في العام 1971، نشر الممثل والمؤلف البريطاني، ديفيد نيفن، مذكراته بعنوان «القمر بالونٌ». كتاب ساحر وساخر مليء بالقصص الدرامية والتراجيدية والثرثرة الحميمية بين شخصياته عن الماضي والمستقبل داخل مصنع الأحلام هوليود. لم يكن اختيار العنوان اعتباطياً ليتزامن مع تحقيق حلم وصول الإنسان إلى القمر، حتى إن المؤلف شاء أن يفتتح كتابه أيضاً بمطلع قصيدة «من يدري» للشاعر الأميركي إدوارد إستالن كامينجز:
«من يدري ما إذا كان القمر
بالونٌ، يخرج من مدينة حاذقة
في سماءٍ -
مليئةٍ بالنّاس البهيّة؟»
«ولو علينا أنا وأنتَ
التّغلغلَ فيها، عليهم
حشري وحشركَ في بالونها
حسناً لِمَ
لا نصعد عالياً مع كل الناس البهيّةِ
أعلى من البيوت والأبراج والغيم»
توفي الشاعر إ. إ. كامينجز عام 1964 قبل هبوط أول إنسان على سطح القمر، ولم يحقق حلمه بالوصول إلى البالون، لكن نيفن أراد إشراكه في احتفاء البشرية إبداعياًَ بوصول الإنسان إلى القمر كديباجة لكتابه المليء بالأحلام والتطلعات إلى المستقبل، حيثُ لا وجود لكلمة مستحيل.
زالَ مصطلح المستحيل في 20 يوليو 1969، عندما شاهد العالم هبوط أول رجل على سطح القمر. فظهر رائد الفضاء الأميركي نيل أرمسترونغ على شاشات التلفزيون كشبح بالأسود والأبيض، وهو ينحدِرُ من المركبة الفضائية أبولو 11 إلى سطح القمر، ليقول جملته الشهيرة، والتي صارت أيقونة ملهمة لكل الأجيال من مختلف مجالات الحياة: «خطوة صغيرة لإنسانٍ، وقفزةٌ عملاقةٌ لِلبشرية»، في تلك اللحظة لم يعد مستحيلاً الوصول إلى القمر، ولمَ لا أبعد من القمر فيما بعد؟
قضى أرمسترونغ أول دقائق له على سطح القمر في التقاط الصور وجمع عيّنات من التربة، وانضم إليه الزميل ألدرين، وأجرى رائدا الفضاء تمارين مختلفة مثل تجريب طرق التنقل كقفزات الكنغر، قبل زرع علم أميركا، وعقِبَ نجاح التجربة ظهرت العديد من الإبداعات الجمالية محتفية برحلة الفضاء النّاجحة في كل بقاع العالم.
فيعتبر مؤلف «القمر 1968-1972» الذي أصدرهُ النّاشر توم أدلر ورعته وكالة ناسا، من أهم الكتب والمراجع التي اهتمت بالرحلة إلى القمر، يحتوي المؤلف على صور برنامج أبولو مع تعليقات وتوضيحات، بدايةً من إشراق فكرة أول رجل على سطح القمر إلى مناقشتها ونضجها ثم تطبيقها، ويثير الكتاب مزيجاً غنياً من العاطفة واللّهفة والتكهنات التي حاصرت رفيق الأرض الغامض وجارها الدائم منذ زمن بعيد، فيظل الكتاب هذا مرجعاً مهماً لمن يهتمّ بالموضوع، وفي العام 1972 أصدرَ المغني البريطاني إلتون جون أحد أشهر أغانيه بعنوان «الرّجل الصّاروخ»، والتي استوحى موضوعها من قِصة قصيرةٍ للكاتب راي برادبوري بنفس العنوان، كان قد كتبها عام 1969 مُحتفياً برائد الفضاء، وتصفُهُ الأغنية شخصاً عملياً يتأهّب للقيام برحلة متخليّاً عن عائلته، فتقول كلمات الأغنية في مطلعها:
سأصعدُ كطائرة ورقيّة
أفتقدُ الأرض كثيراً وأفتقدُ زوجتي
إنّي مُنعزِلٌ في الفضاءِ
أحلّقُ خارِجَ الزّمن
القمر بالألوان
نُشرت الصور التي التقطها أرمسترونغ في مجلة (الحياة)، وبسرعة تناقلتها العديد من وسائل الإعلام العالمية، فكان هذا العمل بمثابة انتصار علمي وتكنولوجي تاريخي للإنسانية، وسطعت صور الفضاء ورواده والقمر عن قرب في كل أنحاء العالم في طوابع البريد ولوحات الإشهار وغيرها، وقد استولى نجاح مهمة أبولو 11 على خيال الإنسان وأثّر على أجيال من المبدعين وغيّرَ أوضاع الأدب والفن وتوجُّهات الموضة الحديثة.
