السبت 23 نوفمبر 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

في روايات سلطان العميمي ولولوة المنصوري.. المخاتلة السردية

في روايات سلطان العميمي ولولوة المنصوري.. المخاتلة السردية
25 يوليو 2019 04:35

نبيل سليمان

في وفرة من الروايات العربية، وبخاصة ما كان منها للأصوات الجديدة أو الشابة، يتواتر أن تظهر الكاتبة كشخصية روائية، أو أن تسوق الكاتبة في الرواية تعليقاً على نفسها أو على روايتها، أو أن تستبق الرواية نقدها فتنقد نفسها، أو أن تخرق (العمود الروائي) الذي يذكر بالعمود الشعري، أي ما استقر من أركان للرواية. وكل ذلك، وما ماثله، يأتي في سياق التجريب الروائي الذي يحاول الانتساب، أو تجري نسبته، إلى ما بعد الحداثة. وكل ذلك، أو ما ماثله، يتسمى غالباً بالميتاسرد، ونادراً بالمخاتلة السردية، وهذا النادر هو ما أؤثره على الغالب، ليس تأصيلاً لغوياً للمصطلح وحسب، بل زعماً بأنه أشمل للكثير الذي يؤشر إليه أو يعنيه هذا (اللعب الروائي) البديع حُسْناً وزماناً. ومن تجلياته في الرواية الإماراتية هاته الروايات الثلاث:
غرفة واحدة لا تكفي - 2016:
ما إن تشرع بقراءة هذه الرواية لسلطان العميمي حتى تومئ لك رواية صنع الله إبراهيم (التلصص- 2007). وبين الرواية والتلصص وثاق قديم، سأكتفي منه بالإشارة إلى رواية هنري باربوس (الجحيم - 1918) التي يتحول فيها ثقب صغير في جدار الغرفة إلى نافذة عريضة مطلة، ويتحول البطل فيها إلى عين مشرعة.
بفصل التلصص كسلوك قهري يصاحبه اضطراب نفسي (voyeuristic: أي استراق النظر بتلذذ لمشهد إيروتيكي)، عن التلصص في رواية باربوس أو صنع الله أو العميمي، بون وخلاف. فالتلصص في هذه الروايات هو استراق النظر بعامة (voyeurisme). وقد آثرت عليه (البصبصة) في كتاب (وعي الذات والعالم - 1984) لأنها تميل إلى الفضول عن السرقة. ومنه يلي القول بالبصّاص بدلاً من المتلصص أو الموصوص (voyeur). ولئن عرفت البصبصة من قبل من ثقب الباب أو من وراء ستارة -مثلاً- فقد بتنا اليوم أمام البصبصة الفيسبوكية، وما أدراك.
السارد في رواية (غرفة واحدة لا تكفي) هو كاتب للقصة يجد نفسه فجأة حبيس غرفة. ومن ثقب بابها يدقق النظر إلى الغرفة المجاورة فإذا بشخص ثمة، هو شبيهه، بل هو إياه. وهذا الشبيه يحمل مغلفاً عنوانه (ذلك الشيء المتحرك - رواية). ولكي يقاوم الحبيس ما هو فيه يقرر أن يكتب، وفي المخاتلة يتساءل عما إذا كان سيكتب مذكرات حبسه في الغرفة، وهذه سيعنونها: حين راقبت نفسي، وستكون الجزء الثاني من سيرة رجل وجد شبيهه. لكن الرواية تمضي إلى قصة جد السارد الذي يحمل، كجده وأبيه، الاسم نفسه: قرواش. وقد جعلت المخاتلة لقصة الجد أربعة رواة عملوا عنده حين كان النوخدة، وعاقبهم، فرحلوا، لكنهم يظفرون بالجد ويمسخونه. وبالإضافة إلى أولاء الرواة يحضر الجد نفسه كراوٍ، وتحضر أم السارد، وامرأة من قرية مجاورة تنفي أن يكون الجد الذي اختفى طويلاً مسحوراً، بل هامَ بحثاً عن امرأة هي الشاب (هلال) البحار الذي كان معه، وليس هلال غير فتاة سحرها طائر. وبعد اختفائها راح الجد يبحث عنها.
يتعدد الرواة إذن، مما يوقع السارد في حيرة كبيرة من حقيقة ما حدث لجده. وإلى ما يكتب كل يوم عن جده، يكتب عن حالته، قي دفتر جده أو في دفتر يومياته. ويقلقه كل ما سمع من أن كل من سُجن منفرداً قد خرج غير سويّ نفسياً. ولا غرو، فصاحبنا لم يسمع بالسجون السياسية العربية ومثيلاتها، والتي يخرج من زنازينها سجناء انفراديون معلولين أو أصحاء جسدياً، لكنهم أصحاء نفسياً، بالطبع عدا عمن يخرجون معلولين نفسياً أيضاً.
بلغة الحوار المسرحي الخاطفة، وعبر المحاورة الهاتفية الملونة بالبوليسية، يتلقى السارد الاتصال ممن يصدعه: أنت مجرد وهم، خيال، كائن غير حقيقي، وأنا من صنعك واخترعك لتكون محور هذا العمل، على أن تشبهني جداً. ويمضي المتصل بهذه المخاتلة السردية المشوقة إلى أن الجد ليس جده هو ولا جد السارد، بل شخصية قديمة سمع هو عنها، ويحث عن قصتها سنوات. وتبلغ اللعبة مداها حين يخاطب الشبيه سارد الرواية: «كنت أكتبك». وهنا يحضر التلصص صريحاً، لكنه (التلصص الجميل) كما يصفه الشبيه شارحاً: «عندما نقرأ لكاتب ما فإننا نتلصص على أفكاره». ويعدّ قصة قرواش والرواة تلصصاً على سيرة شخص، لا يعرف هو حقيقة ما حدث له. والشبيه مدرك لما كان السارد يفعل: إنها ممارسة التلصص من ثقب الباب.
