4 فبراير 2009 01:18
قلعة قايتباي بالإسكندرية بناء مهيب يراه زوار عروس المتوسط كأحد معالمها الإسلامية بينما ينظر اليه الآثاريون بوصفه وريث فنار الاسكندرية الشهير، إحدى عجائب الدنيا السبع، وفي الوقت الذي تستقبل فيه القلعة الزوار ليشاهدوا بناء البرج الرئيسي وملحقاتها، فإن ثمة جهوداً استكشافية تجري تحت سطح البحر من حول القلعة كلها بحثاً عن الآثار الغارقة ومنها أحجار الفنار القديم·
في تلك البقعة من الطرف الشرقي لجزيرة فاروس القديمة، اقدم بطليموس الثاني في عام 280 ق· م على إنشاء فنار لمدينة الاسكندرية تهتدي به السفن القاصدة هذه المدينة وعهد بذلك الى المعماري الاغريقي سوستراتوس وجاء الفنار بارتفاعه الشاهق الذي يبلغ 120 متراً وحجراته المتعددة التي بلغت 300 حجرة مخصصة لإقامة العاملين بالفنار واسرهم جاء أعجوبة في فن المعمار تحدث عنها الرحالة والمؤرخون وظل الفنار قائماً في مكانه عند الفتح الاسلامي لمصر وعاينه الجغرافي المسعودي صاحب كتاب ''مروج الذهب'' في عام 944م واعطى وصفاً دقيقاً لعمارته وكيفية عمله·
وفي عام ''702 هـ - 1303م'' تصدعت جدران الفنار بسبب الزلزال المدمر الذي ضرب الإسكندرية وامتدت آثاره إلى القاهرة، وحينها أمر السلطان الناصر محمد بن قلاوون بترميم الفنار، ولكن البناء لم يصمد طويلاً مع تتابع الزلازل وأخذت احجاره في الانهيار حتى ان الرحالة المغربي ابن بطوطة الذي زار الأسكندرية في عام 1350م يقول إنه صار خراباً ولا يمكن الصعود اليه·
وعندما زار السلطان المملوكي الأشرف قايتباي الاسكندرية في عام ''882 هـ - 1477م'' ورأى ما آل اليه حال الفنار امر بتشييد قلعة حربية مكانه للدفاع عن ميناء الاسكندرية الذي اخذ يتعرض لهجمات من سفن القراصنة الأوروبيين وبقايا الصليبيين في جزر المتوسط·
وبعد عامين اكتمل بناء القلعة التي اشتهرت فيما بقي من العصور الوسطى باسم قلعة الاسكندرية او كما نعرفها اليوم باسم قلعة قايتباي·· ولم يقض لها ان تلعب ادواراً مشهودة في الدفاع عن الثغر السكندري نتيجة لانتقال نشاط القراصنة الاسبان إلى الشاطئ المغربي في تلك الفترة ولكن القلعة ظلت تحظى باهتمام سلاطين المماليك ونظراً لحصانتها ونظام الحراسة الجيد بها اصبحت المعتقل المفضل والسجن الذي يودع به خصوم السلاطين ممن يخشى انقلابهم على العرش لا سيما من اولئك الذين لم يقترفوا اثماً يستوجب قتلهم او نفيهم الى بلاد الشام· وكم من امير مملوكي بقي حبيساً معززاً مكرماً داخل هذه القلعة الى ان وفاه الاجل المحتوم سواء بالوفاة الطبيعية او بأمر من سلطان اضناه تعب الانتظار·
العهد العثماني
بيد أن الاهتمام بتحصين القلعة سرعان ما بدأ مع سلطنة الأشرف قانصوه الغوري اخر سلاطين المماليك وذلك مع تعاظم التهديدات الأوروبية والتركية لدولة المماليك فشحنها بالفرسان والعتاد الحربي ولكن القلعة مرة أخرى لم تفعل شيئاً بعدما جاء الهجوم المرتقب من بر الشام حيث قتل قانصوه الغوري نفسه في معركة مرج دابق واستولى السلطان العثماني سليم الأول على مصر·
