9 مايو 2011 20:07
تتمتع المُجاهدات اللواتي ساهمن في ثورة التحرير الجزائرية “1 نوفمبر 1954- 5 يوليو 1962”، بمكانة كبيرة في قلوب الجزائريين، بالنظر إلى الدور الذي أدِّينه في الثورة وشجاعتهن ومخاطرتهن بحياتهن وبطولاتهن الفذة وعملياتهن الجريئة ضد عساكر الاستعمار الفرنسي التي خلفت صدى واسعاً داخل البلاد وفي الخارج، فضلاً عن صبرهن وتحمّلهن السجن والتعذيب إيماناً منهن بضرورة التضحية دون حدود للإسهام في تحرير بلدهن من الاحتلال.
ليست هناك إحصائية رسمية عن عدد المجاهدات اللواتي انخرطن في الثورة الجزائرية، كل ما هو معروف هو عدد الشهيدات وأشهرهن وكيفية استشهادهن، حيث يقوم التلفزيون الجزائري كل سنة باحياء ذكرى أشهر الشهيدات وفي مقدمتهن حسيبة بن بوعلي التي التحقت بالثورة وعمرها 17 سنة فقط، وكانت تضع القنابل للجنود والمعمِّرين الفرنسيين في مطاعم ومقاهي يرتادونها، كما كانت إحدى قائدات “معركة الجزائر العاصمة” التي اندلعت سنة 1956 واستمرت عاماً، واستشهدت حسيبة برفقة القائد علي لابوانت وقائد آخر حينما اكتشفت فرنسا مخبأهم وحاصرته وطالبتهم بالاستسلام، فرفضوا قطعاً، ما دفعها إلى نسف المخبأ.
مهام نسائية
وتقول المجاهدة لويزة إغيل أحريز إن “عدد المجاهدات اللواتي شاركن في معركة الجزائر يبلغ نحو 150 مجاهدة، ومنهن 90 تعرفتُ عليهن في سجن الحراش”. بينما تؤكد المجاهدة خديجة بن قدور من ولاية الشلف “210 كلم غرب الجزائر” إن “عددهن بالآلاف في كل أنحاء الجزائر، ومنهن 550 مجاهدة تعرفتُ عليهن في منطقة الشلف وعين الدفلى وحدها، حينما تجندتُ عام 1959 كممرِّضة”، وتضيف بن قدور إنه تمّ اسنادُ مهام مختلفة لهن، كمعالجة المجاهدين الذين يُجرحون في المعارك ونقل الأسلحة والرسائل وغيرها من المهام الثورية في الجبال والأرياف، ولكن اقتصار الحديث، منذ الاستقلال إلى الآن، عن المُشارِكات في “معركة الجزائر العاصمة” أعطى الانطباع لعامة الجزائريين بقلة عددهن.
وبحسب شهادات العديد من المجاهدات، فإن المهام التي أسندتها لهن “جبهة التحرير الوطني” التي قادت الثورة ضد الاستعمار الفرنسي، عديدة، ومنها نقل الأسلحة والمتفجرات والقنابل في “قُِفف” لضمان الإفلات من تفتيش العدو في الحواجز، ووضع القنابل في الأماكن التي يرتادها جنوده، وإخفاء المجاهدين في البيوت، ورصد تحركات عساكر فرنسا، ونقل الرسائل بين قادة المجاهدين والتمريض.
حاجة الثورة
لم تكن “جبهة التحرير الوطني” تفكِّر في تجنيد النساء للمشاركة في الثورة التحريرية في البداية، فقد كان عدد المتطوعين الرجال في الثورة كبيراً ويُغني عن الاستعانة بالنساء إلا في اطار الدعم اللوجيستي، لكنها بمرور الوقت، شعرت بأن تجنيد النساء سيحقق نتائج أفضل. وتشرح المجاهدة زهرة ظريف هذه النقطة بالقول “كانت جبهة التحرير تسند إلينا في البداية مهاماً ثانوية كالاتصال بعائلات المجاهدين وتبليغها رسائل منهم أو مساعدات مالية تؤمِّنها لهم الجبهة وكذا نقل رسائل بين قادتها، ولكن بمرور الوقت لاحظتْ أن أغلب الفدائيين الذين ينفذون عمليات ضد الجنود الفرنسيين لا ينجون بحياتهم بسبب التعاون الوثيق بين الجنود والمعمِّرين الفرنسيين والأوروبيين بالجزائر، حيث كان التعرفُ على ملامح المجاهدين سهلاً، فاهتدت الجبهة إلى فكرة تجنيدنا للقيام بعمليات مسلحة لأن ملامحنا الأوروبية تصعِّب التعرف علينا، وقد نجحت الفكرة وقامت العديد من المجاهدات بعمليات تفجير شهيرة بعد التسلل إلى مقاهي وأماكن تغص بالجنود الفرنسيين ووضعت فيها قففاً مليئة بالقنابل، وخلفت العمليات خسائر فادحة في صفوفهم وكذا صدى إعلامياً دولياً كبيراً”. اللافت للانتباه أن أغلب من تمّ تجنيدُهن لهذا الغرض كن في سن الشباب وبعضهن لا يتجاوز عمرها 17 سنة، وكانت أغلبُهن طالبات في مدارس ثانوية أو جامعات فرنسية ويدرسن مع أبناء المعمّرين، وحينما بدأت “معركة الجزائر” وجهت “جبهة التحرير” نداءً لكل الطلبة الجزائريين بترك مقاعد الدراسة والالتحاق بصفوف الثورة، فاستجابوا للنداء جماعياً ومنهم عدد من المجاهدات، فتمّ تجنيدُ الكثير منهن كـ “واضعات قنابل” وقسِّمن إلى أفواج عديدة لكل فوج قائد.
