في البدء كان اللوغوس هكذا كانت تردد الفلسفة اليونانية، واللوغوس كان يعني من بين ما يعنيه النظام والمبدأ المحدد لكل شيء. إنها نفس الفكرة التي تعود اليوم كي تطرح نفسها من جديد ولكن بلغة مغايرة هي لغة الفيزياء الكوانطية.
واحدة من أكبر الحقائق التي اطلعنا عليها بواسطة الاكتشافات التي قام بها علم الفلك المعاصر، هي أن الكون شاسع إلى ما لا نهاية، شاسعة لا يستطيع حتى الخيال البشري أن يحيط بها. نحن نعيش في المجموعة الشمسية، وهي عبارة عن بنية صغيرة توجد في بنية أكبر هي المجرة التي تضم حوالي 100 مليار نجم، كل نجم يدور حوله عدد من الكواكب والمجرة التي نعيش بها تسمى طريق اللبانة La voie lactée. لكن هذه ليست هي نهاية القصة ففي عشرينيات القرن الماضي وجه عالم الفلك الأميركي إدوين هابل تلسكوباً من جبل ويلسون نحو السماء، كان هذا التلسكوب هو الأكبر بمقاييس تلك الفترة لذلك استطاع أن يرى أبعد من مجرة درب اللبانة. لقد كانت المفاجأة وما زالت إلى يومنا هذا صادمة للمجتمع العلمي، فالكون لا يضم فقط هذه المجرة التي نعيش فيها، بل يضم مجرات لا تعد ولا تحصى يقدر عددها بمائة مليار مجرة. يقال في هذا السياق أن عدد الكواكب والنجوم الموجودة في الكون، هي بعدد حبات الرمل الموجودة في كل شواطئ العالم. مع ذلك الأمر لا يتوقف عند هذه الحدود لأن كل ما نرصده لا يتعدى سوى جزء ضئيل من الكون المرئي بينما معظم الكون يتكون من المادة المظلمة، والطاقة الداكنة وهي قوى جبارة لم يتمكن العلم من سبر أسرارها كفاية.
يقدم علم الفلك المعاصر الكثير من الأدلة العلمية المثبتة على أن كل هذا الكون اللامتناهي، وجد من بوتقة واحدة متناهية في الصغر بلغت درجة حرارة لا تطاق فانفجرت وأدت إلى كل المسلسل المتعلق بظهور المادة والطاقة والحياة فيما بعد. هذا لا يعني أن العلم استطاع أن يجيب عن جميع الأسئلة المقلقة للإنسان ولكنه ساعدنا على تلمس الكثير منها، بينما ما زالت أسئلة وقضايا أخرى موضوعا للتفكير والتأمل والبحث العلمي. منها مثلا أن الانفجار يؤدي إلى الفوضى، بينما هذا الانفجار الكوني عكس ذلك أدى إلى نظام متناه في الدقة. ثم ماذا كان يوجد قبل الانفجار الكبير؟ وكيف يمكن أن نفسر ظهور الحياة بصفة عامة والحياة العاقلة بصفة خاصة داخل كون تتحكم فيه قوى جبارة عمياء؟
أهمية ثورة الكم
تتيح لنا الفيزياء الكوانطية المعاصرة اليوم التفكير في كل هذه القضايا بطريقة مغايرة تماما لما اعتدنا عليه من قبل. علينا أن نعرف أن ثورة الكم التي نعيشها حاليا قد غيرت بشكل جذري فهمنا لطبيعة المادة والطاقة والعلاقة المتبادلة بينهما. ضمن باراديغم الفيزياء الكلاسيكية كانت هناك قسمة حادة بينهما، فالجسم الصلب هو عبارة عن شيء فيزيائي له خواص محددة تختلف عن الطاقة التي تتصرف بشكل مختلف تماما عنه.
إن عالم الكم هو عالم فريد من نوعه، نظرا لأن القوانين التي يقوم عليها تختلف شكلا ومضمونا عن القوانين التي تنظم الظواهر العادية، حتى أن ماكس بلانك الذي كان أول من قطع الخطوات الأولى باتجاه هذه النظرية شك في المعادلات الرياضية التي وصل إليها ووضعها جانبا. أما أينشتاين الذي كان من أوائل من ساهموا في بناء فيزياء الكم أرعبته النتائج الغريبة التي وصلت إليها المعادلات الرياضية الكمية فتحول مع الوقت إلى أكبر عدو لها.
