31 يوليو 2010 21:10
يتميز كتاب “النظم البريدية في العالم الإسلامي قبل العصر الحديث” لمؤلفه آدم ج. سيلفر شتاين، بفرادة موضوعه وتناوله لوناً مختلفاً من ألوان الكتابة والتأريخ لم يٌتطرق إليها من قبل في منطقتنا العربية الإسلامية، من جانب كتاب المشرق أو المغرب على حد سواء.
سعى شتاين، الباحث المتخصص في دراسات الشرق الأوسط والأدنى، عبر صفحات الكتاب إلى تقديم وصف دقيق لأساليب الاتصال الرسمية التي وُظفت في الشرق الأدنى منذ عصور ما قبل الإسلام، وحتى العصر المملوكي، موضحاً أن الحكام وضعوا النظم البريدية كي يبقوا سيطرتهم على أصقاع واسعة من الأرض.
كما لفت شتاين إلى أن هذه النظم، التي ظهرت قبل قرون من اختراع تحركات البخار أو السيارات، مكنت تدويراً سريعاً وفاعلاً لبضائع مختلفة من البشر والأحصنة إلى الفواكه الغريبة والثلج، إضافة إلى مهمتها الرئيسية في نقل الأخبار والرسائل.
تقارير سرية
بما أن الإرسالية المنقولة عادة ما كانت تحتوي تقارير سرية من ولايات الحاكم، فقد تضاعفت هذه النظم التي أصبحت شبكات تجسس تصل من خلالها الأخبار للسلطات المركزية بسرعة تكفي للقيام بإجراء كبح للأحداث. ولم يلق شتاين الضوء على دور تقنية الاتصالات في التاريخ الإسلامي فحسب، بل تعداه ليتناول كيفية مساهمة الثقافة العربية في بناء امبراطورية كبرى في الشرق الأدنى، كما تعرض للطرائق التي ميزت من خلالها الدولة الإسلامية الناشئة نفسها عن الامبراطورية البيزنطية والامبراطورية الساسانية (الإيرانية) اللتين سبقتاها، مع الإشارة إلى أثرها الواضح في بنية النظم البريدية في الدولة الإسلامية.
وهنا يستهل شتاين مؤلفه بالحديث عن النظم البريدية قبل الإسلام من خلال النظم التي كانت موجودة في هاتان الامبراطوريتان (الساسانية والبيزنطية).
فيما يتعلق بالساسانية يؤكد شتاين أن موضوع الاتصالات في الامبراطوريات التي وجدت في إيران قبل الإسلامي جزء لا يتجزأ من أي نقاش يتناول التاريخ القديم للبريد لسببين اثنين، أولاً: ضمت معظم الخلافة كثيراً من الأراضي التي كانت سابقاً تحت الحكم الساساني، لذلك ومن أجل فهم الظروف الفريدة التي شكلت الاتصالات الخلافية في هذه البقاع، لابد من إدراك كيف تعامل الحكام الأوائل مع التحديات التي خلقتها هذه المنطقة للسلطات في مثل الرقعة الواسعة من الأرض.
ثانياً: نسب كتّاب العصر الإسلامي قبل الحديث كلمة “بريد” والمؤسسة التي تمثلها إلى الإيرانيين قبل الإسلامي.
العصر الأخميني
يعرج شتاين إلى الحديث عن البريد في العصر الأخميني “الإيراني القديم” وأثره، فيشير إلى ما كتبه المؤرخ والقائد العسكري اليوناني هو زينوفون حين تناول النظام البريدي في الحقبة الأخمينية عبر السيرة التي كتبها عن سايروس العظيم (529 - 559ق.م)، قد ورد في كتابه “لقد لاحظنا لسايروس أداة أخرى أيضاً يتعامل من خلالها مع امبراطوريته المترامية الأطراف، فقد كان يكتشف بواسطة هذه المؤسسة شؤون ولايته بسرعة، بغض النظر عن بعدها عنه: فقد قام بتجارب ليعرف كم يستطيع حصان قوي أن يقطع من المسافة في يوم واحد عندما يقاد حتى تستنزف طاقته ولكن دون تعريضه للهلاك، وقد نصب بعد ذلك محطات البريد عند هذه المسافات وزودهم بأحصنة ورجال يعتنون بهم، ففي كل محطة كان هناك مسؤول معين لاستلام الرسائل المسلّمة ثم إرسالها، وأن يستقبل الأحصنة المنهكة والخيالة ويرسل غيرها، وقد قالوا، أيضاً، إن موكب السعاة السريع لم يكن يتوقف طوال الليل أحياناً، إلا أن رسل الليل كانت تلحق رسل النهار في الإبدال، وعندما يحدث هذا، فإنه كان منطلقا على الأرض أسرع من طيور الكركى.. وإن لم تكن قصصهم صحيحة حرفياً، فلا أحد يستطيع الإنكار أن هذا النظام كان الأسرع على وجه الأرض في ذلك الزمان وأنه لشيء رائع أن يكون ثمة أخبار فورية عن كل شيء كي نتمكن من التحضير لها بالسرعة الممكنة”.
