إلى أين تسير الصورة؟ وأي شيء ستصيره؟ لقد استحوذت الصورة على عالمنا، لم نعد نفكر إلا من خلالها ومنها وبها وعبرها، باعتبارها تحيطنا بشكل كامل... ما يجعلنا غير قادرين للحد الأكبر على التمييز بين الصورة الصائبة والصورة الخديعة. بل هل نستطيع فعلياً وصف الصورة بـ «صائبة» (؟) إن أدركنا أنها مجرد نسخة للحظة معينة مسروقة من الزمن، داخل إطار محدد يجعلها مقطوعة السياق ومبتورة الزمن، ما يجعلها رهينة التأويل فقط..!
في الوقت الذي يكفي معه زيارة كهوف الإنسان البدائي، إنسان ما قبل التاريخ، لندرك أن الصورة هي الشكل الأولي للتفكير، فقد تعامل الإنسان بالصورة قبل أن يتعامل بالكلام، لقد كانت وسيلته التعبيرية عن وجوده وتواجده وسلطته وملكيته الخاصة، بينما يأتي كلام كنوع مكمل للخطاب البصري الذي أنتجه الإنسان على طول تاريخه التطوري. باعتبار أن الإنسان يتفاعل مع محيطه أولا بصريا ويُكوّن عنه صورة ثم ينقله إلى مستوى اللغة والتسمية. بينما تخبرنا أبحاث الأعصاب والدماغ أن القدرة على تحليل الصورة أسرع من تحليل النصوص والخطابات الشفهية والمكتوبة، لما ارتباط للخطاب بالتواصل، هذا الأخير التعلق بوجود شخصين أو ما يزيد، في علاقة بث واستقبال، ما يتطلب معه وجود لغة واحدة مفهومة، بينما الصورة ليست أبدا لغة أو نصاً قابلاً للترجمة والبث والاستقبال، ولا تحتاج إلا لوجود مستقبل واحد وليست رهينة التبادل والتواصل، إنها تخترق كل هذا باعتبارها وسيلة تواصل كونية. بالتالي، فهي تتجاوز وتخترق الحدود وسياج اللسانيات.
لا تحتاج الصورة اليوم، بفعل تمكنها من اختراق عصر الصورة، أكثر من رمشة عين، فالإشهار نموذجاً، الذي يبثه التلفزيون أو المعلق على لافتات الشوارع وجدران الدكاكين والمحلات التجارية وغيرها... لا يستغرق «النظر» إليه ومشاهدته سوى ثوان معدودات، إلا أنه يترك لدينا انطباعات داخلية، بفعل التكرار نتيجة المرور عليه في الشارع أو مشاهدته بشكل متكرر على شاشة التلفاز، وهنا تكمن الخطورة، إذ نصير مجبرين على «تحليله» أو مخدوعين بأمر «تحليله». ما يجعلنا نصدق «حقيقة» المنتوج المعروض و«واقعية» ما يعرضه. فنغدو إذن، مسلوبي الإرادة أمام الصورة، وتغدو الأخيرة متلاعبة بأحاسيسنا وعقولنا. فقد جعلت الصورةُ الواقع مجرد سيمولاكر، وأرغمت الإنسان على تصديقه، فاختفى الواقع الأصلي واستُبْدِل بواقع مواز، واقع مُصوّر وافتراضي ومتلفز.
خداع الصورة لا يقف على حد التلاعب بقدراتنا التفكيرية، وجعلنا نفكر فيما هي تريدنا أن نفكر فيه، بل إن خداعها «الفتاك» ينبع من كونها تمتلك القدرة على «التسمية»، من حيث أننا لا نؤمن إلا بما تسميه الصورة، لا خارج ذلك. ما يجعلنا نطرح إشكالية تتعلق بالرؤية والإيمان بالرؤية، فهل ما أرى ينبغي فعليا أن أؤمن به لأني أراه؟ وأليس الأمر هنا يتعلق بما يقول عن ديكارت إن «حواسنا تخدعنا»؟ فما الذي أراه إذن، وما الذي أعرفه، وما الذي أفكر عبره؟
أدرك الفنان التشكيلي السريالي البلجيكي رونيه ماغريت René Magritte هذا الالتباس بين النظر والتسمية والإيمان بما ننظر إليه. في لوحته الشهيرة «خيانة الصور»، «La Trahison des images» 1929، يضع الفنان المتلقي أما إشكالية فلسفية معقدة تتعلق بالشيء واسمه وإدراكه. إذ يقدم مارغريت صورة مرسومة ثنائية الأبعاد للغليون (بلا دخان) رفقة نص كاليغرافي صغير بأحرف بارزة في أسفل اللوحة «هذا ليس غليونا». في تناقض بين الصورة والنص المصاحب لها، هذا التناقض الذي سيوضحه مارغريت في أحد حواراته الصحفية، إذ سيتساءل صحافيون عن شرح للعمل، سيجيب بدوره يُسائلهم «هل جربتم تدخين هذا الغليون؟». هذا السؤال «المستفز» سيجبر الصحافيين على الإجابة بالنفي، فهو تمثيل لغليون... وهذا في نظر ماغريت ما لا يجعله «غليونا حقيقيا». بل مجرد صورة لشيء «يُسمى» غليونا.
