شعر خبراء أميركيون بدهشة بالغة، عندما أعرب مرشح محتمل لعضوية مجلس إدارة بنك الاحتياط الفيدرالي الأميركي عن حنينه لاستعادة غطاء الذهب. وكان الرئيس الأميركي دونالد ترمب رشح هذا الشخص للمنصب الشاغر مؤخراً. وترجع دهشة خبراء السياسة النقدية التقليديين إلى تخوفهم الشديد من الفكرة في حد ذاتها، ولديهم حجتهم. فببساطة شديدة، لم تعد قاعدة غطاء الذهب صالحة للعمل، وفقاً للنظام النقدي والمالي السائد في القرن الحادي والعشرين.
وللتذكير، فقاعدة غطاء الذهب تعني ببساطة تعهد الحكومة الأميركية بتقديم أوقية من الذهب إلى أي مواطن يضع تحت تصرفها ألف دولار نقداً، والعكس بالعكس. وعن طريق ربط الدولار بشيء ما يتمتع بميزة قيمته المستقلة، يمكن حل مشكلتي التضخم والانكماش. وبالتالي، تنتفي الحاجة إلى عباقرة البنوك المركزية لإدارة حياتنا الاقتصادية، فهل هذا صحيح؟
يغيب عن هذه القاعدة مكون غاية في الأهمية، وهو الغرض من السياسة النقدية ذاتها. فليس الأمر هو ضمان استقرار سعر الدولار مقوماً بالذهب، بل استقرار كل أسعار السلع والخدمات. فخلال الأعوام العشرة الماضية ارتفع سعر أوقية الذهب من ألف دولار إلى 1800 دولار. وبافتراض أن الاحتياط الفيدرالي قد لجأ إلى تقويم السعر وفقاً لتغير قيمة الذهب، فيعني هذا أن أسعار كل شيء آخر يجب أن تتغير بالقيمة نفسها. أما إذا تغاضى البنك عن هذه العلاقة، فمن المحتمل ألا يتقلب سعر الذهب كثيراً، مقارنة بالسلع الأخرى.
لكن تبقى المشكلة قائمة، فخلال فترة العمل بنظام غطاء الذهب، عانت الولايات المتحدة من تقلبات حادة في معدلات التضخم والانكماش أكثر من الحال الآن. ولم يمنع غطاء الذهب من الانكماش خلال فترة الكساد العظيم، وما سبقها من موجات فزع أخرى.
قيمة الذهب ومزايا السلع
وليكن السؤال الأهم هكذا: ما الذي يحدد قيمة الذهب مقارنة بشتى السلع والخدمات الأخرى؟ ففي خلال القرن التاسع عشر، استخدمت العملات الذهبية في شتى المعاملات. واضطر المواطنون وأرباب الأعمال إلى الاحتفاظ برصيد من العملات الذهبية وفقاً لمستويات إنفاقهم. وإذا ما ارتفعت قيمة الذهب مقابل أي شيء آخر (الانكماش) أصبح لدى الأفراد حافز لإنفاق عملاتهم، لترتفع أسعار كل شيء آخر بالتالي. وإذا ما انخفضت قيمة الذهب (التضخم) أصبح الأفراد في حاجة إلى مزيد منه، فيقل إنفاقهم وتنخفض الأسعار. وأدت هذه الآلية الدقيقة إلى ربط سعر الذهب بكل الأسعار الأخرى. وقد انتهت هذه العلاقة تماما الآن.
فباستثناء استخدامه في صناعة الحلي وبعض الأغراض الصناعية، لم يعد للذهب خصوصية تذكر الآن. وبالتالي ليس هناك أدنى رابط له بالأسعار الأخرى. وبمعنى آخر، إذا ما عاد الاحتياط الفيدرالي إلى قاعدة الذهب، فإن الأسعار ستصبح خارج السيطرة. ولنبحث عن بديل آخر إذن نربط العملة إليه بأمان. وتواجه السلع نفس هذه المشكلة، وإن كانت لا تشكل سوى شريحة صغيرة من الاقتصاد بطبيعتها. وبالتالي، فإن أي تذبذب، ولو حاداً في أسعارها، لن يؤثر كثيراً على التضخم.
