20 مايو 2012
يقال في عالم الأعمال إنه لا وجود للدمج بين طرفين، بل هناك استحواذ فقط، حيث ينتهي الأمر بسيطرة الطرف الأقوى على زمام الأمور. ويمكن إسقاط هذه الفكرة على عالم السياسة؛ فجماعات الإسلام السياسي، الذين يعتبرون اليوم القوى الأكثر تنظيماً في المنطقة، يسعون جاهدين للتحالف مع الليبراليين للمطالبة بإجراء ما يعتبرونه إصلاحات سياسيّة. وما أن ينجح الإسلاميون في تحقيق هذه المطالب حتى يسارعوا إلى استخدام نفوذهم السياسي المكتسب لبلوغ أهدافهم دون أخذ أي اعتبار لحلفائهم السابقين.
وقد شهدنا حدوث هذا السيناريو مراراً في منطقتنا؛ فقد قمت في إحدى مقالاتي السابقة بتسليط الضوء على زواج المصالح بين الإخوان المسلمين والليبراليين في مصر خلال المراحل الأولى للحركة الاحتجاجية التي تفجرت عام 2011. ومنذ ذلك الحين، انتقد المفكرون الليبراليون -بمن فيهم علاء الأسواني- جماعة الإخوان المسلمين لإهمالها الناشطين الشباب كعادتها.
وعلى مقربة من دولة الإمارات العربية المتحدة، نجد أن إسلاميي البحرين، سواء من السنة أو الشيعة، تحالفوا في بادئ الأمر مع الليبراليين للمطالبة بالإصلاحات السياسيّة. وما أن تولت هذه القوى الإسلامية زمام السلطة حتى بدأت المطالبة بتطبيق أحكام الشريعة الإسلامية، وتجلى ذلك واضحاً في عام 2011 من خلال مساعيهم لحظر الخمور في الفنادق، والصدام العلني المفتوح الذي تفجّر بين وزارة الثقافة البحرينية والنواب الإسلاميين الذين اتهموا أحد مهرجانات الوزارة بأنه يتضمن بعض الإيحاءات الجنسيّة مطالبين بإلغاء تنظيمه. كذلك، ينطوي المجتمع الكويتي الحديث على أمثلة مختلفة تبرز التعاون بين القوى الإسلامية والليبرالية في مطالبة حكوماتها بإجراء إصلاحات حقيقية تماماً كما في عام 1986، وبين عامي 1990-1989، وفي ربيع عام 1992، ولكن سرعان ما أدار الإسلاميون ظهورهم لليبراليين حال وصولهم إلى السلطة.
واليوم، يمتلك السياسيون الإسلاميون في الكويت قائمة طويلة من المطالب التي يطمحون إلى تطبيقها، بما فيها منع "سلوك الغزل" وتحريم "الملابس غير المحتشمة" ومنع المرأة الكويتية من العمل في سلك القضاء، وكأن المجتمعات لم تكن لديها في السابق تشريعات تحرص على الفضيلة وتحض عليها.
بالمقابل نجد أن قادة أحزاب الإسلام السياسي التي وصلت إلى الحكم في مصر وتونس مثلاً، يتعهدون اليوم بعدم المساس بكل ما من شأنه عرقلة تدفق السياحة إلى بلدانهم، في تراجع واضح عن مواقفهم السابقة، خاصة ما يتعلق بمنع الخمور والبكينى فى السياحة الشاطئية طالما يرون أن فيه خدمة لمصالحهم.