ويستعرض شتاين عدداً من المفاهيم المرتبطة بالنظم البريدية في تلك الفترة ومنها:
- الرسل: هناك نوعان من الرسل الرسميين تبعاً للمصادر التاريخية، أولهما: المبعوث الرسمي الذي ينتقي لتأدية مهمته بناء على صفات محددة تؤهله أن يكون ممثلاً مقبولاً للحاكم، أما الثاني: فهو الساعي البسيط مجهول الهوية ويحل محله ساعِ آخر لحظة وصوله إلى المحطة، وترافق كلا النوعين قوة حماية ترشد المسافر من محطة إلى أخرى، وتنتهي مهمة القوة المرافقة عند كل محطة.
- المخبرون: كان هدف النظام البريدي لزينوفون إيجاد مخابرات عاجلة عن كل شيء من أجل الاستعداد لها بأقصى سرعة ممكنة، وهو ما امتد أثره فيما بعد إلى الدولة الإسلامية وظهر في أواخر الدولة الأموية ما يعرف بـ”عيون وجواسيس” لجمع الأخبار والمعلومات وإرسالها إلى الخليفة.
إشارات نارية
- وسيلة الاتصال: وكانت عن طريق السعاة البشر سواء كانوا عدائين أو رسل يمتطون البعير أو الحمير، أو البغال أو الأحصنة، وكان ارسال الرسائل مع السعاة الراكبين هي وسيلة الاتصال الأكثر شيوعاً، حيث كانت هناك وسيلة أخرى لبث الرسائل من خلال شبكة إشارات بصرية أو شفوية منفصلة وتتمثل في إشارات نارية أو سمعية وكانت تستخدم للأغراض العسكرية فقط.
- الإدارة: حيث كان يتم ختم الوثائق الرسمية وإرسالها بأكياس بريدية جلدية منذ أمد بعيد يعود إلى العصر الأخميني. وامتد ذلك إلى قرون عديدة بعد الميلاد.
ويخلص كاتبنا مما سبق إلى نتيجة مؤداها أن النظم البريدية الإيرانية قبل الإسلام وثيقة الصلة بالنظم البريدية في الإسلام، وهو ما يظهر عبر ثلاث نقاط هي:
أولاً: عندما هزم المسلمون الولايات الساسانية في الشرق الأدنى كانوا ورثة منطقة مغرقة في الخبرة والأعراف البريدية.
ثانياً: كان الكتّاب المسلمون في العصور المتوسطة مدركين بوعي تام بالأصل الإيراني قبل الإسلام للبريد في زمن الخلافة.
ثالثاً: حقيقة أن كثيراً من مصطلحات البريد يمكن تعقبها إلى إيران قبل الإسلام تشهد على درجة التواصل المباشر الكبشرة من عصر ما قبل الإسلام إلى عصر الخلافة.
وبعدما يتطرق المؤلف إلى النظام البريدي لدى الدولة البيزنطية ينتقل بنا إلى الاتصالات في شبه الجزيرة العربية قبل العصر الأموي، ويرى أن هناك ثلاثة أسباب للاهتمام بوسائل الاتصال هناك في تلك الفترة الزمنية وهي:
أولاً: العرب كانوا يمتلكون مهارة امتطاء الأحصنة والجمال والانطلاق بسرعة عند حملهم رسالة ما.
ثانياً: هناك أدلة على أن الساسانيين والبيزنطيين استخدموا العرب في صراعهم التنافسي الطويل رسلاً وجواسيس.
ثالثاً: عندما احتاج العرب ابان الفتوحات الإسلامية الأولى إلى نظام اتصالات سريع وموثوق، كانوا قادرين على تبني نسخة بدائية من النظم الامبراطورية التي عهدوها سلفاً.
ويدلف شتاين إلى الجزء الأهم في الكتاب والمتعلق بالنظام البريدي في بدايات الإسلام، ويذكر أن البريد في منتصف القرن التاسع الميلادي تكوّن من شبكة مترابطة من الطرق والمحطات ورؤساء بريد، ومدراء بريد عامين، كان يدفع لهم كلهم من موارد الخليفة، حيث ينتقل بنا شتاين بين مرحلة تبني خدمة السعاة البدائية في عصر الفتوحات، وبين ذروة النظام البريدي في القرن التاسع.
