19 مايو 2012
المطربة الجزائرية وردة لم تكن مجرد مطربة عادية، بل أسطورة غنائية ملأت الدنيا غناء بصوتها العذب الذي ما زال وسيظل عنواناً للحب .. صوتها الحساس وأداؤها الراقي رافق الجماهير لسنوات طوال، فمنحتهم المحبة والاحترام وقدمت ما يليق بالأذن العربية طوال مشوارها الفني الذي امتد لأكثر من نصف قرن من الغناء .. وردة رحلت وكان آخر عمل لها أغنية وطنية بعنوان “ما زال واقفين”، أنجزتها بمناسبة الذكرى الخمسين لاستقلال الجزائر.
فوجئت الجماهير العربية مساء أمس الأول الخميس بخبر رحيل وردة وأميرة الغناء العربي، إثر سكتة قلبية عن عمر يناهز الـ 73 سنة بمنزلها بالقاهرة، وفور انتشار الخبر أمر الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة بإرسال طائرة خاصة للقاهرة لنقل جثمان الراحلة ليدفن في مسقط رأسها بالجزائر، حيث ستدفن - اليوم السبت - في مقابر العالية بالعاصمة الجزائرية.
في الحي اللاتيني
ولدت وردة فتوكي في فرنسا عام 1939 في الحي اللاتيني بباريس من أم لبنانية من عائلة “يموت” وأب جزائري، والذي كان يملك فندقاً بالحي اللاتيني، وقد بدت عليها حلاوة الصوت وهى صغيرة، حيث اكتشفها الفنان أحمد التيجاني، فقدمها في الإذاعة الفرنسية الموجهة للعرب شمال أفريفيا ونجحت، وقد عاشت وردة في محيط غربي فرنسي لا يعترف باللغة العربية، وعلى الرغم من هذا كله، كانت تغني الطفلة وردة لكبار الفنانات العربيات، من بينهم أم كلثوم وأسمهان وفيروز ونور الهدى، من دون فهم معنى الكلمات الصعبة للأغاني، فكانت تؤديها حسب مشاعر الطفولة، لذا كانت تكتب الأغاني العربية بالأحرف اللاتينية، ثم تتدرب على قراءتها ودندنتها بعد سماعها مرات عدة، كما كانت تغني وردة لكبار الفنانين الفرنسيين آنذاك، من بينهم اديت فياف وشارل ازنافور، كما كانت لها القدرة الكبيرة علي التقليد والحفظ رغم صغر سنها.
وفي إحدى الليالي كانت وردة تغني للسيدة أسمهان، فسمعها ملحن سوري وأعجب بصوتها وبطريقة أدائها للأغاني الصعبة، فلما انتهت ذهب إلى والدها ليقنعه بضرورة الاهتمام بها فنياً، وطلب منه الموافقة على التعاون معه ومع ابنته، فوافق الوالد وقدمها للملحن، فكانت بدايتها الفعلية والفنية. وفي سنة 1959 سافرت وردة إلى دمشق، وهناك غنت للسوريين في نادي ضباط سوريا، وبعدها سافرت إلى بيروت، حيث انهالت عليها العقود السينمائية، حيث اتصل بها المخرج اللامع آنذاك “حلمي رفلة” والفنان عمر الشريف وطلبا منها المشاركة في فلم سينمائي، فكانت مترددة لأنها تجهل مصر ولم تكن زارتها من قبل، حيث كانت جديدة في الميدان الفني.
