السبت 23 نوفمبر 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

يحدث في تلك (القصة).. كيف تتولد الكتابة؟

يحدث في تلك (القصة).. كيف تتولد الكتابة؟
29 أغسطس 2019 02:14

لطيفة لبصير

هذا سؤال يوجهنا للبحث عن أصل الكتابة والأصل، كما يقول بعض مفكري ما بعد الحداثة، هو مجرد وهم، لأننا بمجرد أن نضع أيدينا على شيء معتبرين أنه الأصل انفلت وربطنا بعنصر آخر يقدم نفسه بوصفه أكثر تأصلاً منه، وهكذا دواليك، بحيث نجد أنفسنا إزاء ما يسمى بالجذمور rhizome أي جذور أفقية كما يقول علماء السيميائيات، ومن بينهم جيل دولوز وفيليكس جاتاري في كتابيهما «ألف صفيحة» أو «ضد أوديب» وبتعبير أكثر وضوحاً، نجد أنفسنا إزاء عقدة تؤدي إلى عقدة أخرى.
هذا التأطير النظري يحيلني على أن شخوصي ليس لها أصل محدد، فحينما أود معرفة أصولها، أجد أنها نتاج تلاقح عناصر عدة، هي التي فعلت فعلها فيها، وعليه فالعديد من الشخصيات التي أختارها وأكتب عنها، والتي تكون وليدة الصدفة، سواء الواقعية أو الاختيارية، هي أيضاً نابعة مما استقر في ذهني في مراحل سابقة.
فهذه الاختيارات على الرغم من أنها جاءت محض مصادفة، فإنها مصادفة يتحكم فيها نوع من الاضطرار أيضاً، لماذا؟ السبب هو أن الذهن والفكر يكون قد تشكل بطريقة تجعله لا ينتبه إلا للأشياء والشخوص التي تتوافق مع ميولاته ونزوعاته ويهمل الأخرى.
ولذلك فليس من باب الصدفة المطلقة أن أتحدث مثلاً عن امرأة تعاني من حالات هستيرية وتنشغل بالعديد من الأصوات التي تؤنس وحدتها في بعض الأحيان، وفي كل مرة أود الحديث عن هذا النوع من الحالات النفسية (وأغلب شخوصي يتحكم فيها نوع من القلق والسأم) أعود إلى هذا النموذج الأمثل لأستلهمه وبالتالي تتحول الصدفة إلى ضرورة.

الشخصية والأصل
ننتهي من خلال هذا التحليل إلى أن الشخصية لا يمكن أن تكون نسخة مطابقة للأصل، كما يتوهم البعض، فحين أنقل ملامح الشخصية (وهذا أيضاً نتاج تكثيف لمجموعة من العناصر ذات علاقة بالطفولة والمعرفة والتجربة والنفس البشرية بكل تحولاتها وأفعالها) أجد نفسي ملزمة أن أطعمها ببعض التوابل التي تجعل منها شخصية منتمية للأدب، ولا يهم درجة تشابهها بالشخصية التي صادفتها في الواقع والتي قد تكون هي النواة التي انطلقت منها، لأنها ببساطة أصبحت شخصية أدبية.
حين نتأمل الوجوه المكعبة لبيكاسو، فرغم غرابتها فهي تذكرنا بالوجوه العادية التي لها علاقة بالواقع، ومع ذلك نحن نراها وجوها حقيقية، رغم أنها ليست كذلك، ولذا فأنا لا يهمني كثيراً التفاصيل الواقعية الكثيرة، فهي في الخلف من السرد، بل أنقل أثر ما يحدث لأن ما يهمني بشكل كبير هو أثر الحدث وليس الحدث ذاته.