تطور البريد
يستشهد المؤلف بما قاله سهل العمري (1351 - 1344) حين وصف تطور البريد في شرح مباشر ومتتابع.. فأما أول من وضع البريد في الإسلام فمعاوية بن أبي سفيان - رضي الله عنه، لتسرع إليه أخبار بلاده من جميع أطرافها، فأمر بإحضار رجال من دهاقين الفرس، وأهل أعمال الروم وعرّفهم ما يريد فوضعوا له البرد واتخذوا لها بغالاً بأكف، كان عليها سفر البريد، وقيل إنما فُعل ذلك زمن عبدالملك بن مروان حين خلا وجهه من الخوارج.. وكان الوليد بن عبدالملك يحمل عليه الفسيفساء، وهو الفص المذهب من القسطنطينية إلى دمشق.. ثم لم يزل البريد قائماً والعمل عليه دائماً حتى أن لبناء الدولة المروانية أن ينتقض، ولحبلها أن ينتكث فانقطع ما بين خراسان والعراق لانصراف الوجوه إلى الشيعة القائمة بالدولة العباسية. ودام الأمر على هذا حتى انقرضت أيام مروان بن محمد آخر خلفاء بني أُمية وملك السفاح، ثم المنصور، ثم المهدي، والبريد لا يشد له سرج ولا يلجم له دابة، ثم إن المهدي أغرى ابنه هارون الرشيد الروم وأحب أن لايزال على علم قريب من خبره، فرتب ما بينه وبين معسكر ابنه برداً، وكانت تأتيه بأخباره وتريه بتحددات أيامه، فلما قفل الرشيد قطع المهدي تلك البرد، ودام الأمر على هذا باقي مدته ومدة خلافة موسى الهادي بعده، فلما كانت خلافة هارون الرشيد ذكر يوماً حسن ضيع أبيه في البرد التي جعلها بينهما، فقال له يحيى بن خالد: لو أمر أمير المؤمنين بإجراء البريد على ما كان عليه، كان صلاحاً لملكه، فأمره به فقرره يحيى بن خالد ورتبه على ما كان عليه أيام بني أُمية”.
ويذهب شتاين بشكل أكثر تفصيلاً إلى حقبة البريد السفياني، فيذكر أن البريد إبان العصر السفياني كان يعمل على نطاق ضيق مقارنة بنظيره في العصور اللاحقة ويستند في رأيه هذا إلى ثلاثة أسباب.
1- كثير من مناطق الدولة الإسلامية لم تكن فتحت بعد.
2- ورد القليل عن إمكانات معاوية الإدارية والقيادية.
3- مقارنة بالحكام المسلمين اللاحقين، يبدو أن السفيانيين حموا بشكل متراخ غير مترابط، وعادة ما عُدّ حكام من مثل: زياد بن أُمية الحلقة الأخيرة في سلسلة السيطرة والقيادة في مناطقهم.
ثم يربط شتاين بين انهيار البريد الأموي وسقوط الدولة الأموية نفسها، لافتاً إلى أن الأمويين أهملوا أدواتهم البريدية والإخبارية، وهو ما أتاح الفرصة للعباسيين لاستغلال هذا الوضع في الإطاحة بالحكم الأموي.
نكبة البرامكة
ينطلق مؤلفنا إلى البريد العباسي واصفاً إياه بأنه كان يستخدم للمراقبة الداخلية بدرجة غير مسبوقة، فالمنصور تحديداً قد منع ما اعتبره البعض استخداما مفرطا للبريد في التجسس على رعاياه، وقد اتسمت الحقبة العباسية بأحداث مثيرة لعب فيها البريد دوراً كبيراً، وليس أدل على ذلك من أن علو شأن البريد وأهميته ارتبط طردياً بأحداث البرامكة ونكبتهم الشهيرة في التاريخ، حيث اعتمد هارون على البرامكة إلى تنشيط أعمال البريد في أرجاء الخلافة تحت إمرة جعفر بن يحيى، وانحدر هذا البريد بشكل سريع عقب النكبة التي ألمت بهم.
كما يشير الكاتب إلى أن البريد لعب دوراً بارزاً في الحرب الأهلية بين الأمين والمأمون، وحقيقة أن الأخير احتفظ بسيطرته على النظام البريدي في خراسان (كما اشترط في وثيقة هارون لاعتلاء العرش) أغضبت الأمين، الذي لجأ إلى إرسال عملاء بريد خاصين به إلى المنطقة.
أما عن طرق ومحطات البريد في عصر الخلافة العباسية، فيشير المؤلف إلى ثلاث حقائق مؤثرة في تلك الطرق وهي:
1- الحاكم قبل العصر الحديث كان تحت رحمة الطبيعة من جبال وصحارى وأنهار بما قد يعيق حركة البريد والسفر.
2- هشاشة البنية التحتية البريدية كانت تتكشف بسهولة أمام أولئك الراغبين في قطع طرق الاتصال بالحاكم.