لنأخذ مثلا فكرة الترابط أو التشابك والتي جعلت أينشتاين يبتعد عن الفيزياء الكوانطية ويقطع معها ألا وهي ظاهرة التشابك l’interaction التي تدل على وجود تأثير متبادل بين جزيئين رغم المسافة الفاصلة بينهما، بحيث إذا ما أثرنا على أحدهما يتأثر الآخر بشكل آني. لقد سبق لأينشتاين أن نعت هذه الظاهرة بالتأثير الشبحي، وهي واحدة من الظواهر الغريبة التي تقوم عليها فيزياء الكم وربما أغربها على الإطلاق. الترابط أو اللانفصال هو وجود جسيمين دخلا في احتكاك مع بعضهما ثم فصلا بعد ذلك، فلو أجرينا تأثيرا معينا على أحدهما فإن الآخر يتأثر بدوره حتى ولو كانت المسافة كبيرة بينهما. الأمر يشبه توأمين إذا حدت مكروه لأحدهما يحس به الآخر. فهل الجسيمات تشعر ببعضها البعض هي كذلك؟ لقد دفع هذا بعض الباحثين إلى القول بأطروحة الوعي، بمعنى أن هذا الأخير ليس خاصا بالإنسان بل هو ظاهرة تسري في الكون برمته. هل المادة واعية بدورها ؟ هذا شيء جديد على العلم، فالفيزياء تبدو كما لو أنها تغادر الأرض الخاصة بها: دراسة حركة المادة وقوانينها. ولكن مع ذلك فهذه هي أطروحة العديد من العلماء اليوم إنهم جميعا يؤكدون أن ثمة شيئا لا مرئي موجود في عمق الكون وهو الذي يحدد كل ما هو مرئي. سنتوقف هنا بشيء من الإيجاز على ثلاثة نماذج هي كما يلي:
الماتريكس الإلهي
لقد دفع العلم الحديث الإنسان إلى الإيمان بما يراه ولكن هل ما نراه هو وحده الموجود؟ هل الفضاء الواقعي ذو الأبعاد الثلاثة المعروفة هو الواقع الوحيد أم أن هناك أبعادا أخرى تتجاوز إدراكاتنا الحسية؟
تجيب أعمال غريغ برادن وهو عالم ومفكر أميركي ولد سنة 1954 على هذه الأسئلة مؤكدا على أن الكون برمته ما هو إلا ماتريكس إلهي، أي مصفوفة تعمل على برمجة الكون ونحن كبشر يمكننا التواصل معها. لقد كانت الفيزياء الكلاسيكية تفصل بين المادة والروح معتقدة أن ما يحدث من عواطف وأفكار داخل النفس البشرية لا يمكنه أبدا أن يؤثر على المادة، وهذا بعيد تماما عن الصواب في الفيزياء الكوانطية حسب غريغ برادن. يتميز الفضاء الخارجي الموجود في عمق الكون بميزات عديدة لم تكن لتخطر على بال الميكانيكا النيوتونية. فهو أولا فراغ ولكنه في الآن ذاته مليء بالاهتزازات الطاقية، وهو ثانيا يتصرف بطريقة ذكية وبالتالي فهو مثل كائن حي. وثالثا يمتلك القدرة على التأثير على كل الكون من المتناهي في الصغر إلى المتناهي في الكبر. ويضيف غريغ برادن أننا يمكننا أن نتواصل مع هذا الماتريكس تماما كما يفعل رهبان التيبت عن طريق التأمل والصلوات واستثارة العواطف العميقة.
الحقل الموحَّد
في نفس السياق، يذهب نسيم حارميان ـ وهو عالم فيزياء فلكية سويسري ولد سنة 1962 ـ إلى أن هناك حقلا طاقيا موحدا يوجد في عمق الكون ويشكل أساس خلق كل شيء. بهذا المعنى لم يعد بإمكاننا الحديث عن الفراغ في الكون كما كانت تعتقد الفيزياء الكلاسيكية، والتي كانت تركز في دراستها على المادة وليس الفراغ، في حين أن الكون برمته لا تشكل فيه المادة إلا جزءا ضئيلا جدا. نحن نتحدث اليوم عن «الفراغ الكوانطي» quantum vacuum وهو شيء مختلف تماما عن اللاشيء أو الخواء. هذا معناه أن هناك دائما طاقة تملأ الفضاء الخارجي وتعم أرجاء الكون، وهي المسؤولة عن خلق المادة. هناك إذن فرق بين الفراغ والخواء، وهذا هو ما سيغير تماما من نظرتنا للطبيعة فليست المادة هي التي تحدد الفضاء كما كان يعتقد فيما قبل، بل بالعكس تماما الفضاء هو الذي يحدد المادة ويمنحها وجودها.
إن أطروحة كهذه تفتح آفاقا كبيرة على المستوى التكنولوجي، يمكننا التفكير مثلا في موضوع الطاقة المتجددة واللانهائية، كما يمكننا طرح اختراعات أكثر جرأة من قبيل السفر في الكون والتحكم في طاقة الجاذبية وغيرها. غير أن الأمر يتعدى نطاق الأبحاث الفيزيائية والفلكية كي تصبح لها تطبيقات في حياتنا العملية، وهذا سواء على المستوى الروحي أو على المستوى الفلسفي. يرى نسيم حارميان أننا نعيش مرحلة انتقالية من أجل بناء حضارة جديدة يعي فيها الإنسان ذاته باعتباره جزءا مترابطا مع الكل وليس سيدا ومالكا للطبيعة كما كان يعتقد ديكارت. في نظره نحن نعيش مرحلة صعود l›ascension وارتقاء للبشرية نحو مستوى آخر من الوعي ومن العلاقة مع الطبيعة.
