الجمعة 22 نوفمبر 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

التائه الأبدي في أيامه الأخيرة

التائه الأبدي في أيامه الأخيرة
18 مايو 2011 20:06
عاش جويس حياة التيه اللائقة بالفنان الذي لا يرى له وطناً خارج الكتابة. ومنذ سن الشباب، وتحديداً عندما كان في حوالي الثانية والعشرين من عمره، حمل جويس معه “نورا” الفتاة الحُمَيْراء التي كانت تعمل في أحد فنادق دبلن، وفرَّ إلى مدينة ترياست الإيطالية التي أمضى فيها حوالي اثني عشر عاماً. وبعد ترياست عاش جويس في مدينة زيوريخ حيث أنهى رائعته “يوليسيس”. وفي عام 1920 استقر به المقام في باريس حيث انهمك في كتابة عمله الضخم الأخير “يقظة فينيغن”. ترد أصداء هذا التنقل من مكان إلى مكان، والذي لازم جويس حتى نهايات حياته، في “يوليسيس” على هذا النحو: “لماذا غادرت البيت الأبوي؟” يسأل بلوم ستيفان. - “للبحث عن الحظ العاثر” يجيب ستيفان الذي يجسد في الرواية المذكورة شخصية جيمس جويس حسب بعض النقاد. وفعلا فإن هذا التيه المتواصل، وإن كان جدُّ مفيداً على المستوى الفني والإبداعي، فإنه كان مضراً على مستوى حياة جيمس جويس وعائلته الصغيرة. فمن جراء ذلك مثلاً، أصيبت ابنته “لوسيا” بانهيار عصبي أدى بها إلى ملازمة مستشفى الأمراض العقلية حتى نهاية حياتها. وللسبب ذاته عانت زوجته الصبورة الويلات والمحن حتى أنها فكرت أكثر من مرة في مفارقته والعودة حالاً إلى دبلن لتنعم بالاستقرار الذي لم تذقه منذ أن غادرتها. أما بالنسبة لجيمس جويس الذي كان يرى في هذا الأمر قدرا لا مفر منه، فإنه ظل ممعناً في هذا التيه حتى النهاية غير عابئ تماماً بكل تلك المتاعب والمصائب التي أصابت حياته وحياة عائلته الصغيرة بالاضطراب والفوضى. ويكفي استعراض بعض الأحداث التي عرفها جويس خلال أيامه الأخيرة لكي نلم ببعض تفاصيل هذا التيه وأوجاعه. قبيل الحرب قبيل اندلاع الحرب العالمية الثانية، كان جويس منهمكا في وضع اللمسات الأخيرة لرواية “يقظة فينيغن”. وخلال لقاءاته مع بعض أصدقائه المقربين في مقاهي باريس، كان جويس يتكلم بنبرة تدل على أنه قد بلغ النهاية، ولم يعد قادراً على الإتيان بشيء جديد. وكان ذلك أمراً طبيعياً. فالإيرلندي التائه كان قد وصل إلى أقصى حدود التجريب في جميع ما أبدع، وكانت تقلبات الأيام والأمكنة قد فعلت فعلها في الروح والجسد حتى أن الرحلة الطويلة المضنية بدت وكأنها أوشكت على نهايتها. صدرت “يقظة فينيغن” في 4 مايو/ آيار 1939 في كل من لندن ونيويورك. وفي الحال انهمك جويس الذي كان يعاني آنذاك من متاعب مادية ثقيلة الوطأة، في متابعة المقالات النقدية التي ظهرت بشأن روايته في الصحف الأميركية والإنجليزية، ومع أن استياءه كان شديداً بخصوص ما ورد في أغلب تلك المقالات، فإنه حافظ على هدوئه، وعلق قائلاً: “نعم، لقد اطلعت على حوالي 100 مقال وصلتني من إنجلترا وأمريكا، غير أني أعتقد أن واحداً منها فقط كان جديراً بالاهتمام ألا وهو مقال توماس ماك جريفي الصادر في “التايمز”، وبخصوص المقالات الأميركية أقدر أن أقول إن هناك شيئاً من الضوء في بعضها. أما ما تبقى منها، فإني لا أتردد في القول بأنها لا تستحق سوى صندوق القمامة”. ومع اندلاع الحرب، ازداد وضع جويس سوءاً، وتضاعفت متاعبه المادية والمعنوية والعائلية حتى أنه بدا للذين كانوا على صلة وثيقة به في تلك الأيام الحالكة، رجلاً دائم العبوس والتجهم، يكثر من الشراب في الليل والنهار، ويتحاشى الحديث حتى مع زوجته وأقرب الناس إليه. وعندما جاء بيكيت ليساعده على نقل صناديق الكتب من الشقة التي كان يسكنها في باريس إلى أحد الفنادق في انتظار ما سوف تتمخض عنه الأحداث، وما سوف تكشف عنه الأيام، عزف جويس على البيانو لمدة نصف ساعة وهو في أقصى حالات الهيجان والتشنج، ثم انفجر ساخطاً ضد الحرب. ولما حاول بيكيت إقناعه بأن لتلك الحرب فائدة ومبرراً ما، ازداد غضب جويس وصاح في صديقه الحميم قائلاً بأن تلك الحرب طامة كبرى عليه هو شخصياً لأنها سوف تمنع الناس حسب رأيه من الاهتمام بـ”يقظة فينيغن” ومن قراءتها قراءة جدية. ومع ذلك كان جويس يستعيد شيئاً من مرحه القديم من وقت لآخر، ويدهش أصدقاءه بتلك الحيوية العجيبة التي كانوا يعتقدون أنه افتقدها وإلى الأبد. من ذلك مثلاً أنه وقف ذات ليلة فوق طاولات أحد المطاعم، وأنشد مع جنود فرنسيين “LA MARSEILLAISE” بصوت رخيم صفق له جميع الحاضرين، ومرة أخرى استضاف جويس زوجة أحد أصدقائه المخلصين، وبعد العشاء، انطلق يغني ويرقص رغم ضيق المكان. ولم تتمكن زوجته والضيفة من تهدئته إلا بعد عناء شديد. ثم تعاقبت الأحداث بعد ذلك بسرعة مذهلة. ومع حلول العام 1940، اتسعت رقعة الحرب، وبدأ جويس يشعر بأن حياته وحياة زوجته ليستا في مأمن من تلك المخاطر التي كانت تتهدد أوروبا بأسرها. ولكي يتجنب عواقب ذلك قرر مغادرة باريس والعودة إلى زيوريخ. وبما أن الحصول على تأشيرة دخول إلى سويسرا كان في غاية الصعوبة والتعقيد، فإن جويس سارع إلى الاتصال بالعديد من معارفه النافذين تفاديا لجميع العراقيل والمصاعب الإدارية والقانونية. وفي 13 سبتمبر 1940، قدم جويس إلى القنصلية السويسرية طلب ترخيص بالإقامة في زيوريخ طيلة سنوات الحرب، ورغم أن السلطات السويسرية كانت على علم تام بشهرة جويس وعبقريته، فإنها لم تتردد في رفض طلبه زاعمة بأنه –أي جويس- يهودي! وعندما بلغه ذلك علق جويس يائساً: “لم يبق غير هذا!”. ولكن الأصدقاء رفضوا الاستسلام للأمر الواقع، وراحو يتحركون بسرعة وحزم بحثا عن حل سريع للمأساة. وظل جويس في معطفه الأسود الطويل يرقب حركتهم بانتباه شديد، ولكن دون أي تعليق. وقد تأثر جداً حين بلغه أن أستاذاً سويسرياً مرموقاً يدعى هاينريش شترومان أبرق إلى السلطات السويسرية يقول لها بأن أعمال جويس هي بدون أي احتراز أفضل الأعمال التي ظهرت في اللغة الانجليزية حتى ذلك الوقت. وبفضل جهود أصدقائه السويسريين، تمكن جويس من العودة ثانية إلى زيوريخ وذلك في منتصف شهر ديسمبر 1940. هدوء سويسري مضت الأيام