حاول ماغريت في لوحته هذه، إلى جانب سلسلة لوحاته التي رسمها ما بين سنتي 1928 و1966، أن يناقش العلاقة الرابطة بين الشيء ودلالته وتمثيله. الشيء الذي سيتطور على يد فنانين غربيين أمثال جوزيف كوزيت J. Kosuth، المنتمي إلى جماعة «فن ولغة» art et langue، وخاصة عمله المفاهيمي «كرسي وثلاث كراسي»، 1965، إذ سيعرض كوزيت كرسيا حقيقيا إلى جانب صورته الفوتوغرافية وملصق على جدار للتعريف اللغوي لكلمة كرسي كما يوردها القاموس. وبهذه الطريقة يوضح الفنان مختلف المناهج في تمثيل الشيء، فالشيء ليس ما نراه فقط، فهو يتجاوز ذلك، بل إنه يتجاوز تعريفه واسمه وصورته (التي تحضر كخيانة له) وحتى ماديته. فالصورة وحدها لا تكفي، «إنها تخدعنا». ما يجعل الحكم على «حقيقة» الشيء أمرا مثيرا للاضطراب.
تحول في الدلالة
سعى ماغريت إلى «ضبط تشابه ما هو مرئي، وما هو مادة فكر، لأنه لا يكتفي بأن يصور ما يرى، فهو يصور ما يفكر به». وما يفكر به هو أن تحويل الأشياء إلى صورة يُفقدها دلالتها الأساسية، لأن «الشيء ليس له أبدا، كما يقول كولينيه، وظيفة الصورة نفسها أو اسمه»، كما أن العلاقة بين الشيء وصورته محدودة جدا. إن هذا التحول في الدلالة هو نتيجة تمثيل الشيء على مساحة مسطحة محدودة.
فالصورة لا تربطه بالضرورة أية علاقة تماهٍ مع دلالتها، فقد تشير الصورة إلى ما ليست عليه وما لا تحمله من دلالات، فتحمل دلالات خادعة وخدّاعة، دلالات تخون «الأصل». والحالة هذه الصورة الإشهارية... التي تسعى إلى الاستعانة بلسانيات الخطاب والدلالة غاية لتحقيق تواصل مع المتلقي، الذي يصير مُلْزماً بالاقتناء... فالمُشْهِر غير مُلزم بأخلاقيات التواصل و«قول الحقيقة»، بقدر تمويه المتلقي و«خداعه» عبر الصورة في توظيفها في غير محلها وتحميلها دلالات جديدة، تصير فيما بعد «الدلالة الواحدة» التي على المتلقي/المرسل إليه تصديقها والإيمان بها، من حيث الاستعانة بالتعيين والتضمين، والنفعية والمجانية، والاستعارة والأسطورة والحكي، والترميز، والتكثيف.. إلخ،. في بلاغة تسعى إلى «الأمر بالشراء»، من دون تحليل أو التأكد من صحة الادعاء الذي تأتي حاملة له الصورة الإشهارية. «فالوصلة الإشهارية لا تقول أي شيء عن المنتج ولا عن خصائصه ولا مكوناته، إنها تحاول فقط، من خلال صياغة الإرسالية: التركيز على الموسيقى أو على تأليف خاص للكلمات من أجل إثارة انتباه المستهلك إلى الإرسالية ذاتها وهي الوظيفة الشعرية». فما الذي تسعى إليه الصورة الشعرية سوى الوصول إلى «وجدان المستهلك»، وتجاوز إعمال العقلانية وخاصية التحليل لمضمون الإعلان.