الفكرة من مجردة إلى مجسدة
سأنتقل الآن للحديث عن تشكل الشخصيات لدي من زاوية أخرى، فأحياناً الشخصية تحضر لدي في البدء بوصفها مجرد فكرة، وكمثال على ذلك فكرة الفرحة الدائمة التي تتحول مع الوقت إلى شعور مقلق، فقد كانت هذه الفكرة بالنسبة إلي مجرد فكرة مجردة، ولم أكن قد حسمت في نوعية الشخصية، ولتجسيدها اخترت أنثى وجعلتها تتبسم بشكل دائم بحيث صار هذا التبسم لعنة وداء يستدعيان العلاج، وبذلك تحولت الفكرة إلى كائن من لحم ودم:
«أبي يودع هذا العالم، وأنا أضع يدي على فمي لأخفي البسمة.
عبثاً حاولت أن أستحضر كل مآسي العالم كي ينكمش وجهي، لكنه كان منوعاً.
حتى وأبي يغادر المنزل إلى الرقدة الأخيرة، كان وجهي يبتسم وكأنه يزغرد من الفرح اللعين، وكنت أشعر بأن الآخرين يلعنونني في سرهم» ص 116، قصة «تبسم» عن «يحدث في تلك الغرفة». وهذه الفكرة هي واقعياً غير موجودة، لكنها كفكرة قد ترد في الذهن في شكل سؤال: لم لا نكون سعداء طوال أيامنا؟ وهل السعادة إذا تجاوزت حدها تصبح مضرة؟ لذلك فإن التأويل المباشر لما أكتبه بالعودة للواقع لا يفيد كثيراً في فهم قصصي، التأويل يجب أن يكون على مستوى الفكرة، رغم تحولها إلى كائن من لحم ودم وأعصاب مشدودة ونفسية تعاني وهي تبحث لكي تعود إلى طبيعتها الأولى، وهنا يجد القارئ نفسه منسجماً مع الفكرة وأثرها على الشخصية وأثر الشخصية عليه خارج الإحالة المرجعية، لأن الإحالة هنا لا تهم بعد أن انتقلت الشخصية إلى الأدب؛ المكان الجديد الذي أصبح يضمها.
أيضاً في قصتي «شفتان» ستصاب بطلة القصة وهي طبيبة تشريح بعشق رجل ميت وترفض تشريح جثته، بل إنها ستهربها خارج المستشفى، كي يعيش معها في الثلاجة قريباً منها وهو جثة هامدة، لكنها تراه يحرك فيها كل المشاعر التي ماتت منذ زمن، تقول: «حين نظرت إلى شفتيه المكتنزتين، نسيت للحظة، أن أمامي جثة.
أزلت القفازين أمام نظرات رجب الحائرة، وتركت أصابعي تتلمس شفتيه اللتين نامتا للأبد على شكل قبلة ناشئة.
الحاجبان الكثان قد برزا على شكل خط عريض مرسوم بنوع من الفوضى، والجفنان الواسعان تغطيهما أهداب كثيفة.
الأنف نافر بشموخ، وتحت الأنف ذلك الفم المرسوم بعناية فائقة وكأنه خرج من لوحة» ص 27 عن مجموعتي القصصية «يحدث في تلك الغرفة».
نحن من زاوية نظر معرفية، لا نلتقط الأشياء كما هي، نلتقطها، تسكن أدمغتنا، تمتزج بشخوص أخرى، تندمج العناصر المتكونة في بعض الأحيان من شفاه وعيون وروائح وتتفاعل مع ذواتنا، وتذوب فيها ثم تتحلل عناصر أخرى وتتلاشى، ويظل وشم ما تبقى كي يمتزج مع ميولاتنا وأهوائنا وأعطابنا أيضاً ليصل إلى أبطال آخرين عرفناهم وقرأنا عنهم، وينسجم معهم لكي يشكل أثراً آخر.