أذاعَ برنامج ناسا لفن الفضاء، الذي بدأ في عام 1962 ويستمر حتى يومنا هذا، مزيداً من التُّحف المرئية المشبعة بحقائق عن الفضاء والمدار المحيط بكوكب الأرض، وصارَ السفر إلى الفضاء أكثر وضوحاً لعامة الجمهور، ولو أن المقصود من الفن المنتج هو تنمية الفخر القومي للولايات المتحدة وغزوها للفضاء، فخلال سباق الفضاء، رُوّج لسفر الفضاء كرمز للتقدم. وابتكرَ فنانون عبر العالم أعمالاً تستجيب بشكل خاص لاستكشافات الفضاء، وعلى مدار العقود الخمسة الماضية، اكتشف برنامج ناسا للإبداع ما يزيد على 100 فنان اهتم بخلفيات وأحداث ونتائج التجربة.
آندي وارهول وروبرت روشنبرج
بدا رائد الحركة الفنية البصرية الفنان التشيكوسلوفاكي آندي وارهول (1928-1987)، الذي اشتهر بتحويل القمامة إلى أعمال فنية ذات دلالات فلسفية بعمله على فن الطباعة على الشاشة الحريرية، متأثراً بفن البوب (Pop Art) واستكشاف الفضاء. وكما يقول: «يمكن أن تكون الموضوعات الشعبية جزءاً من لوحة الفنان»، استغلّ عبقريته ليكون سباقاً إلى الاحتفاء برحلة أرمسترونغ إلى القمر فنّياً، فأبدعَ نسخاً منقوشة لرواد الفضاء في مهمتهم ومركبتهم الفضائية مُذهّبة، وهي تبدو في شكل قضيب يرمز إلى الصاروخ تمضي إلى السماء.
وقد كان وارهول واحداً من ستة فنانين أخذت رسوماتهم إلى القمر في مهمة أبولو 12، وقد أطلق على المجموعة اسم «متحف القمر»، فكان ضمن أوّل مجموعة من الأعمال الفنية التي تزيّنُ سطح القمر.
أما التشكيلي والنحّات الأميركي روبرت روشنبرج (1925-2008) رائد فن التركيب (Art Assemblage)، فقد جمع الصور الفوتوغرافية وألصقها مع بعض كما في لوحته «القمر الحجري» 1969، وأبرز في لوحاته سطح القمر ملوناً تملؤه عدة أشياء في مشهد ثلاثي الأبعاد بشكل ابتكاري خاص، كما في لوحة «حديقة السماء» 1969، ولوحة «وسائل محلية» 1970.
أون كاوارا.. القمر في الفن المفاهيمي
استجاب الفنان المفاهيمي (ِConceptualism) الياباني أون كاوارا (1932-2014) فوراً للهبوط القمري في لوحاته، والتي عُرضت كجزء من معرضه الاستعادي لأعماله الماضية في غوغنهايم. رسمَ كاوارا اللوحات - التي ظهرت بألوان مختلفة من الأحمر والأزرق والرمادي والأسود - مع الإشارة إلى تاريخ إنشائها، مرفقة بقصاصات من عناوين الجرائد.
فعلى مدار حياته، ابتكر كاوارا حوالي 3000 من اللوحات التي تحتفي بوصول أول رجل إلى سطح القمر. على الرغم من أن اللوحات تبدو مشابهة، إلا أنها - من خلال تطبيق كاوارا المعبّر بنوعية الطلاء، واختيار الألوان، وعناوين الصحف التي قصّها وألصقها داخل الإطار- تشير إلى تجربته الشخصية ونموّها في الوقت والتاريخ. فتبدو بعض اللوحات العملاقة متوافقة بشكل لا لبس فيه مع الإقلاع، والهبوط على القمر، بل إنها تحكي رحلة أرمسترونغ من أوّلها إلى آخرها في قالب فني لا نظير له. وتتضمّن قصاصات الجرائد المحفوظة من تلك التواريخ عناوين من قبيل: «رجل يهبط على سطح القمر» و«رجل يمشي على القمر».
هناك علاقة واضحة بين الحجم الفريد لهذه اللوحات ومقتطفات الصحف المرافقة لها. فتعكس الأبعاد الكبيرة للوحات والمعنى، وتشير إلى أنه بالنسبة لكاوارا، كان الحدث يستحق الاحتفال من خلال الإبداع الذي تطلب «الكثير من الاستثمار المادي والمعنوي» كما قال.
المزيد من الألوان والأشكال
ساعدت ناسا الفنانين للوصول إلى المعلومات وطبيعة عملياتها، مما أدّى إلى ظهور أكثر من 2000 عمل فنّي على مدى العقود الماضية. وأدمجت معظم الأعمال الفنية، وإن كانت تعرض شخصيات تمثيلية لرواد الفضاء، في برنامج (Space Art). فانتشرت صور ولوحات ومنحوتات واضحة لرواد الفضاء والأقمار الصناعية وسفن الفضاء والقمر.
«يُمكن تمثيل الهبوط على القمر بعمل فني بسهولةٍ، لكن يجبُ مراعاة الحقائق»، يقول مسؤول من ناسا. هكذا، زاد السفر إلى الفضاء بشكل كبير من وعي البشر بأبعاد الفضاء وطبيعته. وبالإضافة إلى تأثير الإبداعات الجمالية التي ترعاها ناسا، بصمت مهمة أبولو 11 بعمق في أعمال الفن الأرضي والفن المفاهيميين في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، وجعلتهم أكثر وعياً بضرورة تقديم فن واقعي مبني على حقائق مكتشفة.
