السبت 23 نوفمبر 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

"دومنيك أورفوا".. وجه مشرق للاستشراق

"دومنيك أورفوا".. وجه مشرق للاستشراق
8 أغسطس 2019 02:30

كنا قد دعونا أكثر من مرة إلى التفريق بين الاستشراق الأكاديمي المنهجي العالي المستوى، والاستشراق السطحي المغرض والمسيس أكثر من اللزوم. وعدم التفريق بينهما يؤدي إلى الإضرار بنا لا بغيرنا. إنه يؤدي إلى توجيه ضربة قاصمة إلى مستقبل الفكر العربي. بل ويؤدي إلى استغلال المتطرفين الظلاميين للحملة الشعواء على الاستشراق والمستشرقين عموماً، بغية عرقلة تقدم الفكر وانطلاقة النهضة العربية الموعودة. وهذا ما تنبه إليه إدوارد سعيد في نهاية كتابه الشهير عن الاستشراق. فقد كتب مقدمة جديدة مطولة للكتاب ووضعها في المؤخرة، بغية القيام بجردة حساب أو موازنة ختامية والتعليق على ردود الفعل الهائلة التي أثارها كتابه سلباً أو إيجاباً. وكان مما قاله وحذر منه وكأنه يتأسف ويعتذر: «لم أهدف إطلاقاً من نقدي للاستشراق إلى دعم أطروحات الانغلاق الإسلاموي أو الأصولية الإسلامية». ولكن المشكلة أن هذا ما حصل بالضبط يا سيد إدوارد! والسبب هو أن الأدلجة العمياء أو النزعة الغوغائية الديماغوجية تسيطر ليس فقط على الشارع العربي، وإنما حتى على عقلية قسم كبير من المثقفين العرب أنفسهم. فلطالما استخدم الأصوليون الإسلاميون كتابك للهجوم على الاستشراق والمستشرقين دون أي تمييز. لطالما وجدوا فيه ضالتهم أو فرصتهم السانحة لتصفية حساباتهم ليس فقط مع الاستشراق، وإنما مع الحداثة المعرفية ككل. ولطالما استخدموه للهجوم على الغرب، كل الغرب، غير مفرقين بين الوجه الحضاري للغرب والوجه التوسعي الاستعماري. وهكذا أطاحوا بكل منجزات الحداثة والحضارة والثقافة. وهذا ما فعله أيضاً القومجيون العرب الذين يلتقون مع الأصوليين والإخوان في أكثر من نقطة مشتركة. قلت «القومجيين» ولم أقل «القوميين العرب» ذوي النزعة الإنسانية المنفتحة على بقية الشعوب والأقوام. ونتج عن كل هذه العرقلات تأخير إنجاز المهمة الكبرى الملقاة على عاتقنا حالياً إلى أجل غير مسمى: عنيت تحرير الفكر العربي من الانغلاقات التراثية. فالاستشراق الأكاديمي قدم إضاءات وكشوفات وفتوحات معرفية قل نظيرها عن تراثنا العربي الإسلامي. ومؤخراً شاركت بدوري في برنامج تلفزيوني شهير ذي اسم جميل جداً هو «حديث العرب». وهو البرنامج الذي دشنه الدكتور سليمان الهتلان بكل ألمعية واقتدار على قناة سكاي نيوز عربية منذ بضع سنوات. وفيه قلت ما معناه: لو كنت مسؤولاً ذا صوت مسموع، لو كنت مأمون هذا العصر، لاتخذت فوراً القرار التالي: تأسيس مركز عربي للترجمات والبحوث خاص بالاستشراق فقط. أقصد تأسيس مركز خاص بنقل أمهات الكتب الاستشراقية من ألمانية وفرنسية وإنجليزية وروسية وإسبانية، إلخ، إلى لغتنا العربية. توجد هنا فتوحات فكرية ضخمة غير معروفة حتى الآن من قبل الجمهور المثقف العربي. إنها حبيسة الكتب والمكتبات والجامعات الأجنبية. نقول ذلك على الرغم من أنها تخصنا بالدرجة الأولى، لأنها متركزة على دراسة القرآن الكريم والسيرة النبوية والفرق الإسلامية والإمبراطورية الأموية والعباسية والعصر الذهبي وعصر الانحطاط والأندلس الزاهرة والتراث ككل.. إنها كنوز معرفية محجوبة عنا. فإلى متى سنظل محرومين منها في حين أنها تخصنا في الصميم؟ أما آن الأوان لكي ينتقل الفكر العربي من المرحلة الأيديولوجية إلى المرحلة الابيستمولوجية؟ سوف نستعرض هنا بسرعة شديدة بعض الإنجازات التي قدمها الباحث الفرنسي «دومنيك أورفوا» أستاذ الفكر العربي والفلسفة الإسلامية في جامعة تولوز. كان هذا الباحث، المولود عام 1943، قد قدم على مدار العشرين سنة الماضية عدة كتب لفتت إليه الانتباه. نذكر من بينها أولاً كتاب:

