بدأ الفنان التشكيلي الإماراتي محمد الأستاد الحمادي بالواقعية والانطباعية في الرسم، ثم انتقل إلى السوريالية، قبل أن يكتشف لغة فنية تجريبية جديدة ممزوجة بأساليب فنية مبتكرة فيها دانات الشواطئ، التي اكتشفها من خلال رحلات الصيد في البحر، عندما بدأ يحفر على الشاطئ، فكان ابتكاره الفني الجديد (فن قبور الشواطئ) الذي جاء حسب قوله: تلبيةً لنداء داخلي بضرورة ترك بصمة عربية في عالم التجريد والفن الحديث، والتميز في التفكير والأسلوب والطرح المبتكر، لأنه فن يجمع بين قوى الطبيعة وفكر الإنسان المتمثل في شخص الفنان.
ويكمل الفنان محمد الأستاد حديثه عن عوالمه الفنية في الحوار التالي:
* كيف أتت اللوحة إلى عالمك؟
** نحن نعيش عالماً مليئاً باللوحات، لكن القليل منا يستطيع أن يستشعرها ويشعر بها ويعيشها بهمومها وجمالها، وكوني ابن بيئة بحرية فقد اقتحمت اللوحة عالمي من باب عشقي للبحر، وأصدافه، ونوارسه وطفولتي على شواطئه، ومن باب الجينات التي تتغلغل في دمائنا محملة بالفن وحبه، فكان جدي محمد الأستاد صانع سفن محترفا، ولذلك سمي بالأستاد.. وكذلك والدي تشرب تلك الحرفة منه. أما أنا فكان نصيبي فن الرسم.
* لمن يرسم الفنان محمد الأستاد اليوم؟ هل يرسم لنفسه؟ أم لنخبة؟ أم للحياة؟
** لنفسه تارة، وتارة يرسم للحياة والناس بشتى طبقاتهم ويرسم للقضايا الإنسانية والوطنية، فمن خلال رسوماته والمواضيع التي يتناولها في أعماله، يبني بينه وبين الناس جسور محبة وإعجابا وتقديرا وفكرا جميلا.
تعمق وتحدٍ
* ساهمت في تأصيل تجربة فنية لم تغير من إيقاعها منذ البدايات، وهي اعتمادك على الاتجاهات الواقعية في رسم عناصر الطبيعة الصامتة، لماذا بقيت مخلصا لهذا الإيقاع؟ ألا تخشى الوقوع في فخ التكرار؟
** بل ركزت لفترة ما على الواقعية البحتة، والمحاكاة إرضاء لفضول التعمق والتحدي، لفترة ما، ومن أجل بناء قاعدة جماهيرية محبة لهذا النوع من الفن وهم الأغلبية، ومن بعدها بدأت العزف على أوتار لوحات يدخل فيها الفكر الشخصي ومنظوري للحياة، والكثير من التجارب ومن القضايا التي تحيط بي.
* لوحات الطبيعة وملامح البيئة التراثية لديك.. بماذا تختلف عن فنانين آخرين لديهم ذات الميول والهواجس الفنية؟
** اللوحات التي أحاكي فيها البيئة والتراث، وأتغزل بتفاصيلها كانت تتميز بنوع من الدقة يومها، وقربها من الواقع الذي كنت أدرسه عن قرب بالمشاهدة والملاحظة والتأمل، وأعيش تلك اللوحات بكل تفاصيلها وظروفها فيكون المنتج أقرب للقلوب.
* لماذا «البحر» حاضر بكل تبايناته في لوحاتك، ما الذي يعنيه لك البحر؟
** البحر هو الجزء الأكبر مني، ومن طفولتي التي احتضنتها شواطئه وغردت فيها طيور النورس، وأطربت ألحان أمواجه مسامعي، وداعبت رماله خطواتي، وتحملت لعبي ومرحي عليها، البحر هو ملهمي هو أنفاس راحتي وإبحاري في عالمي الداخلي.
