنا أيضاً: ثورة جنسية أو نزعة شمولية جديدة؟»، ويبدو أنّ لور مورالنت تدافع عن هذه الحركة، وتعتبرها مناسبة هامّة لاختراع مجال نقاش ديمقراطي حول الحياة الجنسية، وما يحدث للنساء من تحرّش وعنف لم نزل غير مجهّزين للإنصات اليه بما يكفي.
وأنّ هذه الحركة «أنا أيضاً» منحتنا أيضاً فرصة ثقافية غير مسبوقة للتعبير عن المسكوت عنه، ولكسر التابوهات والمحرّمات وأشكال الاضطهاد التي حكم عليها بالصمت والقمع في ذاكرة النساء التاريخية.
وهنا علينا إذن أن ننتبه إلى أمر أساسي: هو أنّه «حينما يحصل لدينا الوعي بأنّ ثمّة مشكلة ما لن يكون في وسعنا بعدها الدفاع عن النظام الذي أنتجها»، ومفاد ذلك أنّ ما تنبّهنا إليه «حركة أنا أيضاً» هو: أنّه ثمّة مشكلة حقيقية في العلاقات بين الرجال والنساء ينبغي الإنصات إليها وفهمها بدلاً من قمعها، وبالتالي أنّ كلّ أشكال العنف ضدّ النساء مشكلة حضارية لم يعد بوسع الإنسانية السكوت عنها، وتلك هي مشروعية نسوية «أنا أيضاً» لكن لا ينبغي أن تتحوّل هذه النسوية إلى حرب بين الجنسين، ولا ينبغي أيضاً أن نحوّل الرجال إلى المذنبين الوحيدين.
وتكتب لورا مورالنت في هذا السياق ما يلي: «لا أعتقد أنّ الرجال مسكونون بدوافع جنسية خاصة، غير أنّ المجتمع قد وقع تصميمه على نحو يقع فيه التشجيع على شكل من الهيمنة الذكورية». هكذا تحرّر لورا مورالنت مسألة الحياة بين النساء والرجال من العلاقة العدائية بين الجنسين التي قد تؤدي إليها نسوية «أنا أيضاً» التي تؤثّم الذكور دوماً، وتحوّل النساء إلى ضحايا قاصرات.
وبالنسبة إلى لورا مورالنت، يتعلّق الأمر بضرب من الثورة الجنسية الممكنة بشرط أن نكفّ عن اتّهام الرجال، وأن ننخرط في مسار فهم معمّق للأسباب الحقيقية لكلّ أشكال العنف بين النساء والرجال.
وإنّ أهمّ ما يمكن القيام به تحت راية نسوية «أنا أيضاً»، هو تحويل هذا المشكل إلى مجال للنقاش الديمقراطي الذي تمنحه لنا وسائل الثورة الرقمية.
أمّا الفيلسوفة والكاتبة بيرينيس لوفات، فهي تعترض بشدّة على هذه الحركة النسوية الجديدة، وتعتبرها قد حوّلت مشهد العلاقات بين الرجال والنساء إلى «مشهد كابوسي» بتحويلها الرجال إلى وحوش مفترسة والنساء إلى ضحايا وفريسات، وهي بذلك تقرّ بأنّ هذه الحركة قد أدّت إلى «حرب بين الجنسين» وقع فيها شيطنة الذكور، وأكثر من ذلك تعتبر هذه النسوية الفرنسية بيرينيس لوفات أنّ «الرجال تم خلعهم من فوق عروشهم في كلّ مكان»، وفي المقابل لا تزال النساء دوماً في وضع من التشيئة، بوصفهن موضوعات للتحرّش وللعنف ولكلّ أشكال الاضطهاد الأخرى.
وللخروج من هذا المأزق الحضاري المزعج، ترى هذه الفيلسوفة بأنّ المسألة ليست مسألة قوانين كما تعتقد لورا مورالنت، بل هي مسألة تربية وهي تكتب في هذا السياق وضدّ الهيمنة الذكورية ما يلي: «ليس ثمّة من حلّ غير إعادة تربية الرجال على التحرّر من ذكورتهم»، وما نغنمه من هذه القراءة هو أنّه ينبغي علينا التمسّك بنموذج مغاير للتربية الجنسية يقع فيه تربية الرجال والنساء على قيم المسؤولية.