ومع اضطراب الأحوال في حوض المتوسط ونشاط قراصنة إسبانيا والبرتغال ضد موانئ طرابلس وتونس والجزائر عاد العثمانيون إلى الاهتمام بقلعة الاسكندرية، فزودت بالمدافع ورغم ان فرقة العزب كانت المعنية تقليدياً بالدفاع عن القلاع الحربية فإن العثمانيين اضافوا إلى جنودها فرقاً أخرى من الفرسان، والمشاة وايضا المدفعجية أو الطوبجية حسب الاصطلاح العثماني ومن وقتها صارت القلعة تعرف باسم الطابية ولكن الضعف الذي دب في اوصال الدولة العثمانية أدى إلى إهمال أمر القلعة في القرن الثامن عشر الميلادي ولذا لم يجد بونابرت أي صعوبة في التغلب على الحامية العثمانية للقلعة بفضل مدفعية البحرية الفرنسية الحديثة وخيبت القلعة آمال اهل الاسكندرية الذين خاضوا معارك برية يائسة ضد قوات الحملة الفرنسية انتهت بالاستسلام ثم إعدام قائد المقاومة محمد كريم·
أسرة محمد علي
خلال عصر أسرة محمد علي وقع الاهتمام الكبير بتحصين طابية قايتباي وادخلت تعديلات على بنيانها لاستيعاب التطورات الكبيرة في مجال التسلح فتمت تقوية اسوارها وتجديد مبانيها وزودت بالمدفعية الساحلية لتكون واسطة عقد من الطوابي التي شيدها محمد علي بدءاً من حدود مصر مع ليبيا وحتى ثغر دمياط· وقام الخديو اسماعيل ايضا بإعادة تحصين هذه الطابية وزودها بمدافع ارمسترونج البريطانية· وحاول احمد عرابي الافادة من هذه الطابية في مواجهة اسطول نيلسون البريطاني ولكن المدفعية البريطانية قهرت القلعة العتيدة وإصابتها اصابات مباشرة وان لم تفلح محاولات الانزال البري على شاطئ الاسكندرية الامر الذي دعا البريطانيين الى استخدام قناة السويس وابتداء من احتلال الانجليز لمصر جرى إهمال أمر قلعة قايتباي حتى تحولت الى اطلال وتداركتها في نهاية المطاف عناية لجنة حفظ الآثار العربية في عام 1904 فأعادت ترميمها بالكامل على هدى الرسوم والتصميمات التي سجلها علماء الحملة الفرنسية في كتابهم الشهير ''وصف مصر''·
وتحتل القلعة مساحة قدرها 17550 متراً مربعاً ويحيط بهذه المساحة سور خارجي من الجهات الأربع شيد بالاحجار الجيرية الصلبة، ويطل الضلع الشرقي من هذا السور على البحر ويبلغ سمك جدرانه مترين وارتفاعه ثمانية أمتار وهو سور مصمت لم تشيد به اي ابراج دفاعية أما الضلع الغربي والذي كان من المفترض ان يواجه هجمات حربية قادمة من أوروبا فسمكه يزيد على المترين وقد شيدت به ثلاثة أبراج ويعتبر اقدم الاجزاء المملوكية الباقية في القلعة، والحقت ايضا ثلاثة أبراج بالسور الجنوبي المطل على الميناء الشرقي للإسكندرية وبه يقع مدخل القلعة اما الضلع الشمالي المطل على البحر فينقسم الى قسمين السفلي منهما عبارة عن ممر كبير مسقوف بني على الأرض الصلبة مباشرة وبه عدة حجرات لتخزين العتاد العسكري، والجزء العلوي ممر به فتحات ضيقة تطل على البحر·
وهناك ايضاً سور داخلي لهذه القلعة شيد بالأحجار الجيرية الصلبة ويمثل خط الدفاع الأخير عن البرج الرئيسي للقلعة وهو يحيط بها من جهات ثلاث فيما تركت الجهة الشمالية المطلة على البحر لواجهة البرج·
ويتخلل هذا السور من الداخل مجموعة من الحجرات المتجاورة التي جرى ترميمها في العصر العثماني لتكون ثكنات لرجال الحامية وفيما عدا أبواب هذه الحجرات لا توجد فتحات اخرى سوى مزاغل ضيقة لرماة البنادق وهذه المزاغل تلعب دور فتحات التهوية والاضاءة للحجرات·
أما وحدة الدفاع الرئيسية في القلعة فهي البرج الضخم الذي يحتل الناحية الشمالية الغربية من البناء وهو كتلة معمارية ضخمة مربعة المسقط ويخرج من كل ركن من أركانه الأربعة برج دائري يرتفع عن مستوى سطح البرج الرئيسي وهو ما يتيح للمدافعين مجابهة محاولات الحصار البحري والبري·
