18 مايو 2011 20:09
يعد هذا الكتاب المتميز خير ما صدر عن المكتبة العربية مؤخراً في ترجمة وتقديم وتنقيح ما كتبه بعض الرحالة عن المنطقة العربية وبالذات منطقة الجزيرة العربية ، وقد اعتمد على كتاب “هورغرونيه” وكتاب بروكهارت”، وكتاب ريتشارد بيرتون المعروف باكتشافه لبحيرة تنجانيقا بأفريقيا. وجاء في مقدمة الكتاب: “إن الرحالة يصدرون أحيانا أحكاما قيمية سلبا أو إيجابا على ما شاهدوه أو سمعوه وهي أحكام مستمدة من قيم مجتمعهم الذي يختلف عن المجتمع العربي الإسلامي، ويصفون بالتفصيل لقرائهم أشياء بديهية للقارئ العربي، أو يشبهونها بما هو مألوف لديهم. لقد حذفت هذه الأحكام والأوصاف والتشبيهات إلا ما ندر وأشرت الى الحذف في مواضع بثلاث نقاط. واستعملت هذه النقاط أيضا حين يتخلل المادة حديث لا يندرج تحت التراث الشعبي”.
محاور
اختار الدكتور أحمد عبد الرحيم نصر ترتيب مادته وفق المحاور التالية: الأدب الشعبي، الثقافة المادية والفنون والحرف الشعبية، العادات والتقاليد والمعارف والاعتقادات الشعبية، الموسيقى الشعبية والرقص الشعبي والألعاب الشعبية. وتضمن الكتاب ما كتبه ريتشارد بيرتون حول الأزياء والزينة والأسلحة القديمة والطعام والشراب والعادات والتقاليد والطب الشعبي والغناء والرقص والموسيقى. وفي تناوله لما ورد في كتاب تشالز ديديه تناول المترجم مواضيع الأزياء والزينة والعمارة التقليدية والاعتقادات والغناء والموسيقى. أما عن كتاب الانجليزي وليام قفورد بالقريف فقد نقل ما جاء في مواضيع الشعر النبطي والأزياء والطعام والشراب والطب الشعبي والعمارة التقليدية والأسواق الشعبية والغزو. ومما جاء في وصف بالقريف حول المجالس قال: (يكفي وصف مجلس واحد للقهوة وتعميمه بتنوع طفيف على كل المجالس في الجزيرة العربية . فالمجلس ظاهرة لا يستغني عنها أي بيت محترم في كل أنحاء الجزيرة من أدناها الى أقصاها. ومن أهم ما يقدم في هذه المجالس القهوة العربية المنتشرة في الجوف وجبل شمر، وركن القهوة في المجلس هو عادة ركن لتكريم الضيوف).
وتناول المترجم الكثير مما ورد في كتاب تشالز داوتي من مثل: الشعر الشعبي، أبو زيد الهلالي، الزينة والأزياء، الأسلحة القديمة. الطعام والشراب، كرم الضيافة، المسكن التقليدي، الحرف والصناعات الشعبية . العيد. الختان. الألعاب الشعبية، الطب الشعبي، الاعتقادات، الرحيل. المجلس والقضاء، الغزو. وحول الطب الشعبي جاء في هذا الفصل: (يعتقد البدو أن المرض يلوث الجو برائحة كريهة، ولهذا فهم يستخدمون دواء للأنف من حزمة صغيرة من أعشاب ذات رائحة معينة يعلقونها تحت أنوفهم ومناخير إبلهم لمدة يومين. وهم يطلقون اسم “الريح” على كل الأمراض الغريبة ويسمون المرض “وجعا “ والمريض “وجعان”).
