27 نوفمبر 2008 00:44
في أواخر يونيو 1862م· وصل الرحالة الإنجليزي وليام غيفور بالجريف إلى واحة الجوف، ثم ذهب إلى حائل، وبريدة، والرياض، والهفوف، والقطيف، ومنها إلى البحرين، وقطر، وساحل عًمان· وفي عام 1865م· نشر هذا الرحالة كتاباً عن رحلته ترجم إلى الفرنسية والألمانية·(تُرجم فيما بعد الى العربية ترجمة ركيكة حافلة بالكثير من الأخطاء بمسميات الأماكن والشخصيات والقبائل ونُشر ضمن المشروع القومي للترجمة في مصر)·
يتحدث بالجريف في بعض فصول رحلته عن الشعر النبطي في الإحساء، ويحاول أن يجد تفسيراً لكلمة (نبط)، التي نسِب إليها هذا النوع من الشعر، ويصف ولع سكان الجزيرة العربية بهذا الشعر ومنهم أهل الإحساء؛ قائلاً:
''سكان الإحساء مولعون ولعاً شديداً بالأدب والشعر سواء كان فصيحاً حسب الوزن والقافية أو نبطياً· والنوع الأخير من النظم، وهو موجود حتى في منطقة نجد لكنه نادر، يصبح في الحقيقة شائعاً أكثر من الشعر الفصيح الذي يختلف عنه في النحو والوزن والقافية· فالشعر النبطي يُنظم بالنِبر (accent) والبحر فيه متنوع حتى في نفس المقطوعة، والقافية ليست متتابعة ومستمرة دائماً وإنما متغيرة· وباختصار، فإن هذا الشعر يشبه كثيراً في شكله الأغنية الشعبية الإنجليزية العادية، وهو مثلها يُعتبر أسلوب التعبير الشعبي في البلاد''· ويتساءل بالجريف، كيف عُرف هذا الشعر باسم النبطي؟ وما هو وزن أو ظروف قدومه إلى الجزيرة العربية؟ ومَن هم هؤلاء النبطيون؟ وماذا كانوا يفعلون في هذا الجزء من العالم؟ ويعترف بالجريف بفشله في التوصل إلى إجابات مقنعة في هذا الموضوع، وقد سأل سكان الإحساء عنه، فأوّل التسمية بقوله: ''لم يستطع أحد أن يخبرني بشيء عن ذلك، وهذه نتيجة عادية ومؤسفة للمسائل التاريخية في الشرق· ومع هذا يبقى هذا الشكل المعين من الأدب والذي اقتفينا أثره في نجد، أكثر شيوعاً في الإحساء وله السيطرة الكاملة في عمان حيث لا ينظم شعراء الباطنة والجبل الأخضر شيئاً غيره''··
يرجع تاريخ الأنباط والتأثير النبطي على هذه السواحل إلى عهد قديم، حسب بالجريف، وإذا تذكرنا الأنباط أو النبط، سمهم ما شئت، ربما ينتسبون إلى مجموعة عابدي الشمس، وإن الإحساء وعمان كانتا في زمن محمد صلى الله عليه وسلم المقر الرئيسي لهذه الديانة في الجزيرة العربية· إذا تذكرنا ذلك يكون لدينا دليل آخر غير مباشر للتأثير النبطي هنا في هذه المنطقة·
من أي جنس كان هؤلاء الأنباط الذين توجد آثارهم من الضفة الشرقية للأردن وحتى دجلة ومن شمال بلاد ما بين النهرين حتى عابدي الشمس الماردينيين في منطقة ماردين (في تركيا اليوم) إلى رأس الحظ وحتى ما وراء ذلك؟ وإلى أية مجموعة ينتمون؟ يتساءل بالجريف· ثم يحاول أن يجد التفسير· إن المبادئ الأولية لعلم تاريخ الكلمات السامية تدحض الربط العجيب بينهم وبين (النبجاث) المؤمنين بدين سماوي: فكلمتا (Nabt) و (Nabajath) تمثلان اختلافاً مزدوجاً في الحروف اللاتينية المهموسة constants والحروف المهجورة vowels لا يمكن التوفيق بينه وبين القول بأنهم مجموعة ذات أصل واحد دَعك من أسباب أخرى واضحة وضوح الشمس لمن يتحرى الأمر بهدوء·