3- شبكة الطرق أفادت المسافرين أيضاً غير المخولين باستخدام النظام البريدي ذاته، فتشييد وصيانة الطرق والفنادق والأمان على الطرق كانت كلها جزءاً من المسؤوليات المنتظرة من الحاكم العادل في الشرق الأدنى منذ العصور الغابرة وصولاً إلى العصر الإسلامي.
ويتنقل كاتبنا بين أحوال البريد في مختلف الحواضر الإسلامية لينقل لنا صورة واضحة وجديدة تماماً تتناول هذا الجزء الخفي ذي التأثير الحيوي في مجريات الأمور في بقاع العالم الإسلامي في الفترة التي سبقت العصر الحديث.
نصائح بريدية
رغم أن محمود (998 - 1030 تقريباً) ومسعود (1030 - 1040 تقريباً) هما السلطانان الغزنويان اللذان ارتبط بهما النفوذ والقوة الغزنوية، فقد كان والد محمود سيبو كتيجن: هو من أرسى دعائم الحكم الغزنوي، وهو من قيل إنه أَلف وصية نصائح لولده أكد فيها أهمية الاحتفاظ بنظام بريد وأخبار، ويخير سيبو كتيجن ولده في هذه الوصية أنه: “من المهم أن تبقى مطلعاً على حالة الجيش، رواتبهم ومخصصاتهم اليومية، يجب أن تعرف عن ظروفهم، كما ترتل “قل هو الله أحد” كل يوم.. يجب أن تبقي دائماً جاسوسين يجلبا لك أخبار الممالك الأجنبية والجيوش، والمدن البعيدة، في مملكتك ومدنك، يجب أن تحتفظ بصاحبي بريد أمينين ليبقياك على اطلاع بظروف الناس، وبعدالة وحسن سلوك عما لك، عليك كل يوم وقبل أن تصلي العشاء أن تكون قد اطلعت من خلال معلومات مفصلة على حال بلدك لكي يعلو شأنك”.
بين الدعابة والتخويف
أسهمت النظم البريدية في نشوء واستمرار دول على مساحات جغرافية واسعة في العالم الإسلامي قبل العصر الحديث، أما طبيعة هذه المساهمة فلها مستويان: أدت النظم البريدية دوراً مستتراً في الدعابة والتخويف، فالانتشار الواسع “للأساطير البريدية” في تاريخ الشرق الأدنى قبل العصر الحديث، يشهد على حقيقة أن الناس العاديين كانوا ينسبون قدرات خارقة لهذه النظم، التي شكلت بدورها رادعاً لمن تسول له نفسه إثارة القلاقل، من خلال الاعتقاد أن دواب البريد كان لها حوافر محفوفة، وتمت إزالة طحالاتها، وكانت مضمرة تفسر للعامة كيفية نجاح النظم البريدية في نقل المواد سريعة التلف للحاكم من مسافة آلاف الكيلومترات، فلا جرم أن ثمة اعتقاداً ساد بين العامة أن المنصور - بسبب انشغاله التام بتقارير البريد - كان يمتلك مرآة سحرية تريه صورة محدثة لشؤون العالم من جهة، ومن جهة أخرى فقد أدت النظم البريدية دوراً فاعلاً حقيقياً في مطاردة المتمردين، وبث الأخبار العسكرية، وتوصيل أي شيء - الشخصيات المهمة والشعراء والسجناء والمراسلات والثلج والنفائس - من جانب الامبراطورية إلى الجانب الآخر.
سؤال الأسبوع ساعة ثمينة أسبوعياً لكل فائز
في السطر الحادي عشر من الصفحة 201، ورد اسم دولة عربية.. من هي؟
العراق سوريا المغرب
اسم المتسابق حسب جواز السفر :
المدينة :
رقم الهاتف:
ترسل الإجابة إلى العنوان التالي : جريدة «الاتحاد» ص ب (791)
يكتب على المظروف «مسابقة الكتاب الأسبوعية » - دنيا الاتحاد
ملاحظة: سيتم استبعاد المشاركات المصورة أو التي ترسل دون الكوبونات الأصلية،
الكتاب صادر عن مشروع «كلمة» وللحصول عليه يرجى التوجه إلى مكتبة المشروع الملحقة بهيئة أبوظبي للثقافة والتراث. هاتف 6576192 - 02/ 6576101 - 02
بالاضافة إلى 121 منفذاً أخرى بكافة إمارات الدولة. ولمزيد من المعلومات يرجى الاتصال على هاتف رقم 0508703262/ 0501499714 وهما خاصان بالإمارات الشمالية.
? الفائزة عن مسابقة كتاب “ناسك الاقحوان” القارئة فاطمة راشد ساجواني والاجابة الصحيحة هي “الفوجي”
آخر موعد لتسلم الإجابة يوم الأربعاء الموافق 11/8/2010
المصدر: أبوظبي