وفي تلك الفترة اتصل بها متعهد الحفلات وليد الحكيم وطلب منها المشاركة في الحفل السوري الكبير “أضواء دمشق” فوافقت مباشرة وغنت “أنا من الجزائر .. أنا عربية”، ونالت بهده الأغنية إعجاب الجمهور الحاضر والعرب لأنه كان منقولاً مباشرة على الإذاعات المختلفة، ونجحت على الرغم من غنائها إلى جانب الكبار، من بينهم وديع الصافي من لبنان وشادية وعبد المطلب من مصر، وبعد هذا النجاح قررت وردة التشجع وطرق أبواب مصر، وقابلت حلمي رفلة الذي عرض عليها البطولة في “ألمظ وعبده الحامولي” في عام 1960، حيث قامت فيه بدور البطولة أمام المغني عادل مأمون وقدمت في الفيلم أغنيات نالت شهرة كبيرة مثل “يا نخلتين في العلالي” و”روحي وروحك حبايب”، واشتركت أيضاً في أوبريت “وطني الأكبر” تلحين محمد عبد الوهاب، مع عدد من نجوم الغناء العربي مثل عبد الحليم وصباح وشادية، وبعد سنتين من العمر الفني للسيدة وردة وتحديداً في 1962، حيث استقلت الجزائر من الاحتلال الفرنسي، عادت وردة إلى بلدها بعد الغربة الطويلة، وفي بلدها تعرفت إلى جمال قصيري وكيل وزارة الاقتصاد الجزائري فطلب منها الزواج ودام هذا الزواج 10 سنوات، توقفت فيها عن الغناء تماماً وتفرغت لبيتها وأنجبت ولداً اسمته رياض وبنتاً اسمتها وداد والاسم العائلي هو “قصيري”. وفي عام 1972 كانت الجزائر تستعد للاحتفال بالذكرى 10 للاستقلال، فاتصل الرئيس الراحل هواري بومدين بوردة طالباً منها المشاركة في هذا الاحتفال الكبير لكنها أخبرته بعدم استطاعتها لرفض زوجها لها الغناء، لكنها قررت العودة إلى الفن والغناء بقصيدة “عدنا إليك يا جزائرنا الحبيبة” من كلمات صالح خرفي وألحان بليغ حمدي. وكانت قصيدة رائعة وبدأت انطلاقتها الثانية في عالم الفن، وتم طلاقها، لتسافر إلى القاهرة في العام نفسه لتقدم أفلاماً ناجحة شدت فيها بأشهر أغانيها، مثل فيلمي “حكايتي مع الزمان”، و”آه يا ليل يا زمن” مع رشدي أباظة و”صوت الحب” مع حسن يوسف، وفي القاهرة تلقت عروضاً فنية عدة من ملحنين كبار، من بينهم الملحن الشاب بليغ حمدي الذي أحبها حباً شديداً، فكان الزواج وبداية المجد، لتبدأ معه رحلة غنائية شهدت ذروة تألقها، حيث قدمت أفضل الأغاني الطربية العربية الأصيلة، حتى وضعها البعض في قائمة الكبار مثل أم كلثوم وفيروز. ثم تعاملت وردة مع ملحنين شباب مثل صلاح الشرنوبي في ألبوم “بتونس بيك” وألبوم “حرمت احبك” الذي نجح نجاحاً كبيراً وعادت للواجهة وللمجد بعد غياب طويل.
رائعة “أوقاتي بتحلو”
وكان ميلاد وردة الفني الحقيقي في أغنية “أوقاتي بتحلو” التي أطلقتها في عام 1979م في حفل فني مباشر من ألحان الراحل سيد مكاوي، ولهذه الأغنية قصة جميلة، حيث كانت تنوي كوكب الشرق أم كلثوم تقديمها في عام 1975 لكن الموت فاجأها لتعيش الأغنية سنوات طويلة بين يدي سيد مكاوي حتى جاء دور وردة في غنائها وقدمتها، وتعد أفضل ما غنت خلال مسيرتها الفنية. فشفافية الكلام الرقيق وروح أم كلثوم التي يشعر بها المستمع في حنايا هذا العمل الجميل كان له بالغ الأثر في نجاحها، فالكلمات كانت موغلة في الحب والصدق والرجاء المبطن.. وتعرفت إلى موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب الذي اهتم بصوتها اهتماماً كبيراً، وكان اهتمام عبدالوهاب بصوتها منحها طاقة فنية هائلة، فحضرت وسط الزخم الهائل من العمالقة في الساحة الفنية آنذاك، إلى جانب أم كلثوم وحليم وفريد الأطرش، وظلت وردة الجزائرية قريبة جداً من الملحن محمد عبد الوهاب حتى وفاته، وقد بقيت في سيارتها الخاصة تبكي وتنتحب أمام بيته لأكثر من ثلاث ساعات متواصلة، وكما جرى على غيرها من الفنانين جرى على المطربة وردة، حيث انجرفت فنياً في تيار الأغنية البسيطة بعد رحيل محمد عبدالوهاب وبليغ حمدي، وكانت آخر أعمالهم الفنية “بودعك”، وكأنها على إحساس بما تخبأ لها، وقدمت بعد ذلك مع الملحن الشاب في ذلك الوقت صلاح الشرنوبي العمل الشهير “بتونس بيك” الذي أضاف لصلاح الشرنوبي مساحة جماهيرية عريضة، وقدم وردة في اللون الطربي الخفيف الذي يجاري الوقت والعصر، مع الاحتفاظ بآخر مذاق لطعم الفن، بعدها ابتعدت عن الغناء مؤقتاً وخضعت خلالها لجراحة لزرع كبد جديد في المستشفى الأميركي بباريس، لتعود منذ عام لتعلن أنها بدأت الاستعداد لألبومها الجديد ولكنها فاجأت جمهورها بأغنية وطنية بعنوان “ما زال واقفين”، أنجزتها بمناسبة الذكرى الخمسين لاستقلال الجزائر.