هذه النظريات البادئة بالكتاب المقدس (الإنجيل)، ولا أعرف لها صفة خير من ذلك، جديرة بالمثقفين الذين يكتشفون أبناء هاجر جارية سيدنا إبراهيم في بني هاجر (في الإحساء) ـ والحديث لازال لبالجريف ـ ويقرؤون أسفار سيدنا موسى الخمسة على صخور صحراء سيناء· فأحلام اليقظة شيء مشرف للخيال أكثر منها لمعرفة واجتهاد الذين ينغمسون في هذه الأحلام· ويميل البعض من الباحثين إلى دمج الأنباط في الكلدانيين، ويجعلهم آخرون جنساً منفصلاً· ويميل المقريزي في أحد أعماله إلى تصنيفهم مع الفرس· من جانبي، فإني أرى وجوب النظر إلى كلمة ''الأنباط'' أو ''النبطيين'' ليس كاسم دال على أمة ولكن كاصطلاح عام يضم في الحقيقة تحت لوائه سكان سوريا وفلسطين والجزيرة العربية، وسكان مناطق الفرات ودجلة سواء كانوا آشوريين أو كلدانيين أو بابليين· وهكذا فإن كلمة ''أنباط'' تشمل عدة عهود ملكية وحكومات وأجناساً مختلفين عن بعضهم ولكنهم متجانسون بما فيه الكفاية ليشكلوا وحدة واحدة في مقابل الآخرين خارج هذه المنطقة·
أصول الأنباط
ويذهب بالجريف بعيداً ولا نقول عميقاً في تتبع أصل كلمة أنباط فيعطي هذه اللمحة التاريخية: أعتقد أننا يمكن أن نتحدث عن الشرق كعالم انقسم في فترة مبكرة وحسب القرابة والدين والجغرافيا الى ثلاثة أقسام رئيسة: فإلى الغرب السوريون واليهود والعرب وهم ذوو قرابة، كما أنهم متجانسون رغم الاختلافات الواضحة بينهم· وإلى الشرق نجد الفرس والفرس المدينيين وقد قدر لهم أن يندمجوا في إمبراطورية واحدة قوية وهم مختلفون جداً في خلقهم وأخلاقهم عن الأجناس التي تسكن في الغرب· وبين هذين الاتحادين الكونفدراليين ـ إذا أخذنا كلمة كونفدرالي بمعناها الواسع العريض ـ تقع منطقة عظيمة ترويها روافد دجلة والفرات وتسكنها مجموعة ثالثة تختلف عن الاثنتين السابقتين· وهي في الحقيقة منقسمة داخلياً ولكن مع ذلك، تجعل منها ديانتها ومؤسساتها وسياستها وأخلاقها جنساً مختلفاً في عيون جيرانهم في الغرب· وبما أن هذه المجموعة مختلفة تماماً في الدين وفي الشعور الداخلي وفي التركيب الاجتماعي عن أولئك الذين يعتبرون إبراهيم أباهم، فقد نتج عن هذا الاختلاف، إضافة للحروب الدائمة بينهما، نظرة عدائية تجاههم· وكان أن أطلق عليهم جيرانهم في الغرب اسماً عاماً في الأنباط، كان محصوراً في البداية في فرع معين من الكلدانيين اتصل به سكان سوريا اتصالاً ما· إضافة لذلك، فإن الاستنتاج التاريخي ـ رغم أنه غير مدعوم بدليل وثائقي ـ يسمح بمستعمرة كلدانية أو كوشية أو ربما كردية في البحرين، وهي جزيرة مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالموقع والتجارة مدخل الشط· وليس صعباً أن نتخيل كيف وجدت مثل هذه المستعمرات طريقها إلى أبعد من الإحساء، وتوغلت في داخل الجزيرة العربية حينما كان هؤلاء المستعمرون ينتشرون في ساحل الجزيرة الشرقي· ولدينا أمثلة كثيرة على إطلاق التسمية في الوقت الحاضر (هذا الكلام الذي جاء على لسان بالجريف كان عام 1862م) فسكان سوريا والجزيرة العربية لا يزالون بعد كل المعرفة المكتسبة عبر قرون من الحوار، يطلقون كلمة ''الإفرنج'' على كافة الأمم المسيحية في الغرب مع أن لفظة ''إفرنج'' في أصلها ترجع إلى الفرنسيين والصليبيين·
وعن مستوى الشعر النبطي في الإحساء ونجد حسب الروايات الشفهية التي استمع إليها بالجريف يقول: ''وبينما نحن في الهفوف، أنشدوا لنا مقطوعات كثيرة من الشعر النبطي وقليلاً من الشعر الفصيح ألّفها شعراء لا يزالون أحياء (في تلك الأيام التي تزامنت مع زيارته)· وكان بعضه موجز المعنى دالاً على الأصالة· وقد أدهشتني مقطوعة رثائية عن تخريب عين نجم ـ عين ماء كبريتية كانت تستخدم للاستشفاء ـ وقصيدة عن الحملة ضد البحرين، كتأليفين قيّمين حقيقة· أما أغاني الحب، فهي أيضاً جميلة وقوية المعنى''·
وقد تسنى لبالجريف جمع وتدوين بعض تلك الأشعار، حيث نراه ينوه إلى ذلك، ويشير إلى هذا لتدوين بقوله: ''وقد دونّت أنا وبركات سبع أو ثماني قصائد''·
وبخيبة أمل مريرة يشير بالجريف إلى ضياع ذلك ''الكنز'' الذي جمعه: ''لكن، واحسرتاه! فبعد ثلاثة شهور ابتلعت أمواج المحيط هذا الكنز· وقد بدا لي أن مستوى الشعر في الإحساء أعلى، دون شك، من مستواه في نجد''·
شعبية الشعراء
وقد تكلم أيضاً رحالة آخر عن الشعر النبطي، وهو تشارلز داوتي Charles Doughty الذي قام برحلته إلى جزيرة العرب عام 1876م· ونشر كتابه عن رحلته عام 1888م، حيث يذكر بأن عبيد بن رشيد كان قائد قوة جبل شمر الحربية في حياة أخيه عبدالله وحفيده طلال· ويصفه داوتي بأنه كان رجلاً شجاعاً، ومتحمساً للدعوة السلفية أكثر من حمود الذي كان يرأس العائلة أيام زيارته·
ولحديث داوتي عن عبيد بن رشيد ووصفه لشجاعته، سيكون في الحقيقة مدخلاً إلى التطرق إلى الشعر النبطي· وماله من شعبية، وشعبية شعرائه من بين البدو، ولما لهم من شهرة ومكانة كبيرة، لا زالت إلى اليوم بفضل ما وصلنا من أشعارهم مما تناقلته الروايات الشفهية جيلاً بعد جيل·
يضيف داوتي: كان عبيد فارساً في الحروب وبطلاً حتى في نظر أعدائه ويقال انه كان قصّاداً ممتازاً (شاعراً) نظم قصائد حول الحروب التي خاضها· وهي قصائد فخر معروفة على نطاق واسع في الصحراء وكانت تُنشد لي ـ والحديث لداوتي ـ دائماً في خيام البادية· ولغة القصيدة تختلف عن الحياة اليومية· ويمكنني هنا أن أتذكر بعض أبيات تقول في معناها: ''تَساقط على يدي تسعون رجلاً من الأعداء· ومن ضرباتي المميتة هلك القصمان أمامي، من الصباح وحتى