الحقل الأكاشيكي
الحديث عن هذا الحقل المعلوماتي العجيب والموجود في عمق الكون لم يعد خافيا على أحد. فرغم أننا لم نستطع بعد أن نفك كامل شيفرته إلا أن هناك العديد من العلماء الكوانطيين والمفكرين الذين يستثمرون نتائج الثورة الكوانطية يتفقون على هذا الأمر. فالإضافة إلى الحديث عن الحقل الموحد (نسيم هارميان) والماتريكس الإلهي (غريغ برادن) لدينا أيضا مفهوم الحقل الأكاشيكي Akashique وهي كلمة سنسكريتية في الأصل تدل على الأثير أو الفضاء الموجود داخل الكون. مع إرفين لازلو Ervin laszlo ـ فيلسوف في مجال فلسفة العلوم ولد سنة 1932 في بودابست ـ هذا الحقل هو في نفس الوقت عبارة عن طاقة ومعلومات في الآن ذاته يحيط بالشكل الهولوغرافي للكون برمته. إنه مثل نبع ينبثق منه كل شيء المادة والطاقة والمجرات والنجوم والكائنات الحية بل وحتى الوعي ذاته.
من المعروف أن الطاقات المتحكمة في الكون هي أربع. هناك أولا الجاذبية G التي اكتشفها نيوتن وأعاد تعريفها بشكل مغاير أينشتاين. ثانيا الطاقة الكهرومغناطيسية EM التي أبانت عنها لأول مرة معادلات ماكسويل قبل أن تتطور فيما بعد ذلك. ثالثا القوة النووية الضعيفة وهي المسؤولة عن اندماج الجسيمات مع بعضها بعضاً. وأخيرا هناك القوة النووية الشديدة وهي المسؤولة عن ترابط مكونات النواة داخل الدرة مع بعضها بعضاً. ولكن بالإضافة إلى هذه القوى التي باتت كلاسيكية ومعروفة جدا يبدو أن اكتشافات فيزياء الكم ما زالت تعدنا بالكثير. كان آخرها اكتشاف حقل بوزون هيغز وهو الحقل الذي يمنح الكتلة للجسيمات الصغيرة. هل بات إذن من المؤكد إضافة حقل جديد إلى القوى السابقة وهو الحقل الطاقي الكوني الذي يلعب دور خلق المادة وتزويدها بالمعلومات الكافية لتواجدها. من المؤكد بالنسبة للعالم لازلو أن الحقل الأكاشيكي هو حقل موجه للكون، بحيث يجعل كل شيء مترابطاً أما الآن فنحن بتنا قريبين من فهم ما يحدث. هناك تفاعلات وترابطات في الكون برمته مسئول عنها هذا الحقل الأكاشي بشكل شمولي Holistique بمعنى أن التأثيرات لا تشمل فقط الذرات والجزيئات الصغيرة، بل هي تشمل كل شيء بما فيه الكائنات الحية. هناك علاقة إذن بين ما يحدث في العالم الخارجي وما يحدث داخل نفوسنا.
ميلاد جديد للمعرفة
سواء تعلق الأمر بالماتريكس الإلهي أو الحقل الموحد أو الحقل الأكاشي فإن الكل يجمع اليوم على أن الطبيعة ما عاد بإمكاننا النظر إليها بتلك النظرة الميكانيكية المحدودة. فالكون مثل كائن حي مليء بالحياة، والإنسان ذاته ليس مجرد أنا مغلقة على ذاتها تستبطن وعيها الخاص كما هو الأمر عند ديكارت. إن ثورة فيزياء الكم وككل الثورات العلمية لا تمس فقط النشاط العلمي في حد ذاته، بل هي تنعكس على مجمل الفكر الإنساني وعلى رأسه التفكير الفلسفي الذي لطالما كان على علاقة تأثير وتأثر مع العلوم منذ المرحلة اليونانية. إن ما يمكن أن نسميه بـ «الفكر الكمومي» يثير اليوم تساؤلات من شأنها أن تقلب بشكل جذري منظورنا للكون والحياة. نحن نعيش ميلاد باراديغم جديد للمعرفة وللحضارة. فالمادة تتصرف بطريقة مغايرة حينما يكون هناك راصد يرقبها، والإلكترونات تتشتت في شكل موجات، لكنها بمجرد حضور المراقب تبدأ في الانتظام. إن هذا يدفعنا حتما إلى التساؤل: هل كان بإمكان الكون أن يكون موجودا من دون من يرصده؟ نحن إذن مرتبطون ارتباطا وثيقا بالكون، وكأن الحياة العاقلة هي غايته القصوى.