المكان.. ذاكرة
*عشتَ الأمكنة وتجلت في كل أعمالك الفنية؟ كيف نفهم العلاقة بين المكان واللوحة لديك؟
** اللوحة تتأثر سلبا أوإيجابا بالمكان وسكانه، والفترة الزمنية فيه، وأجوائه الفكرية والثقافية والاجتماعية والجمالية. المكان بالنسبة لي هو الذاكرة بكل تفاصيلها، وروائحها.
* ما طبيعة المسافة التي تفصل بين أولى لوحاتك وأحدثها؟ وأين تجد نفسك مع هذه المسافة الفاصلة؟
** أولى لوحاتي كانت سفينة صيد ترسو على البحر نفذتها بالألوان العادية البسيطة، وقام والدي بتعليقها على حائط مجلس بيتنا، فكانت شرارة الانطلاقة، والدعم الجميل. أما أحدثها فبالرغم من اختلاف المضمون والأسلوب والأدوات والفكرة، إلا أنها لا تزال تولد من رحم شواطئ البحر الحانية، وهي البداية للعالمية التي تحمل الفكر العربي والشخصية العربية للعالم، وهي لوحات دانات الشواطئ، ورغم المسافة بين اللوحتين إلا أنني أجد نفسي بين أحضان البحر مجددا منطلقا إلى العالمية.
الفصيح والبليغ والمتلعثم
* ما الذي يميز كل تجربة فنية عن الأخرى في تجارب الفنان محمد الأستاد؟ أيها الفصيح وأيها البليغ؟ وأيها تلعثم؟
** كل تجربة من تجاربي تتسم بالاختلاف الكلي عن غيرها ولكن رغم اختلافها توجد هناك مؤشرات ثابتة تشير لنفس الفنان وفكره المتطور. تجاربي تستند على فترات خبرة وتشبع وتأن، وحتى ولو تشابهت المواضيع فكل تجربة تتسم بالبلاغة في موضوعها وطرحها. ولدي لا تتلعثم التجارب. فكلها تنطق بالفصيح.
* اللون في اللوحة كيف له أن يحاور؟ ما معنى اللون لديك كفنان؟
** من يعي مدى أهمية التركيز والتأمل والتحليق في عالم الألوان يجد نفسة أمام عالم من الأسئلة والإجابات والدلالات منها ما يبعث السعادة والفرح والأمل، ومنها ما يكون سببا في التشاؤم والإحباط والألم، لذلك فاللون بالنسبة لي نافذة لعالم جديد يطلعني على كل تفاصيله.
* برأيك كيف يمكن للعمل الفني أن يحقق الدهشة للآخر، خاصة وأن التصوير حالة شخصية في بداية الأمر، وبعد ذلك يتحول إلى حالة عامة؟
** يمكن لأي فنان أن يحقق الدهشة للمتلقي من خلال عمله الفني، إن كان يجيد فن الإدهاش. فعلى سبيل المثال يمكن أن يقدم من يدعي الفن عملا ساذجا بعيدا عن الذائقة الفنية وعن مفهوم الفن أصلا، فيثير الدهشة والفضول، كما يمكن للفنان الحقيقي أن يقدم عملا فنيا عالمي الفكرة والأسلوب والموضوع يخاطب أصحاب الفكر الراقي والمتأمل فيدهشهم بروعته وجماله. في هذه الحالة استطاع الاثنان إدهاش المتلقي ولكن شتان بين هذا وذاك.
الفنان والأسلوب
* ما معنى جوهر الفن بالنسبة لك كفنان؟
**جوهر الفن يعني لي الرسالة السامية التي من خلالها يتخاطب الفنان مع الإنسانية ومن حوله بكل رقي وأدب.
* برأيك.. هل الأسلوب يسبق الفنان أم يتبعه؟ كيف تتعامل مع تفاصيل اللوحة؟ هل بصورة ذهنية مسبقة أم الإلهام هو من يسوق الريشة؟
** الأسلوب كائن يبتدعه الفنان، فهو تابع وليس متبوعا. للتفاصيل قنوات متعددة منها الإلهام، ومن الواقع المصور، ومنها التصور والاستحضار الذهني.