أوهام عصر الذهب
لم يكن عصر الذهب بتلك المثالية التي نتصورها، ونادراً ما غطت الحكومات عملاتها وديونها فعلياً بغطاء كامل من احتياطات هذا المعدن النفيس. فكيف لها إذن أن تعد بالوفاء بقيمة المال في صورة ذهب وفي أي وقت؟
لقد كانت قاعدة الذهب وهماً من الناحية العملية، وإن كانت البنوك المركزية اعتادت تحديد أسعار الفائدة وقتها كما تفعل الآن تماماً، لكن بهدف إدارة تدفقات الذهب، وكانت كلمات محافظي البنوك المركزية تهز الأسواق كحالهم الآن، لكن وقعت أزمات للدول، وهرع الأفراد إلى البنوك المركزية طالبين غطاء عملتهم وفاء بتعهداتها، لكن لم تستطع الحكومات إصدار ما يكفي من البنكنوت عند الضرورة.
نتيجة لهذا، شهد القطاع المصرفي أزمات، وعادة ما قل المعروض من النقود وخصوصاً في أوقات حصاد المنتجات الزراعية. ولهذا الأسباب كلها نشأ الاحتياط الفدرالي ليوفر «عملة مرنة» وليس لتحديد أسعار الفائدة بصفة أساسية.
في ضوء هذا كله، يمكن القول إن قاعدة الذهب مثلت نوعاً من الالتزام المالي وليس النقدي. فإذا طلب المواطنون مزيداً من الذهب أكثر من ما تحتفظ الحكومة به كاحتياطي، اضطرت إلى رفع أسعار الفائدة، أو خفض الإنفاق لشراء المزيد من المعدن الأصفر. فضلاً عن هذا، اضطرت الحكومة أحياناً إلى الاستدانة للحصول على الذهب. إلا أنه يجب على الحكومات أن تعد برفع الضرائب أو خفض الإنفاق لتقترض. وفي نهاية المطاف، أدى هذا الالتزام المالي في حد ذاته إلى منح النقود (البنكنوت) قيمتها، وليس تلك الوعود الفارغة بمبادلة قدر معين من النقود بالذهب. والآن، تدعم الضرائب النقود (البنكنوت) التي تصدرها كل الحكومات. ويرجع الفضل إلى قاعدة الذهب في جعل هذا الالتزام المالي حقيقياً وقابلاً للاختبار.
محاكاة قاعدة الذهب
وتستطيع الولايات المتحدة اليوم أن تضع سياسة تحاكي بها مزايا قاعدة الذهب، دون استعادتها، عن طريق الخطوات التالية: أولاً، يجب أن يتفق الكونجرس والاحتياطي الفيدرالي بداية على أن مبدأ «استقرار السعر» يعنى أن معدل التضخم المستهدف بنسبة 2% (مثلاً) لن يكون أبدياً. من جهته، يلتزم الاحتياطي الفدرالي بالحفاظ على مؤشر أسعار المستهلكين عند أقرب حد ممكن من القيمة المعلنة.
وثانياً، يجب ربط التضخم المستهدف بسياسة مالية ملزمة (يضعها الكونجرس والخزانة) وسياسة نقدية ملزمة كذلك (ويضعها الاحتياطي الفيدرالي). وتتطلب السيطرة على التضخم انتهاج سياسة مالية تقييدية تطبق آلياً، ويؤدي الانكماش إلى التخفيف منها. ويعيدنا هذا إلى ما اعتادت الحكومة عليه في عصر قاعدة الذهب: الدفاع عن العملة بتقييد السياسة المالية لزيادة احتياطياتها من المعدن النفيس.
وثالثاً، على الحكومة أن تحاكي القاعدة التاريخية في الشق المتعلق بمبادلة الذهب بالبنكنوت في أسواق المال العصرية. وهناك أكثر من وسيلة للقيام بذلك، لعل من أبسطها الالتزام بمبادلة دين عادي بدين آخر معدل القيمة وفقاً لمعدل التضخم وبنفس السعر. وبهذا، يكلف التضخم الحكومة مالاً، مما سيدفعها إلى تقييد سياستها المالية بنفس الطريقة المتبعة في عصر قاعدة الذهب، والعكس بالعكس. ويستطيع هذا النظام أن يثبط الانكماش كذلك.
وختاماً، فإن دعاة استعادة قاعدة غطاء الذهب لديهم حجتهم المقنعة التي يطعنون بها في نظام السياسة النقدية المتبع حالياً، ولكن العودة أمر بعيد المنال وغير واقعي. أما البديل فهو احترام أسس السياسة المالية والنقدية المعاصرة لحماية العملة من ظاهرتي التضخم والانكماش، كما كان الحال في عصر الذهب.