في بيت بوحيرد
تروي المجاهدة المعروفة جميلة بوعزة كيفية عمل المجاهدات في “معركة الجزائر” من خلال الحديث عن فوجها، بالقول: “لقد أسندت إليَّ وإلى زهرة ظريف وجميلة بوحيرد مهمة وضع القنابل في المقاهي والمطاعم الفرنسية التي يتردد عليها جنودُها، وكانت القنابل تصنّع في بيت بوحيرد بمنطقة “القصبة” والذي تحوَّل إلى ورشة، وبعدها تقوم بنقلها إلينا، لنستلمها منها قرب مسجد “كتشاوة” وتنطلق بعدها كل واحدة منها إلى هدفها”.
وتذكر جميلة بوعزة أسماء أشهر “واضعات القنابل” في فوجها، ومنهن، إضافة إلى بوحيرد وظريف، الشهيدتين حسيبة بن بوعلي وباية حسين، والمجاهدات فلة حاج محفوظ ولويزة أحريز وسامية لخضاري. أما الأكثر إثارة في الأمر فهو مشاركة شيوعيات فرنسيات في المهمّة ومنهن جاكلين قروج وابنتها دانيال مين وآني شتاينر وبلانش موان، ما يدل على مدى عدالة القضية الجزائرية التي كسبت تعاطفاً كبيراً حتى من طرف بعض الفرنسيين.
تعذيبٌ جهنمي
تلقت فرنسا الاستعمارية ضرباتٍ قاصمة من “واضعات القنابل” والثوار في “معركة الجزائر” أفقدتها توازنها، فضاعفت عددَ جنودها وشرعت بحملة تنكيل وقمع واسعة لسكان “القصبة” وقبضت على الآلاف منهم ومارست عليهم تعذيباً رهيباً أفضى إلى اعتراف بعضهم بأماكن اختباء المجاهدين، فبدأت الأمور تتداعى وتمّ القبض على عشرات المجاهدات وايداعهن السجن حيث مارست فرنسا تعذيباً جهنمياً ضد الكثيرات منهن، وأشهرهن جميلة بوحيرد التي أسرها الفرنسيون بعد مطاردتها وجرحها برصاصة في الكتف، وكذا لويزة أحريز، وقالت لويزة إن التعذيب الذي تعرضت له لا تتمناه لعدوها ولا للكلاب، وهي تشعر بألمه النفسي إلى اليوم. أما بوحيرد فقصتُها أصبحت معروفة بعد ان تحرك العالم كله ليندد بتعذيبها 15 يوماً متواصلاً أفقدها وعيَها وسبب لها العديد من الأمراض إلى حد الساعة، وكان من المنتظر أن يُنفذ الإعدام بحقهن جميعاً بعد أن صدرت أحكامٌ قضائية فرنسية بذلك، إلا أن الضغط الدولي أرغم الرئيس دوجول على تخفيف عقوبتهن وتركهن في السجن ورفع التعذيب عنهن، وبقيت عشراتُ المجاهدات قابعاتٍ في السجون بالجزائر ثم بفرنسا إلى غاية توصل قائدة الثورة “جبهة التحرير الوطني” إلى اتفاق وقف اطلاق النار مع فرنسا في 19 مارس 1962، حيث حققت الثورة الجزائرية المعجزة بعد 132 سنة من الاحتلال الفرنسي، واستعادت استقلالَ البلد رسمياً في 5 يوليو 1962، بفضل تضحيات ما يقرب من مليون ونصف مليون شهيد وصمود وبسالة المجاهدين والمجاهدات.
تهميش بعد الاستقلال
بعد الاستقلال، تعرضت المجاهدات إلى ما يشبه التهميش واستأثر رفاقُ الثورة بالحكم، تقول لويزة أحريز “قالوا لنا: لقد قمتن بواجبكن، وانتهى دورُكن، وحان الوقت لتتفرّغن لإقامة أُسر وإنجاب أطفال يخلفون هذا العدد الكبير من الشهداء”.
وكان من نتائج الانسحاب من الأضواء أن بعض شباب الاستقلال يعتقد أن جميلة بوحيرد وجميلة بوعزة “شهيدتان”، وقد رفض شرطيٌ التصديق ذات مرة بأن المرأة التي أوقفها في حاجز أمني تحمل اسم جميلة بوحيرد وبقي للحظات مذهولاً مرتبكاً لأنه كان يعتقد أنها “استشهدت”. ولم تزل هذه الصورة الغريبة، إلا بعد أن بدأ الإعلام الجزائري يسلط الضوء في السنوات الأخيرة على المجاهدات اللواتي لا زلن على قيد الحياة، وينقل شهاداتهن عن قضايا عديدة لا تزال تُثار في الساحة بعد مرور نحو نصف قرن على استقلال البلد، ومنها ضرورة كتابة تاريخ الثورة وكذا مقاضاة فرنسا أمام المحاكم الدولية على جرائمها الاستعمارية الكثيرة ضد الإنسانية، وضرورة وضع قانون يجرِّمها ويطالبها بالاعتراف بجرائمها والاعتذار والتعويض عنها.
المصدر: الجزائر