الجمعة 22 نوفمبر 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

من يواصل طريق جوهرة الرواية السمراء؟

من يواصل طريق جوهرة الرواية السمراء؟
15 أغسطس 2019 01:04

إميل أمين

لماذا يكتب المبدعون؟ أو ربما يتوجب أن تكون علامة الاستفهام هكذا: لمن يكتب المبدعون ولماذا؟
الشاهد أن كل صاحب قلم يبقى صاحب رسالة، وقد تكون للتوفيق أو للتفريق، للشرح أو للجرح، كل بحسب ما قدر له، وما اختار من طريق. هناك من يكتب انطلاقا من قدسية الكلمة، وهناك من يجري الحبر على أوراقه رغبة في الانتقام، لكن «توني موريسون» لم تكتب يوماً انتقاما من العنصرية التي سادت أميركا، بل من أجل تغيير اللغة إلى لغة لا تنتقص من الناس، وربما كان التسامح ديدنها الذي مهد لها الفوز بجائزة نوبل للآداب عام 1993.
رحلت الروائية الأميركية «توني موريسون» عن عالمنا بعد رحلة من النضال في عالم الأدب «أفرو -أمريكي»، رحلة استطاعت فيها أن تتحدى عديد الظروف والعقبات، فمن طفلة صغيرة اضطرت ذات نهار أن تعمل في أحد المطابخ من أجل أن تتمكن من مواصلة دراستها، وإعانة أبيها الفقير، الذي ترك فيها أثراً كبيراً حتى صارت روائية صاحبة تجربة رائدة في الأدب الأميركي، حازت رواياتها دوما صفة «الأكثر مبيعا»، عطفاً على المجموعات القصصية وكتب الأطفال والمقالات التي كتبتها في الصحف والمجلات.
إحدى أهم المقولات التي تبين لنا العظمة الحقيقية للنفس الإنسانية القابعة داخل جدران قلبها وعقلها كانت: «إذا استسلمت للرياح فإنها ستقودك»، ولهذا بدا واضحا أن قصة موريسون سير عكس التيار، ورغبة في الإبداع والخروج من دائرة المألوف الأميركي الذي جعل من أي أميركي من أصل أفريقي مواطناً درجة ثانية.
جمعت روايات «توني موريسون: بين الثورة والغضب المقدس، هكذا بلورت مجلة النيوزويك الأميركية الشهيرة حياة موريسون والتي تميزت رواياتها بأنها أضحت مرجعاً أساسياً للذاكرة الزنجية في الولايات المتحدة الأميركية، وقد جمع أسلوبها بين الدقة والعنف، والغنائية الصاخبة حينا، والهادئة حينا آخر، كما أن نظرتها الروائية تجاوزت الإنشاء والوصف إلى عالم النفاذ والعمق في المجالين السيكولوجي والاجتماعي.
حين رحلت «توني موريسون» قبل بضعة أيام، اعتبر الأميركيون أنهم خسروا جوهرة الرواية السوداء، تلك الكاتبة الروائية التي آمنت أبداً ودوما بأن الكاتب الحقيقي لابد له من أن يكون مهموماً بل محموماً بقضايا معينة، وأيقنت في قرارة نفسها بأن هناك صلة لابد منها بين الكتابة والأخلاق، وعندها أن الكتابة هي الجهد الدائم الذي يبذله المبدع لفهم ما هو إنساني ولإدراك ما يتحتم عليه القيام به قبل أن يغادر الحياة.

ممنوع دخول السود
حين ولدت توني موريسون في أوهايو العام 1931 كانت كثير من مطاعم الولاية تضع على أبوابها لوحة مكتوبة فيها: «ممنوع دخول السود...» لكنها أردات أن تغير من الواقع كما فعل الكثيرون من أبناء جلدتها وفي المقدمة منهم المناضل القس مارتن لوثر كينج جونيور، الذي قاده نضاله الإنساني لتحرير السود إلى الاغتيال، لكنه وإن مات لا يزال يتكلم بعد، ولا تزال دعوته وسط الأميركيين الأفارقة إلهاماً موصولا غير منقطع في الحال والاستقبال، وموريسون وغيرها يعدون من أتباعه نفساً وجسماً.
ربما لم يكن الأدباء أصحاب البشرة السمراء في أميركا معروفين بشكل واسع أو مهمين قبل «موريسون»، والتي قال عنها البعض إن أدبها كان ضرباً من الأدب الأكزوتيكي (الغريب والمغاير)، والفلكلوري الذي يسعى الأميركيون إلى تشجيعه وتهميشه في وقت واحد. واعتبر الأدباء الأميركيون الأفارقة وفي مقدمهم موريسون أن القلم سلاح لا يصد ولا يرد، وأنه من خلال كلماتهم قادرون على تغيير العالم، ولم تكن العقبات التي اختلقها الرجل الأبيض في الطريق لتعوقهم عن الإبداع، رغم حرمانهم من كافة أشكال الحرية ورغد العيش.
القارئ المحقق والمدقق لروايات موريسون يدرك كيف أنها ابتعدت كثيرا جدا عن لغة الكراهية، إذ اعتبرت أنها لا يمكن أن تفرز مجتمعاً سليماً نفسياً، وصحيحاً جسدياً، ولهذا كانت دائماً وأبداً تحذر من الشرخ الذي يقوم في الجدار المجتمعي الأميركي، حتى بعد القوانين التي نفضت غبار العنصرية عن الروح الأميركية، لم يتجرع المجتمع الأسود سوى الهوان والتفرقة، وسكن الأحياء الغارقة في الفقر المدقع، وامتهان جميع الأشغال التي يعف عنها المجتمع الأبيض.
أبدع ما قدمته موريسون للأميركيين سود البشرة بيض القلوب، هو أنها استخدمت الرواية وسيلة لمخاطبة ضمائر الآخرين، لا سيما الرجل الأبيض، وجعلت من سطورها متنفساً للتعبير عن آلامها وأحلام ذويها الذين يعانون مثلها من جراء التفرقة، ولهذا أبدعت في طرح التجربة ضمن سياق روائي إبداعي باحث عن جذور الهوية السمراء من جهة، ومنبرا للبحث عن الحرية من جهة ثانية، والى أكثر من ذلك ذهبت، إذ جعلت نصب أعينها هدفاً ثميناً آخر وهو ترسيخ أسس الأدب الأسود بشكل ممنهج منظم بهدف أن يصبح لوناً يخاطب المجتمع أسمر البشرة، على عكس ما كان عليه في ذلك الوقت، حيث كان مجرد ضرب من ضروب أدب الأقليات الذي يشجعه الرجل الأبيض، ربما لكي يظل الأسود قائماً في دائرة من عدم الانعتاق- إن جاز التعبير - من الانكسار النفسي.