المساء حين لم تستطع أصابعي فكاكاً عن مقبض السيف وتيبست أكمام ثوبي من دم الأعداء''· كما يذكر الرحالة والن (G.Wallin) أن عبيد كان معروفاً ببلاغته ومواهبه الشعرية· ومازالت قصائده التي سجّل فيها تسّيد أسرته وتفوّق قبيلة شمّر بصفة عامة، تُذكر وتُلقى· وهذه المواهب الشعرية المحددة أعدت عبيداً للقيام بدور الناطق باسم مجموعته، وهو دور هام في مجتمع كانت للكلمة فيه قوة السيف ولم يكن التعليم متطوراً تطوراً عالياً بعد· وقد ضمّنت هذه المهارة على وجه التحديد الاحترام والإعجاب لعبيد ورَفعت سمعته· ويشير والن، إلى أن أفراد عائلة آل الرشيد كلهم تقريباً كانوا ذوي مواهب شعرية من نوع ما· وقد وصف والن أهمية فن الشعر النبطي في تعليقه على أُمراء حائل الذين ذكرهم في يوميات رحلته التي عنونها بـ ''يوميات رحلة من القاهرة، المدينة ومكة عن طريق السويس، إلى حائل ونجد عام 1845م''، والتي نشرت في مجلة الجمعية الجغرافية الملكية حيث يقول: ''إن ذلك الفن يكون في موطنه في جبل شمر، وكل واحد، شاباً كان أو شيخاً، يعرف كمّاً من الأغاني عن ظهر قلب· وأمراء عائلة آل الرشيد شعراء مثلما كان في الزمان القديم الأمير والشاعر الشهيد امرؤ القيس الذي كان أميرهم فيما مضى''·
ويذكر داوتي في مجال عنايته بالسؤال عن هذا النوع من الشعر الذي وجده شائعاً وله شعبية وانتشار بين البدو، فيقول: ''لقد كنت دائم السؤال عن قصائد عبيد بن رشيد ولم أجد في هذه البلاد شاعراً لا يعرف شيئاً منها· وفي مقابل قصص المدن نجد للبدو أشعارهم الحماسية التي يمكن سماعها في كل مخيمات الصحراء، كعشيرة بني هلال، وتدور أحاديثهم حول أمور محلية كالغزوات والمغامرات، قوافي تجمع بين الحكمة والطرب لشعراء الصحراء الأميين (القصادين) الذين نجدهم في كل قبيلة، وأفضلهم في هذه البلاد قصّادوا قبيلة بِشْرْ·
عن الربابة
أما الربابة فربما استمدت اسمها من الكلمة الاسبانية ''رابيل'' rabel وهي في اللغة الإنجليزية القديمة ''رافيل'' revel و''ربيل'' rebibel · ويصنع البدو هذه الآلة الموسيقية من أي صندوق يتحصلون عليه في المدن· ويخرقون جزأه الأعلى بعصا ويشدون عليه جلد ماعز ويثبتون عليه فرعاً صغيراً يكون جسراً· أما الوتر فمن ذيل الفرس· وبذا تكون الآلة جاهزة للعزف عليها·
وغناء البدو أثناء سقي الإبل ليس أكثر من مقطع شعري يتكون من ثلاث أو أربع كلمات موقعة تتفق أخرى معها في القافية· وهي كلمات يحدث أن تكون أول ما خطر على بالهم وليس لها كبير معنى· وهم يرددون المقطع لفترة ثم يبدأون في غناء مقطع جديد·