واختار المترجم من كتاب سنوك هورغرونيه مواضيع مهمة مثل: المجتمع المكي، العلاقات بين الحارات، الطمبورة ، الزمازمة، المطوفون، العمارة التقليدية، المولد النبوي، زيارة القبور، ذكرى الإسراء والمعراج، الركب الى المدينة المنورة، رمضان وعيد الفطر ، الطب، الخرافات، الزار، الأرواح الشريرة، الميلاد، الختان ، التعليم التقليدي، تلاوة القرآن وقراءة المولد، الزواج، الوفاة، وجاء حول التعليم التقليدي: (أول خطوة في التعليم الجيد في الإسلام هي أن يتعلم التلميذ تلاوة القرآن حسب أصول التلاوة.. ويكرس المدرس “المعلم أو الفقي أو الفقيه “كل الوقت في مدرسة الأطفال “ الكتّاب “ لتوجيه التلاميذ في هذه التلاوة الخاصة. والتلاميذ الذين لا يستطيع آباؤهم تحمل التكاليف البسيطة لمثل هذا التعليم يتعلمون بالسماع من شخص يعرف تلاوة الصور القصيرة في القرآن). وربما يكون رصد حالة الوفاة عند المكيين من أكثر الملامح المميزة لباب العادات والتقاليد ووصف دورة الحياة عند الإنسان وبخاصة نساء مكة المكرمة، حيث يقول سنوك هورغرونيه في الباب المخصص للمجتمع المكي: (يسمى البكاء بعد الوفاة مباشرة وفي لحظة خروج الجنازة “ صياحا “ ، ويسمى تناغم البكاء في الأيام الأولى للعدة “ تعديدا” ورغم أن الحزن يمكن أن يعبر عنه بهذا الشكل التقليدي فإن “التعديد” أصبح فنا تقليديا كفن الزغاريد “ الغطرفة “ في المناسبات السعيدة. وتمدح أمراة في محيط النساء بأنها بارعة في “الغطرفة “ وتمدح أخرى ببراعتها في “التعديد”)، ويضيف: ( تكون فترة حداد النساء المكيات على أقرب الأقربين وعلى الزوج أطول عموما من الوقت المطلوب وتقتضي العادة فترة تسمى “العدة “ تمتد من شهرين إلى أربعة أشهر، حسب درجة القرابة، وتلبس النساء الملابس البيضاء أثناء هذه الفترة، ويستعملن كذلك الملابس الخضراء والسوداء، أما الملابس الحمراء أو المائلة الى الحمرة فيحرصن على تجنبها، وهن لا يتخلين كلية عن حليهن ولكن يعتبرن بعضها غير مناسب في فترة الحداد.
رصد وتصحيح
يتميز الكتاب برصد دقيق للحالات الاجتماعية والإنسانية عند مجتمع الجزيرة العربية، كما أن عملية التوثيق لعبت دورا مهما في نقل الكثير من العادات والتقاليد وقيم وأخلاقيات البادية والصحراء بما فيها من ثقافة وفنون متعددة. كما أسهم عمل الترجمة الموضوعية بتصرف في تصحيح العديد من الآراء التي طرحها الرحالة في كتبهم التي اعتمد عليها. وبالمجمل العام يمكن القول إن هذا الكتاب يعد مرجعا توثيقيا للحالة الاجتماعية عند مجتمع الجزيرة العربية، فلقد استمر بعض ما ذكره بعض الرحالة حيا وفاعلا في حياة الناس وأدركه بعض الناس في الحجاز ونجد ونشروا هم أنفسهم عنه كتبا ومقالات أو نشرها من أخذ عنهم. وبمقارنة بسيطة بين الاثنين يتضح لنا تحري الرحالة الدقة فيما يصفون، وليس معنى هذا أنهم كانوا معصومين في كتاباتهم من الخطأ ، فقد كانوا يخطئون، لكن ألا تقف أخطاؤهم في سبيل الاستفادة مما قالوه.
وفي هذا الخصوص يقول حمد الجاسر في تقديم الكتاب حول الرحالة الغربيين: “إن القارئ العربي كثيرا ما تعتريه حالة من الريبة والشك حيال كتابات الغربيين عن العرب، وهي حالة مع منافاتها للحكمة العربية القديمة ( الحكمة ضالة المؤمن يلتقطها حيث وجدها) لا تتفق مع المنطق القويم في شئ فالحق يجب قبوله، أيا كان مصدره، والباطل لا يتوقف رفضه على معرفة مصدره ، وأولئك – بحكم بعدهم عنا، وجهلهم لأحوالنا في الماضي – تشوب كتباتهم عنا شوائب من الخطأ، لا ينبغي أن تكون حائلا بيننا وبين المعرفة ، بل الأجدر بها أن تكون من الحوافز التي تدفعنا إلى معرفة كل ما يكتب عن بلادنا وتاريخنا، لنقبل الحق وننتفع به ، وننفي الزيف ونأباه”.
تبقى الإشارة إلى أن هذا الكتاب يعد مرجعا توثيقيا مهما لجهة تفسير العديد من الألفاظ المحكية، والتطرق إلى ألوان مختلفة من حياة مجتمع الجزيرة العربية كالفنون الشعبية والأزياء والأسلحة القديمة والشعر الشعبي والطعام والشراب والضيافة والمعتقدات والحرف والصناعات الشعبية والمجلس والقضاء والعديد من الشعائر المتعلقة بالمولد النبوي الشريف وزيارة القبور وذكرى الإسراء والمعراج، والختان والتعليم التقليدي والميلاد وغيرها، بالإضافة إلى مجموعة من الصور التوضيحية والهوامش والملاحق التي تضيف الكثير إلى مضمون الكتاب.
الكتاب: التراث الشعبي في أدب الرحلات.
ترجمة وتقديم: أ. د . احمد عبد الرحيم نصر
الناشر: مركز التراث الشعبي لدول مجلس التعاون لدول الخليج العربية، الدوحة