وكما هو حال الأمر في سائر دول المنطقة، يعتبر فرع تنظيم الإخوان المسلمين في دولة الإمارات العربية المتحدة والذين يطلقون على أنفسهم "الإصلاح" من القوى الأكثر تنظيماً؛ وهم على استعداد للتعاون مع الليبراليين أو الإماراتيين غير المنتمين إلى تيارات سياسيّة بغية تحقيق أهدافهم. ولعل أبرز المسائل التي التزم الإخوان في الإمارات بتسليط الضوء عليها هي ما أطلق عليه الصحفي الأميركي- اللبناني الراحل أنتوني شديد تسمية "الجوانب غير الملموسة"، مثل الدخول إلى أحد المراكز التجارية حيث يعتبر أي شخص هناك أجنبياً، أو التوجه إلى شواطئ تعج بالناس ممن يرتدون ملابس تعتبر في نظرهم غير محتشمة، أو المشاركة في الحفلات التي تقدم المشروبات الكحولية ضمن الفنادق الفاخرة. ولعلنا نتساءل هنا: كيف سيتعامل هؤلاء مع هذه المسائل إذا ما تسنى لهم تحقيق أهدافهم؟ ترى هل سيطالبون صراحةً بحظر الخمور للسياح كلياً أو بصورة جزئية، أو تقييد الحصول على تأشيرات سفر الأجانب أو حتى فرض قوانين صارمة تتعلق بطريقة اللباس ضمن الأماكن العامة؟ في الواقع، يعتمد الإسلاميون في سائر المنطقة عموماً -بما فيها دولة الإمارات العربية المتحدة- اتباع سياسة غامضة بخصوص رؤيتهم الجوهرية تجاه البلاد، وذلك بغية عدم تنفير المتعاطفين معهم واستقطاب مزيد من المؤيدين لهم.
ومن خلال حواري مع المثقفين والهيئات الإماراتية المختلفة، تبيّن لي أن تقدّم عجلة التنمية السياسية في دولة الإمارات العربية المتحدة بخطىً ثابتة (قد تعتبر متأنية للغاية بالنسبة للبعض) ناجم في المقام الأول عن المخاوف المتعلقة باستفادة التنظيمات السياسية الإسلاموية من هذه الفرص، ومحاولتها تطبيق أجندة خاصة بها قد تعرقل سير عجلة التنمية والتقدم الاقتصادي والاجتماعي والأكاديمي الذي أنجزته الدولة طيلة العقود الــ 4 الماضية.
وقد أخبرتني إحدى المحللات الإماراتيات غير المنتميات إلى تيارات سياسيّة كيف قررت في اللحظة الأخيرة إدراج اسمها ضمن عريضة الإصلاح السياسي التي تم إرسالها إلى صاحب السمو رئيس الدولة العام الماضي. وقد وجدت هذه المحللة اسمها مدرجاً في أعلى قائمة الموقعين رغم موافقتها على المشاركة في اللحظات الأخيرة، ولكنهم برروا لها ذلك لاحقاً بأنه كان نتيجة ترتيب الأسماء حسب التسلسل الأبجدي باللغة العربية. وقد لاحظت المحللة لجوء تنظيمات الإسلام السياسي في ممارساتهم العامة إلى وضع الأسماء غير المسيسة في صدارة قوائم تنظيماتهم السياسية، ويتمثل السبب المنطقي وراء هذه الحركات السياسية الإسلامية في إسباغ صفة التوافق الاجتماعي العام على مطالبهم. فعلى سبيل المثال، يتولى الدكتور رفيق حبيب منصب نائب رئيس حزب الحرية والعدالة التابع لحركة الإخوان المسلمين في مصر وهو مسيحي قبطي.
وأعتقد أن "تنظيم الإصلاح" المحظور في دولة الإمارات العربية المتحدة قد أهدر فرصةً ذهبية في ربيع هذا العام عندما برزت حالة التوتر بين دولة الإمارات وجماعة الإخوان المسلمين في مصر. وفي هذا السياق، قال ناصر الشيخ، رجل الأعمال الإماراتي المعروف وأحد أشهر المعلّقين على موقع "تويتر": "إن الخاسر الأكبر من وراء هذه الأحداث هو "حركة الإصلاح" الإماراتية التي نأت عن إصدار أي بيانٍ يندد بالتهديدات التي وجهها أحد المسؤولين في حركة الإخوان المسلمين إلى دولتنا، وبذلك فوتت فرصة ذهبية لإبعاد الشبهات عن نفسها". وأضاف الشيخ: (في الوقت الذي أعلن فيه أشقاؤنا الخليجيون تنديدهم بهذه التهديدات، كان صمت حركة "الإصلاح" أمراً مخجلاً). وقد تم إعادة إرسال تغريدات الشيخ مراراً من قبل متابعيه على موقع "تويتر" والتي عكست مشاعر وتوجهات المواطنين الإماراتيين الذين تعاملت شخصياً معهم.