ويشير داوتي إلى ولع البدو بسيرة بني هلال، وإعجابهم بهم، وترديد الأشعار التي تؤرخ لهجرتهم من جزيرة العرب إلى شمال أفريقيا ووصولهم إلى تونس، فبينما كان الفقراء (اسم لقبيلة) معسكرين في ديار بِشر أخذ زيد داوتي ليُريه رسماً على الصخور لأبي زيد الهلالي وزوجه علياء· (زيد، هو أحد شيوخ قبيلة الفقراء في وادي حمد والذي عاش داوتي عنده فترة وهو زيد بن الصبيحان الفقيري· وهم يطلقون على أنفسهم: عربان الفقير) وكان ذلك الرسم يوضح مدى مكانة الهلاليين عند بدو الجزيرة· كان طول رسم أبي زيد نحو ثلاثة أقدام ويحمل في يده سيفاً أوعصا محنيّة كالتي يستحث بها الجمل على السير فالأعراب لم يستطيعوا أن يحكموا على ما يحمله نسبة لصغر الرسم· وإلى جانبه وفي حجم أقل رسم امرأة يسمونها علياء، زوجه، ومن المحتمل أن هذين الرسمين القديمين المثيرين قد حُفرا بقطعة حجر على الصخر الرملي· وهما محفوران باجتهاد وإتقان يدل على قِدمهما وليسا مثل رسومات الأعراب المحفورة على عجل·
وسألني بعض البدو إن كنت قد زرت تونس في رحلاتي، وما إذا كان بنو هلال لا يزالون أُناساً عظماء في ديرتهم تلك· فبنو هلال، كما يحكون عنهم، كانوا مجموعة من عدة قبائل نجدية تجمعوا في وقت ضرب الجفاف فيه أرضهم لمدة سبع سنوات ونفقت مواشيهم فتحركوا بحثاً عن أرض حباها الله بالماء والكلأ· ضربوا قرية البلقاء أولاً، ثم توجهوا نحو مصر حيث استقر بعضهم وسار أكثرهم غرباً واستولوا على مراعٍ جديدة في بلاد البربر· وتقول مأثورات البدو الشفاهية أن بني هلال استقروا أساساً في تخوم تونس· وقد ظل الناس البسطاء، يضيف داوتي، في كل قبيلة وكل واحة زرتها في شبه الجزيرة العربية يسألونني أنا الآتي من أقصى الشرق إن كنت قد قابلت بني هلال· فإن قلت: إنهم جيراننا، صدقوا ذلك· وإن قلت إنني واحد منهم، اعتبروني كذلك·
وتُنشد سيرة بني هلال في كل مجموعة من بيوت الشعر في هذه الصحراء غير المتناهية· فهي كتاب مقدّس غير مكتوب يثير في الشباب تباهٍ بالتحرر، وبسالة الميدان· ويشتهر هذا الجيل البطولي القديم لدى البدو ببناء كل الآبار العميقة في الصحراء والأحواض المبنية من الصخر، وأية أعمال ضخمة أخرى في شمال الصحراء وجنوبها حتى تهامة على الأقل· فهذه الأعمال في نظر الأعراب أعمال عمالقة، والعمالقة هم بنو هلال· وهناك قبور في أماكن كثيرة في الصحراء تفوق في طولها عشرين قدماً إنها لبني هلال· ويورد داوتي عدداً من الأمثال لتلك الأشعار في تضاعيف كتابه·
قصائد ومرويات
وتشير الباحثة مضاوي الرشيد في كتابها ''السياسة في واحة عربية''، إلى أن المرويات وقصائد الشعر النبطي التي جمعتها واستعانت بها في دراستها عن إمارة آل الرشيد كانت واسعة الانتشار بين الشمريين، فهي جزء من التراث المحكي للقبيلة برمتها· وتشير إلى أن بعض سردياتها (سالفة القصيدة أو حكاية مناسبة قولها) رُويت إلى ر· مونتان (R.Montagne) في الثلاثينات من القرن العشرين خلال بحثه بين شمّر الشمالية في الجزيرة السورية· وكانت الحكايات التي جمعها مونتان تشير إلى أحداث وقعت في وسط الجزيرة العربية خلال القرن السابق·