مشروعات غنائية تتوقف برحيلها
كانت المطربة الراحلة تستعد لعدة مشروعات غنائية منها تقديم دويتو غنائي مع صابر الرباعي، حيث أكدت قبل رحيلها دخول المشروع حيز التنفيذ مؤخراً، حيث انتهى الشاعر الغنائي هاني عبدالكريم من كتابة دويتو بعنوان “الغنا حالي” مع الرباعي الذي قام بتلحين الديو، وتوزيع طارق عاكف وكان المقرر طرحه كأغنية منفردة “سينجل”، ويظهر الاثنان فيها بشخصيتيهما الحقيقية، إذ يغنيان كلمات وألحان تصف الأحاسيس تجاه بعضهما كمطربين. فيغني صابر لقيمة وعظمة وردة كفنانة، وتغني وردة للرباعي كشاب من الجيل الجديد لكنه ينتمي بحكم موهبته الى زمن الفن الجميل. وكان المفترض ان تقف وردة خلال أيام أمام كاميرا المخرجة ساندرا نشأت لتصوير كليبها الجديد “أمل” الذي تعود من خلاله الى عالم الفيديو كليب بعد ابتعاد دام عشر سنوات.
أغان للحب والوطن
أجمل ما غنت وردة للحب، حيث كانت هناك العديد من الأغنيات التي لن تمحى من الذاكرة، منها: “أوراق الورد” و” لولا الملامة” و”وحشتوني” و”امال واشتكى” و”في يوم وليلة” و”بودعك” و”الوداع” و”قلبي سعيد” و”بنده عليك” و”معندكش فكرة” و” بعمري كلو حبيتك” و”اكدب عليك” و”الغربة” و”بتونس بيك” و”حرمت احبك” “كانك معايا”.. أما أجمل ما غنت للوطن فكانت أغنيات: “الحبيب عيد الكرامة” و”عيد الكرامة والفدايا عيد” و”هلت على وطني بفجر جديد” و”يا اغلى اعيادنا” و”يا رمز لجدادنا احكي لاولادنا احكي” و”وسمع الدنيا قريب وبعيد قصة كفاح أمة وشعب مجيد” و”يا عيد بلادي” و”بلادي حبك في وجداني يا اغلى انغامي والحاني يا ارض الطفولة والارض والصبا” و”بنتغرب ونرجع للام الطيبة وفي كل خطوة نسمع اهلا ومرحبا” و”بلدي يا بلدي فداها الف شهيد”، و “ردد للعالم بكل لسان وحبك يا جزائر على جبيني وسام”.
الغناء هو الحياة
خلال فترة ابتعاد وردة عن الغناء خلال السنوات العشر الأخيرة، طاردتها شائعات كثيرة حول اعتزالها، ولكن ردت وردة بعنف على مروجي الشائعات، حيث قالت إنها لن تتوقف عن الغناء ما دامت قادرة على العطاء حتى لو اضطرها الأمر إلى الغناء من دون مقابل، وأنها ستظل تغني إلى أن تلفظ أنفاسها الأخيرة، مشددة على أن انتقادات البعض لها لن تؤثر عليها وتجعلها تتوقف عن مسيرتها الفنية، بالإضافة إلى أن الغناء بالنسبة لها هو الحياة وأن الجمهور بالنسبة لها هو الهواء الذي تتنفسه وتعيش بفضله.. وقالت أيضاً إن جمهورها ما زال يستمتع بغنائها وصوتها الذي طالما أسعدت به الملايين في الوطن العربي، وأنها تكون في قمة سعادتها عندما تشعر بقدرها عند محبيها ومدى تمسك جمهورها بها وبصوتها.
أعمال درامية وسينمائية
خلال مشوارها الفني قدمت مسلسلين، الأول “أوراق الورد” مع عمر الحريري، وكان ذلك عام 1977، وبعدها شاركت بمسلسل “أوان الورد” مع حسن حسني عام 2006، وجسدت فيه شخصية سيدة تملك شركة إنتاج كاسيت تقف بجوار الأصوات الشابة والموهوبة، بالإضافة إلى أفلام “حكايتي مع الزمان”، و”صوت الحب”، و”ألمظ وعبده الحامولي”، و”أميرة العرب”، و”اه يا ليل يا زمن”، و”ليه يا دنيا”.
المصدر: القاهرة