لقد رفض رواد فن الأرض (Earth Art)، الذي ظهرَ في منتصف الستينيات من القرن الماضي في ذروة برنامج الفضاء، المتاجرة المتفاقمة في عملية استكشاف القمر، كما أكد على ضرورة احترام مشهد الأرض، واعتبارها وسيطاً فنياً أساسياً. فتبنى الفنانون صور الأرض، كما تُرى من الفضاء الخارجي بمشهدها الأيقوني، بالقول: «إن كوكبنا كائن بدني فني منفصلٌ». ولا يشمل فن الأرض الأعمال الخاصة بالتضاريس الأرضية فحسب، بل تشارك أيضاً في الكون والسماء. وهذا ما عملت عليه الفنانة التشكيلية الأرضية والنحاتة نانسي هولت (1938-2014) زوجة الفنان التشكيلي روبرت سميثسون (1938-1973)، فقد نظَرت في ظواهر فلكية أخرى بالإضافة إلى القمر، ولكي تنحت لوحة كانت تطلب معلومات علمية وفيزيائية من العلماء. وأشهر أعمال الأرض لهولت منحوتاتها بعنوان «قباب الشمس»، التي عملت عليها من العام 1973 إلى عام 1976 وتقع في يوتا، وتتكون من أربعة أنابيب صلدة مجوفة تتماشى مع محاور الشمس أثناء الانقلاب. وتتميّز الأنابيب التي يبلغ طولها 18 قدماً بثقوب توجه الزائرين فيما يتعلق بالقمر والأبراج.
كما أنتج بقية فناني الأرض، بما في ذلك الفنانة والنحاتة والرسامة ميشيل ستيوارت المولودة عام 1933، والفنان والنحات سميثسون، أعمالاً أرضية تلتقط العالم الآخر لسطح القمر وتتفاعل مع قصة استكشاف الفضاء. فتصف ستيوارت قصتها في منحوتاتها لعام 1979 «علامات الانقلاب» و«ميول الحجر»، التي تقع في أوريغون، بأنها مرتبطة بمواقع انقلابات الشمس والقمر، كما تظهر حفرة دائرية طبيعية مملوءة بالحجارة على شكل فوهة قمرية بالقرب. ومثل ستيوارت، رأى سميثسون أيضاً أن عمله يسهل نوعاً ما من فهم الرحلة الزمنية والمكانية، وينتقل إلى تاريخ ما قبل التاريخ والبدائية. وابتكرَ بحيرة «المرفأ اللولبي» سنة 1970، حيث عمل على تحويل منجم إلى عمل أرضي يشبه الهلال في لولبته، كما تبدو من بعيد كنقطة من سطح القمر القاحل، مستعملاً الحجارة وألواناً باهتة كدلالة على صمت وانفراد تضاريس القمر.
ويرى نقاد الفن المتأثر بهبوط أول إنسان على سطح القمر أن التصوير الشائع لتضاريس القمر غير المعروفة يتطور من خلال إدراك مفاهيم المناظر الطبيعية الأساسية للقمر، فيستجيب العمل الفني للعصر وفقاً للعلم، حيث تجاوز حدود الفن على الأرض.
القمر دائماً
قد يجادلُ الرومانسيون بأن سحر القمر القوي يلعب دوراً سرياً في العديد من الإغراءات المتعلقة بالجمال والرغبة عند الإنسان في علاقة بمحيطه، مثل عواء الذئاب ونُعاب البوم وظهور مصاصي الدماء في الأساطير، وغيرها من الكائنات التي ترتبط حركاتها الليلية بحركات القمر. بعد كل هذا، كان على الإنسان إيجاد طريقة لرحلة فعلية إلى القمر متبعاً الخيال والغرائز والعقل. لنكتشف إله المصريين القدامى والشخصية الغريبة التي حضرت في الأساطير الصينية القديمة. تماماً، كما كتب عنه الروائي الفرنسي جول غابرييل فيرن عام 1865 روايته «من الأرض إلى القمر»، التي اعتبرت خرافة آنذاك، وهو يتحدث عن أشخاص من البندقية يبتكرون مدفعاً ضخماً لإطلاق قذيفة تحمل ثلاثة رجال صوب الفضاء الخارجي، بهدف الهبوط على سطح القمر.
لقد شوهد القمر في الفن والأدب والخيال الشعبي كموطن آخر للإنسان، إنه شخصية محبوبة بصمته، مقدماً اسمه في القصص والأغاني والأفلام والفن التشكيلي، فأحياناً يُصوّرُ مثل كرة من الجبن، ويعتبرُ رمزاً للأم والأنوثة، وفي بعض الثقافات ملكة الليل، إن سحرهُ دائم ما دام يتحكّم في قوة الجاذبية وفي المد والجزر، ولا يزال يخبئ الكثير لنكتشفه.