ولا ننسى، جهود الرحالة المستشرق الويس موزل التشيكوسلوفاكي في جمعه وعنايته بالشعر النبطي، والمأثورات الشفاهية التي جمعها ودوّنها عن قبيلة الرولة في فترة مكوثه بينهم ما يقارب الثماني سنوات، ونشرها في كتابه ''عادات الرولة وأخلاقهم''·
صندوق الأشعار
ويذكر والن G.Wallin إن الرواة الذين اتصل بهم أثناء زيارته لمنطقة الجوف عام 1845م، كان يدعي أحدهم أن في حوزته صندوقاً مليئاً بأشعار نمر بن عدوان، كما أن قنصل بروسيا في دمشق يوهان جوتفريد فيتشتاين Johann Gottifried Wetzstein كان قد جمع بعض المخطوطات الشعرية في حدود عام 1860م· وأكد فيتشتاين أن والن حصل على الكثير من المخطوطات الشعرية أثناء إقامته في معان وتيما وحائل ودومة الجندل· كما ألمح فيتشتاين إلى أن الرحالة فون سيتزن Von Seetzen أودع في مكتبة جوتا مجموعة خطية من القصائد النبطية جلبها من شرق الأردن، وخصوصاً منطقة السلط والبلقا حيث تلتقي البادية مع الحاضرة ويترعرع فن الشعر.
ومن الذين اهتموا بجلب مخطوطات الشعر النبطي من نجد إلى أوربا الرحالة الفرنسي تشارلز هوبير (Charles Huber) الذي زار حائل مرتين في عهد إمارة محمد بن رشيد؛ الزيارة الأولى سنة 1878م والثانية سنة 1883م· وأحضر هوبير ثلاثة دواوين مخطوطة أودعها في مكتبة جامعة ستراسبورغ· ويتضمن أحد هذه الدواوين أشعار عبيد بن رشيد·
ويقدم المستشرق الألماني سوسين (Albert Socin) في كتابه (Diwan aus centralarabein) فهرساً بمطالع القصائد التي تحتويها المخطوطات الثلاث التي أحضرها هوبير وكذلك المخطوطة التي اشتراها سوسين نفسه من محمد الحساوي في بغداد، موضحاً أمام كل مطلع عدد أبيات القصيدة وقائلها· وبلغ مجموع قصائد هذه المخطوطات الأربع مائتان وسبع قصائد مجموع أبياتها أربعة آلاف وستمائة بيت، علماً أن بعض القصائد يتكرر في هذه المخطوطات· وبعض هذه القصائد لشعراء قدامى مثل أبي حمزة العامري وعامر السمين والعليمي والخلاوي وغيرهم· ويشير الصويان، إلى أن الغالبية العظمى من هذه القصائد هي نفس القصائد التي تطالعنا في بعض المخطوطات المتأخرة ويتكرر نشر بعضها في الدواوين المطبوعة اليوم والتي يتداولها الناس في وقتنا هذا· كما ان هناك كماً لا بأس به من القصائد التي لم تُنشر من قبل، وعدداً من الشعراء الذين لم ترد لهم أسماء في الدواوين المنشورة المتداولة اليوم· وتوجد مخطوطة الحساوي ومخطوطة هوبير في مكتبة جامعة لايدن في هولندا بقسم المخطوطات العربية·
أقدم مخطوطة
وتعد مخطوطة هوبير هي أقدم ما بين أيدينا من مخطوطات الشعر النبطي وهي التي جلبها تشارلز هوبير من حائل حينما زارها في النصف الثاني من القرن التاسع عشر· وقريب منها في الزمن المخطوطة التي اشتراها ألبرت سوسين من محمد الحساوي ويبدو من تفحص محتويات هذه المخطوطات أنها نُسخت في منتصف القرن التاسع عشر حيث تحتوي، حسب الصويان، على قصائد شعراء وأُمراء عاشوا في تلك الفترة مثل عبيد بن راشد ومشعان بن هذّال ومحمد بن هادي وتركي بن حميد ومحمد العلي العرفج ومحمد العبدالله القاضي ومحمد بن لعبون وعبدالله بن ربيعة·