تأثيرات تولستوي
أحد أهم الكتاب الذين شكلوا عقل وقلب «موريسون»، وطبعوها بالطابع الإنساني، كان الأديب الروسي الكبير «ليو تولستوي»، ولهذا نرى في غالبية إن لم يكن كل أعمالها مسحة من البحث في النفس الإنسانية، وفي ما ينتابها من مشاعر متقلبة وأحاسيس مضطربة أحياناً، عطفاً على منطلقات الكفاح والجهاد الفكري قبل العضلي، ولهذا لم يكن غريباً أو مثيراً أن ابنة «عامل المصنع»، تضحى كائنا بشريا متعدد المواهب، فهي الروائية والأستاذة الجامعية، وبالقدر نفسه مؤلفة لأغاني الأوبرا الشهيرة، وشاعرة، وقد أولت جزءاً كبيراً من حياتها واهتماماتها بأدب الأطفال إيماناً منها بالدور الذي تشكله القراءة والإبداع في خلق أجيال متحررة من الداخل، ومنعتقة من أسر الإشكاليات النفسية القاتلة للهويات، مثل الدونية وصغر النفس.
من حي فقير في قلب أوهايو إلى أستاذة للإنسانيات في جامعة «برينستون» إحدى أشهر جامعات أميركا، نرى موريسون ترتقي، إذ تنال درجة الأستاذية وتحصل على مقعد نادر ما يصل إليه أميركي أفريقي الأصل، وقد عززت من موقعها وموضعها في الداخل الأميركي من خلال رؤيتها الناقدة للأدب.
تأتي لحظة رحيل توني موريسون» في وقت يعاني فيها المجتمع الأميركي من إرهاصات عنصرية، وعودة لجماعات يمينية فوقية، عطفاً على انفلات عقد اليمين المتطرف، ذاك الذي يضع المغايرين له بالبشرة والعرق في مقدمة أعدائه، ما يعني أن ما حذرت منه قبل رحيلها أي الردة الحضارية الأميركية قابلة للتحقق من جديد.
ولعل الناظر إلى بعض أهم رواياتها مثل رواية «رحمة»، وما فيها من جماليات إنسانية تتجاوز الواقع المؤلم، يدرك أن موريسون إنما كانت تشاغب وتشاغل الأميركيين الأفارقة اليوم، وتدعوهم للخلاص من الداخل، والانعتاق من مشاعر الخوف والقلق، سيما وأن بطلة رواية «رحمة» هي أم أقدمت على ذبح ابنتها خوفاً من أن تقبض عليها أسرة السيد الأبيض الذي هربت من العمل لديهم، وقد كانت البطلة المسماة «سيث» تنتوي قتل بقية أبنائها لولا أن الآخرين منعوها، وقد فعلت ذلك لتحررهم من العبودية المرة التي كانوا يرزحون تحتها.
بالقطع تقودنا صفحات الرواية إلى أن التحرر من الكراهية هو أفضل السبل وانجعها للتعامل مع الذات ومع الآخر، وهكذا في غالبية رواياتها، فقد عمقت البحث كثيرا في التاريخ الأميركي ليكون حياً أمام الأفارقة حتى يتحرروا بدورهم من قيود الماضي الأدبية والنفسية، وحتى التاريخية، وأن يرفضوا قسوته ووطأته عليهم لا من خلال إيذاء الآخرين أو تهديد أمن وسلام الآخر، بل من خلال تحقيق نجاحات تراكمية تنتشلهم من جب التعصب والتمذهب، وتمضي بهم عبر أودية واسعة فسيحة من العمل الدافع للأمل، ولكي يعوا حاضرهم ويفهموه جيداً.
أفضل ما يمكن للأميركيين تأمله في فكر وروايات وكتب «توني موريسون» تحذيراتها المثيرة للقلق من أن العنصرية البيضاء ربما تتخفى أو تتوارى لبعض الوقت، ربما بسبب وجود رجال بيض أحرار مثل كيندي وروزفلت وايزنهاور، ثم تعود مرة أخرى مع تعظيم الخطاب العنصري.
موريسون الفائزة بميدالية الحرية الأميركية رحلت وشهوة قلبها الكتابة. ويبقى السؤال: من يكمل طريق موريسون؟

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©