وكما هو الحال مع بقية الدول الخليجية، يعود تاريخ ظهور "الإخوان المسلمين" في دولة الإمارات العربية المتحدة إلى فترة اضطهادهم من قبل الزعيم المصري الراحل جمال عبد الناصر خلال خمسينيات وستينيات القرن الماضي، حيث استقر عدد كبير من أعضاء الجماعة في الإمارات والسعودية والكويت وقطر. أما الموجة الثانية من حركة الإخوان، فقد قدمت من سورية إلى دولة الإمارات ومنطقة الخليج عموماً هرباً من بطش نظام الأسد الأب، ولاسيما بعد مجزرة حماة الشهيرة في عام 1982. وقد شغل هؤلاء الأفراد مناصب مختلفة في مؤسسات المجتمع الخليجي، بما فيها قطاع التعليم الذي أتاح لهم التأثير إلى حد كبير على أفراد المجتمع. ومن جهة ثانية، قام رجال الأعمال الخليجيون برد الجميل آنذاك من خلال البدء بتمويل الحركات السياسيّة الإسلامية في المنطقة وخارجها مع ازدهار ثرواتهم وتنامي روح الإصلاح الديني في ما بينهم نتيجة الاحتكاك مع القوى الإسلاميّة. ويقدر أحد المسؤولين اليوم عددهم بنحو بضع مئات، حيث ينشط العديد منهم على شبكات التواصل الاجتماعي داخل وخارج دولة الإمارات العربية المتحدة.
وبعد 18 شهراً من اندلاع الموجات الاحتجاجية في البلدان العربيّة، برهنت الأحزاب الإسلامية أنها تشكل خطراً على نفسها لأن قادتها يحسبون الأمور وفق سياسة تفتقر إلى بعد النظر. فرغم الضمانات الكثيرة التي قدمتها، حاولت هذه الأحزاب في مصر السيطرة على الكثير من المناصب السياسية، بما في ذلك رئاسة الجمهورية والحكومة ومجلسا الشعب والشورى، ولجنة صياغة الدستور. وكشفت إحدى الشخصيات الإسلامية البارزة أن رؤيتهم تطمح إلى إضفاء صبغة إسلامية خاصة بهم على مختلف جوانب الحياة وإحكام السيطرة على مؤسسات الدولة إلى حد إنشاء "هيئة صرف صحي إسلاميّة". وقد أكد مصدر خليجي مرموق أن السبب وراء قلق بلاده وحلفائها بشأن مساعدة المحتجين السوريين يعزى إلى انضمام القوى السياسية الإسلامية إلى "المجلس الوطني السوري".
ويكتنف صناع القرار في دولة الإمارات العربية المتحدة اليوم قلق حقيقي حيال محاولة أصحاب الطموح السياسي من تنظيم "الإصلاح" اغتنام صعود الأحزاب الإسلامية في الشرق الأوسط من أجل تنفيذ أجنداتهم وتحقيق مصالحهم. وأسوةً بالوضع في بلدان أخرى، يقيم الإسلاميون في دولة الإمارات تحالفات مع القوى الليبرالية التي تطالب بالإصلاح ويخططون لرسم ملامح فترة ما بعد الإصلاح التي ستشهد تهميش الليبراليين في نهاية المطاف. وقد تبيّن أن سذاجة التيارات الليبرالية جعلتها الخاسر الأكبر من تفجّر موجة الاحتجاجات والثورات في العالم العربي، والتي لم تسفر سوى عن انحسار تأثيرهم على ملامح المشهد السياسي لمرحلة ما بعد الثورة نتيجة افتقارهم إلى حسن التنظيم.