كما تحتوي هذه المخطوطات على قصائد شعراء تقدموا على هذه الفترة بأربعمائة سنة أو تزيد مثل أبو حمزة العامري وشعراء الدولة الجبرية· ربما حصل نسّاخ هذه المخطوطات على قصائد معاصريهم من أفواه الشعراء أنفسهم أو عن طريق الرواية الشفهية الحية أو حتى قصاصات جاءت من هنا وهناك·
وكان من أوائل من نشر (دواوين) الشعر النبطي هو المستشرق الألماني سوسين، الذي يعد من أوائل من نشر قصائد نبطية وذلك عام 1900م ، ثم طبع منه ديوان صغير للشيخ قاسم بن ثاني سنة 1328هـ/ 1910م، ثم توالت طباعته على هيئة دواوين منفردة أو مجموعات مثلما نراه اليوم·
ولابد لنا من الإقرار بالفضل لأولئك الرحالة والمستشرقين الغربيين الذين اهتموا وجمعوا ونشروا تراثنا الشعبي ومنه الشعر النبطي، رغم اختلافنا معهم في وجهة نظر ما في موضوع ما، ورغم إدراكنا للنيات والدوافع والأسباب التي ربما كانت قد دعتهم إلى هذا الاهتمام، ويكفي أن نعرف أن أول من نبّه إلى ضرورة العناية بتدوين وقائع وأشعار السيرة الهلالية كان مستشرقاً، وهو العالم الفرنسي رينيه باسيه، حيث كتب فصلاً ضافياً تحدث فيه عن هذه السيرة عام 1885م· وبعد ذلك بعشر سنوات أصدر المستشرق الألماني و·اهلوارد (1838 ـ 1909) Ahlwardt فهرسه القيّم الجامع للمخطوطات العربية بمكتبة برلين، ولقد استغرقت مخطوطات هذه السيرة الجانب الأكبر من الجزء التاسع عشر من ذلك الفهرس الكبير، وهي تبلغ 174 مخطوطا، مع إيراد كثير من محتوياتها وذكر بعض الأعلام المتصلة بها·
كما نشر المستشرق الألماني هارتمان (1851م ـ 1918م) M.Hartman عام 1899 بحثاً ضافياً عنوانه سيرة بني هلال، وأفاد من جهد اهلوارد، واعتمد في إماطة اللثام عن الجانب التاريخي من وقائع الملحمة، على تاريخ ابن الأثير بصفة خاصة· وحاول أن يجلو أهم حلقات هذه السيرة وهي النقلة الجماعية لبني هلال إلى الغرب (مصر وشمال أفريقيا) بقسميها المعروفين بـ (الريادة والتغريبة) وسجل ما في هذا الأثر الأدبي الكبير من فضائل البطولة والحب وما حَوته من جمال فني·
كما اهتم الباحث الفرنسي ألفرد بل، بنص شفوي مغربي، وازن بينه وبين لهجة بني شجران، وجعل عنوان كتابه ''الجازية'' وهو أقرب إلى الدراسة اللغوية منه إلى الدراسة الأدبية والتاريخية· ولم يكتف بالدراسة وتسجيل النص الشفوي، ولكنه أورد ترجمة فرنسية للنص مذيلة بتعليقات شتى· وكان لهذا الكتاب ميزتان، الأولى اصطناعه منهج دراسة المأثورات الشعبية في الاعتماد على النص الحي كما يؤديه أهله كمحاولة ريادية من محاولات التدوين والعناية بالذاكرة الشفاهية· أما الفائدة الثانية، التي قدمها الفرد بل فهي تعريف الغربيين بحلقة من أهم حلقات السيرة، مبرّأة من التزويق والصنعة
aalsanjari@yahoo.com