الأولى في زيوريخ هادئة إلى أبعد حدود الهدوء. وكان جويس يستقبل أصدقاءه القدامى، ويتجول على ضفاف بحيرة زيوريخ صامتاً، غارقاً في أفكاره، مسجلاً على دفتر صغير بعض ملاحظاته حول أخبار الحرب التي كانت قد أغرقت أوروبا بأسرها في بحر من الدم. ولكي يشكر السويسريين على استضافتهم إياه كتب إلى شيخ بلدية زيوريخ رسالة بالألمانية جاء فيها: “إن العلاقات التي تربطني بمدينتكم المضيافة تمتد إلى ما يقارب الأربعين عاماً. وفي الظروف القاسية حالياً، أجد نفسي جد محظوظاً خصوصاً حين أعلم أني في حماية المسؤول الأول عن المدينة ذاته”. وبرغم كل هذا، لم يتردد جويس في التهكم بين وقت وآخر على مغالاة السويسريين في الحفاظ على النظافة، وعلى تمسكهم بالنظام، وكان يقول لزوجته وأصدقائه: “أنتم لا تعرفون كم أن الوسخ مفيد أحياناً!”. يوم الجمعة 10 يناير تفرج جويس على معرض للرسامين الفرنسيين خلال القرن التاسع عشر، ثم تعشى صحبة زوجته في مطعم “KRONEN HALLE” الذي كان دائب التردد عليه خلال إقامته السابقة في مدينة زيوريخ. وبعد الانتهاء من ذلك، همس لصاحبة المطعم السيدة “زومستاج” قائلاً: “من المحتمل أني لن أراك بعد الآن!”. وعند سماعها ذلك، ظلت السيدة “زومستاج” تنظر مصعوقة إلى ضيفها دون أن تتمكن من التفوه ولو بكلمة واحدة. في ذلك النهار، أي يوم الجمعة 10 يناير، كان الثلج يتساقط بغزارة على زيوريخ ممزوجاً بالمطر من حين لآخر. وحال عودته إلى مقر إقامته، أحس جويس بألم شديد في المعدة. وفي الحين حمل إلى المستشفى في سيارة إسعاف. وبعد الفحص قرر الأطباء إجراء عملية سريعة. وكان جويس يقول لابنه جورج طوال الوقت: “لا تخفي عني شيئاً. هل هو السرطان؟ وإذا ما كان الأمر كذلك، فمن سيتكفل يا ترى بتكاليف العملية؟”. بعد العملية الجراحية التي أجريت له، بدا جويس وكأنه يتماثل للشفاء. غير أن هذا لم يدم سوى وقت قصير للغاية إذ سرعان ما دخل في غيبوبة لم يفق منها غير مرة واحدة، وبعدها أسلم الروح. وكان ذلك يوم 13 يناير 1941 في الساعة الثانية والنصف صباحاً. دفن جويس يوم 15 يناير في مقبرة “فلوتارن” الواقعة فوق إحدى الهضاب المطلة على مدينة زيوريخ، وقد حضر موكب الدفن عدد قليل من الناس بينهم اللورد “دارفانت الوزير البريطاني المفوض في بارن، والشاعر “ماكس جايلينجر” والبروفيسور “هاينريش ستراومان” العاشق المتيم بكل ما أبدع جويس. ويومها أيضا كان الثلج ينهمر بغزارة شديدة تماماً مثلماً في قصة “الموتى” التي عبر فيها جويس وهو في سن العشرين عن مأساة الحب والموت كأروع وأجمل ما يمكن أن يكون التعبير. وعندما كان النعش ينزل إلى أعماق القبر، مدت زوجته نورا يدها باتجاهه وكأنها ترغب في ألا تترك ذلك الرجل الذي عاشت معه بإخلاص لمدة أربعين عاماً يمضي وحيداً إلى العالم الآخر!”. هامش: جميع المعلومات الواردة في هذا المقال مأخوذة من كتاب: RICHARD ELLMANN JOY CE- TEL GALLIMARD-PARIS- 1987.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©