وقد زود البرج الرئيسي بعدد من السقاطات من البحر أو البر حيث توجد هذه السقاطات فوق المدخل، وكانت تستخدم في إلقاء المواد الحارقة على المهاجمين الذين يحاولون اقتحام البرج· ويتألف البرج الرئيسي من ثلاثة طوابق يختلف كل واحد منها عن الاخر في التخطيط والارتفاع·
فالطابق الارضي يشغله المسجد الملحق بالقلعة وهو غالبا من العصر العثماني وتوجد بالطابق الثاني عدة حجرات مختلفة في المساحة اما الطابق الثالث فتوجد به ايضا عدة حجرات صغيرة متشابهة تفصل بينها ممرات وتستخدم لإقامة الجند المدافعين عن القلعة·
وزائر قلعة قايتباي سيجد في الساحة التي تسبق المدخل الرئيسي للبرج الكبير عددا من المدافع القديمة، بعضها كان في القلعة والبعض الآخر حمل اليها من الطوابي القريبة لاسيما الواقعة على الطريق إلى رشيد·
بقايا الفنار
منذ عدة سنوات يعمل فريق من المستكشفين الفرنسيين في المياه المحيطة بالقلعة من اجل الكشف عن بقايا فنار الإسكندرية القديم والذي يعتقد أن أحجاره تقبع تحت البحر بعدما انهار بسبب الزلازل، وهم يعرفون ان واجهته كانت تحمل لوحة تذكارية نقشت بها حروف يونانية ضخمة ويمنون النفس بالعثور على هذه اللوحة او اجزاء منها للبرهنة على ان الكتل الحجرية الضخمة الغارقة بالموقع هي انقاض الفنار·
ويعارض هؤلاء آراء المؤرخين الذين يعتقدون أن هذه الكتل قد القيت عمدا لاغراض الدفاع عن القلعة واعاقة اقتراب السفن المعادية منها لان بعض هذه الكتل يصل طوله إلى 12 مترا ويزيد وزن بعضها على 75 طنا وقد تراصت على القاع في موقع الفنار في شكل خطي وفي بعض منها شروخ تقسمه إلى قطعتين او ثلاث وذلك حسب اعتقادهم لانها سقطت من ارتفاع كبير بعد ان ضرب الزلزال موقع الفنار·
والقطعة الوحيدة الكبيرة التي انتشلت في عام 1995 ثبت انها عبارة عن لوح جرانيتي طوله 11 متراً ونصف المتر وفي احد طرفيها تجويف مستدير عززت من الاعتقاد بأن الاحجار الضخمة بالموقع يمكن ان تكون أجزاء من فنار الاسكندرية القديم·
وتجدر الاشارة إلى انه عثر في اعماق المياه على بقايا تماثيل مصرية قديمة تشبه تمثال أبو الهول، كما وجد الغواصون بالموقع ثلاث كتل مخروطية ضخمة عليها نقوش هيروغليفية يدل تكوينها المخروطي على انها أجزاء من مسلة مصرية تم نحتها من كتلة جرانيتية واحدة وتشير كتاباتها الى انها تعود إلى حوالي ألف عام قبل انشاء الإسكندرية ذاتها· ومن المرجح ان هذه المسلة قد حملت من صعيد مصر عبر النيل بعد تقطيعها لتستخدم في تشييد قاعدة الفنار أو بعض جدرانه·
ولكن يبقى لمكان الفنار القديم وقلعة قايتباي الحالية اثر لا يمحى من الذاكرة ويكفي ان الجزيرة التي عرفت قديماً باسم فاروس منحت اسمها بعد تشييد الفنار القديم فوق ارضها ليكون اسما علما على اصطلاح منار او فنار في اللغات الأوروبية حتى ان الاصطلاح المستخدم للدلالة على علم الفنارات هو كلمة فارولوجي يفصح بجلاء عن تحدره من اسم جزيرة فاروس·
واذا كان النصف الأول من القرن العشرين قد شهد محاولات يائسة من المستكشفين للبحث عن قبر الاسكندر الاكبر فإن اخريات هذا القرن شهدت بداية حمى البحث عن الاثار الغارقة في البحر املا في العثور على بقايا فنار الإسكندرية القديم·
المصدر: القاهرة