عزيزي إيغون شيليه
مرحباً
لقد تجاوزتك بعامين.. لعله الأمر الذي يجعل الوقع أشد.. لعله الأمر الذي قد يختصر شعور الثقل.. والذنب الخفيف الذي يطعمه.. هل نستطيع أن نتجاوز «إيغون شيليه»، دون أن ندرك كم هو الأمر فادحٌ في كل مرة، أننا نتضاءل كلما اقتربنا من العدم، ننقص، نبتر جزءاً جديداً من قناعاتنا والثوابت الاعتباطية، فيما تبقى أنت كاملاً.. شهياً في عشرينياتك الممتزجة بابتساماتك الساخرة التي يخيل لمن يتأملها أنها لعجوز احتفل للتو بعامه الأول بعد المائة، مدركاً عبثية الأمر -يا لمكر الدوائر- ليقرر بعدها أن القفز عن الحافة لن يعود كابوسه اليومي.. بل حلمه الأخير الجميل.
هل كانت الحمى كابوسك أم حلمك الحاسم؟
هل كنت أنت، وفي الوقت الذي يمزقنا ذعر التهاوي، تنساب خفيفاً كغيمة محتملة لمطر خفيف يربت الأشياء في تجانس محير.. يجعل الأشياء كلها في الأماكن جميعها في الوقت ذاته ؟
كيف أفلتَّ من الارتطام.. ؟ كيف نجوت من لعنة التفتت؟
بابتسامة خفيفة أستعيرها منك أتذكر ارتباكي
ارتباكي وأنا أحاول أن أتهجى اسمك الألماني بروح عربية
الارتباك الذي تشعب وأنا أحاول أن أدركك في ذلك اللهاث الكامن
لا وقت مستقطع
لا فكرة عابرة...
أتخليك تصرخ بالمعلم «غوستاف كليمت» في المحترف وهو يأخذ بك ناحية الخطوة الأولى
تقول:
القفز هو الحل..
كان يهندم سلسلة لوحاته الذهبية
وكنت تمرر لطخاتك الحارقة كيفما اتفق.. تدرك ضآلة الوقت وطول الرحلة
تشعر بالعجز.. بالعمى
تقف أمام المرايا وتبدأ باستنساخ نفسك
بورتريهاً بعد آخر
لعل أحدهم سيتحرك أخيراً
سيخرج من استكانته الهامدة
ليتلقى جسدك الخائر
ينوب عنك
بأن يعالج ما فاتك
يجعلك تلتقي بـ «كليمت» لاحقاً وأنتما تتشاركان خطوط الشيب ذاتها
تحدقان في الموت بقوة
وتعبران معاً.
أوه عزيزي!
في حال التقيت «بأوسكار وايلد»، أريد أن تكون من يخبره بأنني الأولى وربما الوحيدة التي لاحظت كيف أنكما تتقاطعان في الخط الساخر المرتبك ذاته، خط الابتسامة التي تبدو معكما دائما كلطخة ماكرة على الوجه، أكثر من كونها تعبيراً عن حالة.
أتخيل الآن وجه «وايلد» وهو يموت، مطلقا دعابته الأخيرة تلك.. هو يهوي في الغياب، ويشير إلى لوحة تواجهه على الحائط المتماوج في الفندق المتهالك الذي انتهى فيه منبوذا.. «هه يبدو أن أحدنا سيغيب الآن.. غالبا هي تلك اللوحة أمامي».. دعابةٌ متمردة على كل البؤس الذي صار إليه..
دعابة.. كمثل لكزة حادة يوجهها نحو خاصرة العدم، تجعله يجفل، لا ينساه.
هل كانت لك نكتتك أيضاً؟
كمثل لكمة خائرة تسددها للعدم بدورك؟!
كان «بيكيت» يحدق من النافذة ذاتها التي تنظر منها إلى العالم، لكنكما كمثل حالتين من تبدل الوقت.. تغادر الأولى لتحل محلها الأخرى.. دون أن يحق لكما التشارك في شرفة أو سيجارة أو فصل من مسرحية أو لوح رسم..
هناك فقط رائحة الفكرة التي تبقى
كأثر غامض يتركه أحدكما للآخر
تنسخ وجهك
يخلق بيكيت «غودو»
تعري ضعفك وتجسد الهزال والتفتت والعفونة
يكتب بيكيت «نهاية اللعبة»
ترسم أنت العمى
يكتب هو «الكارثة»
تبقى النظرة إياها
نظرة مرتاعة لأحد الأحصنة، في سباق لا يفهم لماذا يجب أن يخوضه حتى النهاية من أجل أن يكسب أحدهم الرهان.. رهانٌ لا يفهمه.. لا يدرك علاقته به!
تلهثان.. تنفرط الدائرة.. ينفجر المسرح.. يحترق المرسم!
عزيزي شيليه
أستنسخ بورتريهاتك
أبروز تلك النظرة، وجهك في إصراره المراهق عندما بدأت ترسم.. أبروز ذلك الروع والقلق.. وأنسخه كلمه واجهت البرواز صباحا.. أحاول أن أستعيد البعد الذي كنت تحدق بتحدٍ تجاهه.. أحاول أن أستكمل السنوات التي خسرت
وأفشل
لا شيء
فراغٌ وتعب
خوف
الكثير منه!
لا يكشف الأفق إلا عن التيه
أمد لك حيرتي
كل ما كنت أكتنزه
منها نقصا بعد آخر
لعلنا بالتجرد التام
بهذا التفكك الهائل
بكل تلك الثقوب
نرى!
شيليه العزيز
يينا تثلج في هذه اللحظة
كل شيء بارد
لعلها البرودة التي ستجمد إحراجي من سؤال
يلح ببالي منذ المرة الأولى التي تأملت فيها ضريحك المنحوت بجسدين.. إلهين.. هما جسدك أنت و«إيديث»..
كيف هي الأبدية هناك مع «إيديث».. ألا تفكر في«والي» أحيانا؟
باردٌ هو الندم أيضاً
في حال سألت نفسك عن تلك اللسعة المباغتة
التي تلبستك..
باردٌ هو الإدراك الذي يأتي مع سيرة«والي»
باردةٌ يدك التي تضعها على قلبك
باردةٌ الحسرة
وكلاكما في العدم
بعيدان.. ترتجفان..«والي» و«أنت»
ولو أنني بعد سنة أصل لما يستلزم من الجنون..
سأختار أن آتيك بشيء من ضريحها البعيد في «كرواتيا».. علكما تحلان أخيراً.. تلك الربكة الممتدة!
إيغون
كيف سأكتب عنك؟
كيف لي أن أفض تلك العزلة التي نشأت بيني وبين
العالم.. من أين لي باستطاعة ذلك الصدق الحاد
النصل الذي سيطهر الكلمة من فسادها.. من تكلفها أو الحذر؟!
شيليه.. شيليه.. شيليه..
لا شيء حقيقي، والأشياءُ كلها شديدةُ الواقعية في الوقت نفسه
هكذا.. أراك.. في المنتصف الذي لا يقبل التفسير.
محبات إلى حين أن نلتقي.
...............................
دبي 2018