نوف الموسى (دبي)
ما هو ضروري في الثقافة الإبداعية، وبالأخص الشعر، هو أن تبحث، أحياناً، عن أسئلة الشاعر، وتُعيد قراءتها للعابرين من الكتّاب والمتذوقين والجمهور. هو أن تحول كل قصيدة إلى قضية رأي عام، أن تتناولها كأنها الأسئلة الأبجدية عن الوجود والحياة وحتى الأوطان. وربما أهم ما تحتاجه الثقافة في الإمارات اليوم، هو أن نؤكد للمبدعين أن جّل ما يطرحونه في أحاديثهم وهمساتهم، يكاد يشغلنا كذلك، ونجلس أحياناً في أوقاتنا العصيبة والمريحة، نتفكر لماذا كُتب ذلك الشطر المليء بزهو التجاوز، بحثاً عن الحقيقة، وأيةُ حقيقةٍ يا تُرى؟
في حوار سابق مع المخرجة والشاعرة نجوم الغانم لـ«الاتحاد»، استأذنتها أن تقرأ قصيدتها «الظِّلال القُرْمُزيّة» بصوتها، بينما كنّا نجلس في الاستوديو الفني الخاص بها، المحفوف بحفيف أشجار بيتها. أما السر في رغبة الاستماع للقصيدة، فهو السعي، عبر المشاهدة والمشاركة اللحظية، لأن نُخبر الشاعر بصيغة أُخرى، بأننا نتشارك كل شيء!
من يعرف الشاعرة نجوم الغانم أو استمع لها وهي تقرأ قصائدها، يُدرك مدى تأثير جدية مخارج الفصحى، وهي تتغنى بمقطع من قصيدتها: «غَسلْتَ الطُّرُقاتِ بالمِلحِ لِئلا يبقى من رائحتِنا، شيءٌ عالقٌ في الحَجر»، بجانب الاستوديو الفني هناك حوض سباحة، يتراءى للناظر بأنه بحيرةٌ زمردية، تنعكس عليها أسراب أشعة الشمس، كمرايا متكسرة، رماها صاحبها لئلا تراوده نفسه، بأن يختلس النظر فيها مجدداً، كأي فراقٍ لابد منه، ولكن لا مفر منه. كنتُ لحظتها أستمع لنجوم تردد: «هكذا كَقُبلةِ الغيمة للغيمة، نَشتعِلُ كُلما اقْترَبَتْ أرواحُنا وينهمر المطرُ على العالَمِ، كالقُبْلة فوقَ القُبْلةِ». وبهدوء تأملت ألوان نجوم الغانم وفُرشاتها المرمية على سطح الطاولة الخشبية، وسألتها: لم كل هذه «الوجوه»، بعيداً عن كونه مشروعاً فنياً؟
أرجعتني إلى معرض «بروتوتايب» للفنان محمد المزروعي، ومحاولته في اختراق حاجز الوجه الصامت، باعتبار الجسد هو إحدى الهالات المربكة في التصور الكوني، وفي كلا التأملين، نتساءل: إذاً لا تزال أجسادنا مصدر أسئلتنا البدائية؟!
«بَكيْتُ عليكَ حتّى احْترَقَ قلبي بجُرْحِ الغِيابِ، ورَغمَ سطْوةِ الحُزن خبّأتُ لعودتكَ قوافي «حافظ»، وظِلَّ الأنْجُم القُرمزيّةِ، تركْتُ النوافذَ مشرعةً تحت سماء أيْلول، وحينَ لم تأتِ تعلمتُ مناداة الريح»، عندما انتهت من كلمة الريح، كنتُ أنظرُ تماماً إلى ريشة طاووس، معلقة على سقف الاستوديو، ولفتَني كيف أن لرمزية الريح دائماً حرية توهم الفراق، الذي لا يحصلُ أبداً، فكل الذين ذهبوا نسجوا في أرواحنا ذاكرة، تلك الشفرة المتشكلة في حيوات أبدية. الوصف الدقيق لكل قصيدة يتطلب مواجهة ما مع الشاعر، أو ربما تلاشي الشاعر نفسه أمام القصيدة. ففي تلك البرهة التي يشارك فيها الجمهور القصيدة، سيُخلق لها مدى جديد، سنكتب نحن من بعدها نفس الأسئلة بطريقتنا، وسنكتشف بأنه لا وجود للإجابات، أسئلتنا محاولة لرفع أصواتنا الداخلية، من عملية همسٍ محض إلى أغنية!
وبذلك تتجلى الأغنيات كأنها مراسي اللقاء بيننا، دون مواعيد، فعلٌ عفوي للحياة، عندما نكون في قمة انسجامنا، لنتذكر مجدداً أننا هنا ليعبر كل جمال الكون من خلالنا، كما فعل «الجسر» في قصيدة «الظِّلال القُرْمُزيّة»، قالت نجوم: «أما مَضائقُ البلدانِ فكانت الجسرَ الذي سأعبره لأصِل َإلى قلبكَ، كنا سنفتحُ قمصان المساءاتِ ونتداوى بالقُبلاتِ، لكنكَ أخذت الأناشيدَ من يديها وبقيت هناك في البحور «الطويلة»، تختبرُ وَقْعَ أوزانِها وتُقلّبُ المَوجَ…».