المفكرون الأحرار في الإسلام (1996)
يقول لنا المؤلف ما معناه: إن الانغلاقات العقائدية المتحجرة التي تهيمن على عالم الإسلام اليوم، من خلال الحركات الإخونجية ومتفرعاتها، لا ينبغي أن تحجب عنا الوجه الآخر للإسلام. أقصد الوجه المشرق الحضاري المتجسد بأعمال كبار المفكرين النقديين الأحرار الذين ظهروا إبان العصر الكلاسيكي الذهبي من عمر الحضارة العربية الإسلامية من أمثال: ابن المقفع صاحب كليلة ودمنة، وحنين بن إسحاق الذي كان يمجد الحكمة البشرية لفلاسفة الإغريق، وابن الوراق الذي دافع عن العقلانية الفلسفية في مواجهة الظلامية. ونذكر أيضاً الطبيب والفيلسوف أبو بكر الرازي الذي كان يؤمن بالعقل وحده. ونذكر أيضاً الشاعر والمفكر العبقري أبو العلاء المعري الذي انتقد، بشدة وجرأة مدهشة، تحجر عقول رجال الدين في عصره. وهناك آخرون عديدون، كابن الراوندي وأبي حيان التوحيدي وسواهما. والشيء المدهش الذي لفت انتباه المؤلف هو أن التساؤلات النقدية ظهرت في بدايات الحضارة العربية لا في نهاياتها، على عكس ما حصل في أوروبا. وهذا يعني أن التنوير العربي سابق على التنوير الأوروبي بسبعة قرون على الأقل. بعدئذ غطس العرب المسلمون في التكرار والاجترار، أي في عصر الانحطاط لمدة طويلة جداً، في حين راحت أوروبا تقلع حضارياً وبشكل متواصل حتى يومنا هذا. لقد كان هؤلاء المفكرون الأحرار ملتزمين بدينهم وتراثهم العربي الإسلامي من جهة، ومنفتحين على الفلسفة اليونانية والعلوم الأجنبية من جهة أخرى. ولكن المحافظين، إن لم نقل المتزمتين، اتهموهم بالزندقة والكفر على الرغم من إسلامهم وإيمانهم.

ابن رشد: طموحات مثقف مسلم (1998)
في هذا الكتاب الثاني، المكرس كلياً لفيلسوف قرطبة الشهير، يقول المؤلف ما معناه: لقد كان ابن رشد المولود في قرطبة عام 1126 والمتوفى في مراكش عام 1198 أحد المفكرين العرب والمسلمين الأكثر عالمية وكونية إبان العصور الوسطى الإسلامية. فقد اهتم بجميع العلوم السائدة والمتوافرة في عصره. ولذلك كان طبيباً وقاضياً وفقيهاً وفيلسوفاً في آنٍ معاً. كان عدة أشخاص في شخص واحد إذا جاز التعبير. وقد أصبح ملقباً بالشارح العربي من قبل المسيحيين في أوروبا لأنه شرح لهم مؤلفات أرسطو ونقلها اليهم لكي يستفيدوا منها. كان عمر ابن رشد 13 سنة عندما مات ابن باجة. وقد راح يقرأ بنهم مؤلفات سلفه الكبير، وأصبح تابعاً له في فترة من الفترات. ولكنه قرأ أيضاً مؤلفات الفارابي واستفاد منها كثيراً. ولكن اللقاء الحاسم الذي سيغير مجرى حياته هو لقاؤه بابن الطفيل الذي قدمه إلى الخليفة أبو يعقوب المنصور. ويبدو أن ابن الطفيل قال له: ينبغي أن تشرح للخليفة مؤلفات أرسطو لأني كبرت في السن وما عدت قادراً على ذلك. وكان يكبره بعشرين سنة على الأقل. ولهذا السبب انهمك في تفسير كتب المعلم الأول. وفي الختام يقول المؤلف عنه بأنه كان شخصاً طموحاً ذا فضول معرفي كبير. وكان أول مثقف في أرض الإسلام قبل أن تظهر كلمة مثقف في اللغة العربية بزمن طويل. وكان همه الأول التوصل إلى إقامة التوافق والمصالحة بين العقل والإيمان، أو بين الفلسفة والدين.

تاريخ الفكر العربي والإسلامي (2006)
هذا هو الكتاب الثالث والأهم للمستشرق الفرنسي المعاصر. وهو أضخم كتبه لأنه يحاذي السبعمائة صفحة من القطع الكبير. وفيه يرسم لوحة بانورامية للفكر العربي الإسلامي منذ بداياته الأولى وحتى اليوم. إنه كتاب ذو طموح موسوعي إذا جاز التعبير. يكفي أن نعدد عناوين بعض فصوله لكي يدرك القارئ ذلك. الفصل الأول مكرس للفكر العربي في عصر الجاهلية السابق على الإسلام مباشرة. وأما الفصل الثاني من الكتاب فيتحدث عن المحاور الفكرية الأساسية للقرآن الكريم. وأما الفصل العاشر فمكرس للتحدث عن كيفية ظهور المعتزلة وعلم الكلام العقلاني في الإسلام. هذا في حين أن الفصل الثالث عشر مكرس لدراسة كيفية ظهور الفلسفة في الساحة العربية الإسلامية. وأما الفصول الأخيرة من الكتاب فمكرسة لدراسة صدمة الحداثة وردود الفعل عليها من قبل العالمين العربي والإسلامي. وكذلك يدرس المؤلف كيفية ظهور فكر إسلامي نقدي في السنوات الأخيرة على يد أركون والجابري وسواهما.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©