الكتابة من التجسيد إلى التجريد
وعلى العكس من ذلك فلدي شخصيات حقيقية أعمل على الاشتغال عليها فتتحول إلى أفكار مجردة، وهو ما يمكن التمثيل له بالكثير من نصوصي القصصية.
ذلك أن الشخصية في كثير من الحالات ليست بالنسبة إلي سوى مجرد ذريعة لمعالجة فكرة ما، لكنني أكون مشدودة إليها حسب هذا السرداب العميق الذي أسميه النفس البشرية العصية على الفهم والتأويل.
وهناك العديد من الأسماء والشخصيات الواقعية المعروفة التي حضرت في ذهني وحولتها إلى فكرة.
فقصة فان گوخ مثلاً التي بنيت على أساس أنها تتطرق لحياة هذا الفنان، يمكن النظر إليها بوصفها تعالج فكرة أصل الانتحار، فقد أعدت بناء القصة بصورة مغايرة وجعلتني «أنا فان جوخ» بضمير متكلم يتحدث عن نفسه وعن علاقته بالجنون والإبداع والانتحار، وظفت فكرة ترى بأن فانسون فان جوخ كان يحمل اسم أخيه الذي مات قبل ولادته وحمل هو اسمه ووزره وغيابه، بحيث إن الأم لم تكن تراه هو كشخص موجود، بل كانت ترى فيه الآخر الغائب، لذا أعدت بناء النص بصورة تجعل فان جوخ يحاول أن يوجد من خلال إعادة تشكيل كل محيطه من غرفة تتكرر في جميع إبداعاته ووجهه الذي كان ينقله مئات المرات على اللوحة، واسمه الذي كان يردده مرات عديدة، اسمي فان جوخ، وكأنما ليوجد على الأرض بصورة أخرى، وحين لم يستطع أطلق الطلقة الأخيرة من مسدسه فصار شخصاً غائباً مثل الآخر، وما زال إلى اليوم حياً، كانت الطلقة التي أحيتني كما ورد في خاتمة القصة.
تقول القصة: «أمي تبكي على قبر يحمل اسمي، وأنا وراءها أجذبها برفق كي تدرك بأنني حي، لكن يبدو أنها لا تحس بي ولا تراني» ص 12 من «يحدث في تلك الغرفة.
قصة شبح فرويد، هي الأخرى كنت قد قرأت العديد من الأعمال عن هذه الشخصية التي لطالما ألهمت حقل التحليل النفسي بتناقضاتها الكثيرة، وأثارني مؤخراً أن يصبح هو الآخر شخصية محورية في الأدب، فبدأت أقرأ ما يكتبه الروائيون عنه مثل رواية «لائحة فرويد» لغوص سمليفسكي، وهو أثارني فعلاً، خاصة وأنا من قراء هذا الشخص الغريب عن التحديد، فاستلهمت الشخصية وجعلت بطلها حاملاً لاسم قريب من فرويد ألا وهو فريد، وجعلته مؤمناً بفرويد حد النخاع، وكأنه يعيش في عصره بحيث لا يستطيع إلا أن يعيش في ماضيه، ولا يعيش سوى في غرفة مغلقة، بحيث يكره مغادرة الغرفة، لأنه يعتبر العالم الخارجي متعباً له ولشخصيته، في حين نستعيد حياته وروايته العائلية لندرك أن العديد من مواطن الخوف تكمن في تربيته المرتبكة في علاقته بالأم والأخت.
ففرويد هنا لا يحضر إلا بوصفه مساعداً لتوضيح الفكرة لا غير، بل هو نفسه يتحول إلى فكرة، والأمثلة في مجموعتي القصصية الأخيرة متعددة مثل استلهام شخصية سالفادور دالي في قصة:«لا أريد أن أنام»:
«أتذكر يوم زرت منزلها أول مرة، بدا والدها ضجراً من بوهيميتي، ربما كان يزعجه شاربي المقوس إلى الأعلى، (أنا أحب شاربي الملعون هذا وأقضي أوقاتاً طويلة أمام المرآة أقومه وأضع عليه كريمات خاصة كي يبدو ناعماً وجذاباً ومريباً، حتى أنني لم أعد أستطيع أن أظهر بدونه، أشعر كأنني عار تماماً)/‏‏ «يحدث في تلك الغرفة»، ص 38.

الكتابة بذرة
نخلص من كل ما قلناه إلى أن الشخوص بصفة عامة عندما تلج ذهن المبدع تكون أشبه بالبذرة، عندما نغرسها تتفاعل مع التربة ومع الماء والحرارة والضوء والعَتمة، لذا فهي تنمو حاملة لأثر كل هذه العناصر، وكذلك الشأن بالنسبة للكاتب يمكننا اعتباره أشبه بهذه التربة، حيث كل ما يلج ذهنه يخرج في الإبداع مختلفاً عما كان عليه في البدء !

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©