فلا يستقيم الإشهار دونما أسلوب المقارنة، باعتباره الأسلوب الأكثر قدرة على الإقناع، إذ تعمد وصلات الإشهار، خاصة المتلفزة، على مقارنة المنتَج المعلَن والمنتجات المنافسة، عبر إبراز قدرات وفوائد المنتوج المراد ترويجه، بمقابل إبراز المنتجات المنافسة في مكمن «الفشل» في إنجاز مهام أو الغاية من المنتوج المعلن. ما يخلق «تواصلا فعالا» مبنيا على «فصل قاطع بين نوايا الباعث ومتطلبات المتلقي تشتمل كلها على فكرة«الإقناع» بمفهومه الواسع، بما فيه ذلك القائم على الوهم والخديعة والاغتصاب والتضليل أحيانا». كل هذا اعتمادا على فكرة/خلفية «الصورة خدّاعة وخديعة وخيانة»، وخاصة إن تم إضافة إليها لغة شاعرية وخلفيات خارجية مثل الموسيقى وباقي التأثرات البصرية التي تتيح الحواسيب وبرامجها المعلوماتية.
لقد تجاوزت الصورة سلطة الضبط العيني، وكما باتت تتغلب على آليات الكشف الحاسوبي، ما جعل أمر ضبط الأصل من التزييف والخديعة والخيانة، أمرا شبه مستحيل إلى المستحيل، باعتبار أن الصورة في أصلها خديعة توهمنا أنها «حقيقية». فما في الصورة ليس «حقيقياً» بل إنه «صورة» لشيء «حقيقي»، بل قد يكون شيئا غير حقيقي أي صنيع الحاسوب والبرامج التلاعب بالصور.
للصورة سلطتها وسطوها، لهذا ورجوعا إلى العمل الفني الشهير لماغريت، فذلك الغليون الذي ندخن به التبغ، يمكن أن يتخذ أشكالا متعددة، وليس بالضرورة الشكل الذي هو عليه، لقدر ما يمكن أن يكون ذلك الشكل ليس الغرض منه تدخين التبغ فلا يصير غليونا، ما يجعل الرسم في حد ذاته لا يحمل أي إشارة لشيء محدد... بل إن الصورة في اللوحة ليست إلا لطخات ومسطحات لونية زيتية على القماش، بالإضافة لاستحالة خاصية التدخين في «الصورة المرسومة على القماش»... وما يجعل الأمر أكثر استحالة لتسمية ذلك الرسم غليونا، أنه مصحوب بنص ينفي عنه ذلك. فالأمر راجع لما يُصطلح عليه بـ«استراتيجية التسمية»، حيث يصير الشيء ما هو عليه أو ما نبتغيه أن يكونه بفعل تسميته ووصفه بما نريد، فنمتلكه.. لكن ليست تسمية الشيء بالأمر المطلق، إنها قابلة للتغيير والتبدّل حسب الظروف والعصور فتتغير معها «استراتيجية التسمية»، والحال هنا «صورة الإرهاب» التي تحمل في عصرنا الحالي أزيد من مائة تعريف، كما طرأ عليها على طول القرون تغيرات عدة في التعريف والتحديد.. إذ ما نفتأ نصف جماعة بكونها محارِبة/ مقاوِمة حتى نغدو نصفها بالإرهابية... الأمر الذي بات يلعب فيه الإعلام عبر آليات التحكم بالصورة والتلاعب بها، الدور الأساسي في الاصطلاح والتسمية، كما الإقناع والخداع والتوجيه والتضليل.
لقد امتلك الإعلام زمان الصورة، ما جعلها ملكا له يروجها كما شاء ووقتما شاء وأينما شاء. وخاصة بجعلها تخترق الواقع فتصير واقعية باعتبارها امتلكت خاصية المباشر والآني.
1- P. Collinet، Les images ressemblantes de René Magritte، in Opus international، 19-20. 1970. p. 33.
2- محمود أمهر، التيارات الفنية المعاصر، شركة المطبوعات للتوزيع والنشر، الطبعة 2,2009، ص 290.
3- سعيد بنكراد، الصورة الإشهارية،، آليات الإقناع والدلالة، المركز الثقافي العربي، 2009، ص 142.
4- المصدر نفسه، ص 116.