* أين ترى خصوصيتك الفنية ؟
** في فن دانات الشواطئ والسوريالية التي ابتعدت عنها وسأعود لها قريبا.
* ماذا عن السؤال الذي يشغلك كفنان تشكيلي؟
** بعد الرحيل عن الدنيا، ترى أين ستكون أعمالنا، وهل سيتذكرنا الناس؟
* ابتكرت تقنية فنية جديدة في أعمالك، ألا وهي فن قبور الشواطئ؟ كيف نفهم أهمية التجريب في العمل الفني لديك؟
** الفن واللوحات والمعارض كلها خطوات وتجارب لابد منها للوصول للغايات الأسمى، وهي ابتكار الشيء المختلف والإضافة والإبداع لأجل عالم مختلف.
مسؤولية الفنان
* برأيك هل من وظيفة اجتماعية ومسؤولية ثقافية تقع على الفن والفنان اليوم؟
** بالطبع فالفن مسؤول عن عالم الجمال والتواصل الإنساني الراقي وبناء جسور الود، والتلاحم البشري الإنساني، بعيدا عن السياسة والنعرات الطائفية المدمرة.
* يقال أن الفنان التشكيلي الإماراتي اليوم أمام سؤال جدوى المغامرة القصوى في الوسيط الفني ومادته مع توسع التكنولوجيا وتنوع استخداماتها في الفنون التشكيلية في الإمارات بشكل مبكر؟ ما رأيك؟
** استغلال التكنولوجيا في إنتاج الأعمال الفنية منحى جميل، وله احترامه ومحبوه، لكنه بالنسبة لي لا ينافس اللوحة الزيتية، التي رسمت بالمواد الملموسة الأصلية من ألوان، ووسائط من الزيوت، وخامات الكانفاس المختلفة، وأنواع الفرش التي تظهر مهارات وخبرة الفنان مع منتجه.
* يبدو أنك تعشق الرقم «واحد» وتلجأ إلى تحقيقه دائما، خاصة وأنك أول فنان يدرس الغرافيك والتصميم؟ وأول فنان يفتتح مرسما للتدريب؟ وأول فنان يبتكر تقنية فنية جديدة؟ ما علاقتك بالرقم «1» وما الذي يعنيه لك مفهوم التفرد؟ وكيف تحققه كفنان؟
** من المهم جدا أن يعشقك الرقم واحد فأنا لا أفكر في تحقيقه لكنه يتبعني ويبدو لي أنه كلما حاولت تحدي نفسك من أجل تحقيق أقصى ما تستطيع تجد الرقم واحد في انتظارك. والتفرد يجعلك تحت الأنظار ويقربك من الناس ويقوي علاقتك بهم.
عاشق خورفكان
أحببتُ الرسم منذ صغري فكانت أول لوحة لي سفينة وأنا في الخامسة من عمري. أعطاني والدي الثقة كاملة منذ الصغر، وكان المعجب الأول برسومي، فأخذ اللوحة وعلقها على الحائط، وكان ذلك بالنسبة لي أكبر دافع للاستمرار مع عشقي للرسم.
أنا ابن النوخذة عبد الله الأستاد، من مدينة خورفكان التي أحببت بحرها، وسماءها، وأحببت صيد السمك، وعشقت طيور النورس، وصناعة السفن التي اشتهر بها جدي، فكان الفن هو نافذتي للتعبير عن كل هذا الجمال والفن الذي اكتمل بفضل الفريق أول سمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان ولي عهد أبوظبي، نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، عندما حقق حلمي في السفر لتعلم الفن فسافرت إلى الولايات المتحدة الأميركية، في بعثة دراسية استمرت ست سنوات بين عامي 1993و1998 لدراسة فن «الغرافيك» والتصميم.