وبينما يميل الليبراليون- بمن فيهم المحامون والأكاديميون ورجال الأعمال - إلى الدفاع عن حقوق الإنسان وحرية التعبير لدى الآخرين، فإنه من غير الممكن قول الكلام ذاته عن الإسلاميين المحافظين الذين يتجلى هدفهم بصورة رئيسية في عودة المجتمعات الإسلامية عما يسمونه التشبّه بالغرب. ويتمثل التحدي الأبرز بالنسبة للسياسيين الإسلاميين في أنهم مقيدون فكرياً من حيث تفسيرهم للدين؛ فهم بحسب وصف الفيلسوف البريطاني جون ستيوارت ميلز "يدعون أن يقينهم هو اليقين المطلق"، فإن هم أرادوا اكتساب نفوذ سياسي، سيتعين عليهم -خلافاً لليبراليين- الثبات على موقفهم وعدم إبداء أي مرونة في مناقشة أفكارهم وأهدافهم التي تستند في جوهرها إلى الدين وشرع الله.
وفي المقابل، لا تخلو القوى الليبرالية الخليجية من الأخطاء أيضاً؛ فقد تم اتهامها بتوجيه دفة المسيرة الحكوميّة التي تعرضت مصداقيتها للمساءلة في كثير من الأحيان. وما من شك أن سقف الانتقادات في دول الخليج العربية منخفض إلى حد ما، فقد بقي هؤلاء الليبراليون عرضةً للانكشاف المستمر نظراً لعدم اعتمادهم معايير متكافئة تماماً في مناقشاتهم، كأن يطالبوا مثلاً بتوفير حقوق معينة في بلدان أخرى دون الالتزام بتطبيقها في بلدانهم. وقد قامت جماعات الإسلام السياسي بالانضمام إلى الحركات التي اجتاحت معظم بلدان المنطقة رغم أنها مبنية على بعض المثل الاجتماعية التي لا يتوافقون معها، إلا أن ذلك حصل تحت شعار "الغاية تبرر الوسيلة". ولطالما قام الليبراليون العرب بالدخول في زواج مصالح مع السياسيين الإسلاميين بعيداً عما يسميه الأميركيون "اتفاقات مسبقة" تحدد الخطوط العريضة حول آخر تغيرات المشهد السياسي.
وسيجد الليبراليون أنفسهم مجدداً الطرف الخاسر في المعادلة طالما أنه من غير المرجح أن يحقق الليبراليون الإماراتيون- ممن يتمتعون بحرية التفكير- مستويات مؤثرة من التنظيم الاجتماعي كما فعل السياسيون الإسلاميون الذين استغلوا الدين لتحقيق مآربهم وأهدافهم.
وإذا ما أراد الليبراليون الإماراتيون إجراء إصلاحات حقيقية ومتسارعة في دولة الإمارات العربية المتحدة، فما عليهم سوى إنهاء تحالفهم مع السياسيين الإسلاميين، والنظر بعين الوعي إلى التجارب الأخيرة في بلدان الاحتجاجات العربية والتي انتهت إلى سيطرة كاملة للإسلاميين وتهميش وتجاهل تامين لحلفاء الأمس من الليبراليين بعد أن تمكن الإسلاميون من تحقيق أهدافهم كاملة ولم يعودوا بحاجة إلى ورقة الليبراليين الذين تم استخدامهم كهدف مرحلي.
لقد أدركت من خلال لقاءاتي مع الليبراليين واليساريين المصريين على مدى الشهور الـ 6 الماضية حجم الشك والريبة حيال السياسيين الإسلاميين على كافة الأصعدة. ففي نهاية المطاف، لا يوجد هناك دمج بين الفرقاء، بل استحواذ للفريق الأقوى على زمام الأمور.
سلطان سعود القاسمي
كاتب إماراتي