أمّا أوجيني باستيي النسوية الفرنسية، فقد كتبت تعارض بشكل حادّ نسوية «أنا أيضاً» كتاباً صادماً: «إرهاب أم ثورة مضادّة»، وفي هذا الكتاب المثير تعتبر هذه الكاتبة أنّنا قد «ضيّعنا البوصلة، وأنّ حركة «أنا أيضاً» قد تتحوّل إلى «إعلان حرب ضدّ الرجال». وهي تعتقد بأنّ «الرجال يخافون اليوم من أن يوجدوا لوحدهم مع النساء، إنّهم يرتابون من أن يقع اتّهامهم،
إنّ الخوف قد غيّر من مواقعه، والنتيجة إذن أنّ هذه النسوية الجديدة تحت راية «أنا أيضاً»، إنّما أسّست لمناخ من الكراهية والريبة بين الجنسين»، وذلك لأنّها تتّخذ من اتهام الرجل موضوعاً دائماً لها، ومن تبرئة النساء غاية قصوى، وبأيّ ثمن، وفي أيّ سياق من التحرّش الجنسي، وهي بذلك قد تتحوّل إلى تصفية حسابات مع الرجال.
بالإضافة إلى أنّ «الكلام وحده لا يكفي» لمقاومة العنف الجنسي ضدّ النساء، وأنّ «الطريقة الأفضل للنضال ضد الاغتصاب أن يقع دوماً عقاب المغتصبين»، أمّا عن شكل النضال النسوي الأفضل، فهو بحسب أوجين باستيي يكمن في تنشيط قيم تقليدية من قبيل الشهامة والشرف لدى الذكور وقيمة الحياء لدى النساء، بحيث تذهب هذه النسوية الفرنسية في معارضتها للنسوية الجديدة إلى حدّ القول بأنّ العلاقات القديمة بين الرجل والمرأة كانت أفضل وهي تعوّل بذلك على علاقات سلمية قوامها شهامة الرجل وجمال المرأة الأنثوي.
أمّا نانسي فرايزر الفيلسوفة النسوية الأميركية، فهي تعترض هي الأخرى على نسوية الهاشتاغ «أنا أيضاً» وتعتبرها نسوية النخبة، ولذلك تطرح على نفسها مهمّة تحرير النسوية الجديدة من هذه الحركات النسوية النيوليبيرالية الفردانية التي تنظر إلى مشاكل النساء المضطهدات من عل.
وإنّ أهمّ ما تعترض فيه نانسي فرايزر، على هذه النسوية الجديدة هو أنّها نسوية طموحها الأقصى المساواة بين الأغنياء، بوصفها قد ولدت في حقل السينما ووسائل التواصل الاجتماعي التي لا تصل إلى الطبقات المسحوقة والمهمّشة والمفقّرة اجتماعياً واقتصادياً وسياسياً، إنّ نسوية «أنا أيضاً» إنّما هي، بحسب توصيف فرايزر، «نسوية نخبوية فردانية ترغب في السطو بثقافتها المهيمنة على كل النساء». في حين أنّها في المقابل لا تنصت إلى كلّ النساء بحيث لا يصل صوت الفلاّحة أو العاملة في بعض جنوب أو بعض ريف مهمّش إلى التويتر أو اليوتوب أو الأنستغرام، لأنّها وسائل تبقى حكراً على مالكيها من المنخرطين في رفاهة الثورة الرقمية.
وبالتالي فإنّ هذا النوع من النسوية، وبالرغم من شهرتها العالمية، إنّما تبقى حركة برجوازية مترفة غير قادرة على التوجّه إلى كلّ النساء، وهو المشروع الذي تنادي به نانسي فرايزر ضمن نموذج نضالي وفكري مغاير هو نموذج العدالة والاعتراف، وفي هذا السياق تقترح نانسي فرايزر نسوية تضمّنية أوإدماجية تلتزم بأولويات مغايرة للحركة النسوية هي ضرورة الخروج من أسئلة الجندر، من أجل الانخراط في معارك اللاعدالة واللامساواة الاجتماعية والسياسية التي تعيشها النساء اليوم.. فالمطلوب إذن من النسوية المناضلة اليوم هو الخروج بالنسوية من مشاكل الجندر والجنسانية، والدفع بها نحو معارك أوسع من قبيل التمييز العنصري وكل أشكال الإقصاء الأخرى.. والمعركة الإيكولوجية ومناهضة الاستعمار والامبريالية، من أجل نسوية تقاطعية مضادّة للرأسمالية. وهنا تنبّهنا فرايزر إلى أنّ الحركة النسوية، إنّما هي حركة مناضلة من بين حركات أخرى ينبغي عليها أن تنفتح على تحالفات مع كل أشكال النضال، من أجل تغيير الواقع وتحرير المضطهدين في كل مكان بصرف النظر عن جنسهم وعرقهم وديانتهم.