في نهاية الرواية تمضي المخاتلة إلى أن يفتح الشبيه الباب للسارد الحبيس ويطلقه من حبسه، ناقلاً (صوت المتحدث) أي مهمة السرد في الرواية إليه هو نفسه. وهكذا تُقفَل الرواية بإغلاق المؤلف باب الشخصية، وعودته إلى الكتابة في مخطط عمله الأدبي الجديد، دون أن ينتبه إلى تلك (العين الجديدة المتلصصة) عليه من ثقب باب الغرفة نفسها، فهل هي أبدية التلصص؟
يطرز الكاتب هذه المخاتلة السردية بباقة من الأفلام السينمائية التي شاهدها السارد والشبيه، ومنها فيلم توم هانكس (cast away) الذي سقطت فيه الطائرة فرأى البطل تشوك نفسه في جزيرة، يرى السارد أن غرفته مثلها. وكما كان على تشوك أن يعيد خلق عالمه في الجزيرة، كان على السارد أن يفعل. وقد تطرزت رواية العميمي أيضاً بباقة من الروايات، منها ما رأى نفسه شبيهاً لبطلها (الجميلات النائمات)، ومنها ما استعاده من أجل قصة مسخ الجد: (التحولات) للوكيوس أبوليوس التي أفضّل على ترجماتها ترجمة علي فهمي خشيم أو عمار جلاص. ولم يوفّر التطريز الأغاني، جرياً على السّنّة المتواترة في الرواية العربية مما جعله فائضاً، كما كان مع كتاب (الهويات القاتلة) أو مع نقد رواية كاواباتا.
قوس الرمل: ملهاة المهد والماء - 2019
ليس أكثر ولا أمتع ولا أعقد من أفانين المخاتلة السردية في هذه الرواية للولوة المنصوري. وأول ذلك هو تجنيس الرواية بالكتاب في متنها، بينما سطعت على الغلاف وفي المتن أيضاً كلمة (رواية). وكان آخرون قد جنّسوا رواياتهم بالكتاب وحسب، كما فعل صلاح الدين بوجاه في (كتاب النخاس) أو واسيني الأعرج في (كتاب الأمير). ولا يخفى في سائر الأحوال الطموح إلى الخروج من متطلبات الجنس الروائي إلى رحابة مفهوم الكتاب. وقد أسرعت (قوس الرمل)، منذ البداية، إلى أنها كتاب هو (بيوغرافيا الماء) الأقرب إلى التأمل والتداعي الروحي بالمسيرة التاريخية والجيولوجية للماء. وسيلي أن كتاب (قوس الرمل) هو سرد المكان في ماء الزمان.
إذا كان مفهوم الكتاب ييسّر للقول بالسرد البحثي، وبأن هذا السرد غوص يؤثث دربه بالشك، فالتجريب يمضي بالمخاتلة السردية إلى أن تكون نشداناً للماء بما هو سائل أموي مركب من الشعر والسرد، من الذاكرة والبحث. ويتعزز ذلك بالحديث عن الشكل الروحي للماء، وعن أن الماء حر وتنويري. والكتابة عن الماء لا بد أن تشبهه، فتكون تياراً. وها هو بناء الرواية ينهض في أربعة مصبات، وفي تسلسل معكوس، ابتداءً بالرابع. فالمصب يتعلق بالماء، وينضّد البناء الذي تتعانق فيه النقائض: الغموض والشفافية، الصحراء والماء، الذهب الأبيض (الماء) والذهب الأسود (النفط)، الغرائبي والواقعي...
من المخاتلة السردية في (قوس الرمل) التباس الراوي سواء بتلويحه للكاتبة، أم بتعدده. فالجمجمة، مثلاً، تصرخ بالسارد معلنة أنها من أهل نوح (الناجين) وآمرة بأن بفتح (باب الرواية) لتدخل. كذلك هو خوف السارد من الحبكة التي سيرميها في السرد، وتردده في وضع النقطة الأخيرة في الرواية، ومنحه في ختام الرواية حصة من السرد لآخر جندي حرس مناجم الربع الخالي. وفي هذا الختام تأتي مفاجأة انبثاق طيران امرأة الماء، حيث كتب السارد ساخراً: «وحدها من عرفت سر الماء»، ومن خارج باب (النص) يتردد صدى نداء شخصيات الرواية لمن يفتح باب (النص)، كي يعيدها إليه. وإثر الأمر للسارد بأن يدخل تأتي سطور فارغة، إلى أن تتوجها عبارة (وأكمل النمو).
ومن المخاتلة السردية أيضاً المدونات التي جاءت في المصبّ (الفصل) الثالث، بعدما اشتبك الراوي بعروق (طمي الحكاية) في الماء، وبعدما زحف الدود الأسود عقب الفيضان (علينا) وعلى (كل الحكاية). وقد حملت المدونات أرقاماً وتواريخ، وأشبهت ضربات الريشة أو السكين في لوحة فنية تترامى مما قبل التاريخ إلى زمن كتابه الرواية، وتشتبك فيها إبادة مليون من الهنود الحمر في أميركا الشمالية، مما لم يعتبر جريمة حتى الآن، إلى تدمير هولاكو لمكتبات بغداد، إلى تدمير داعش لمتحف مدينة تدمر السورية. وقد جاء في المدونة رقم 133 غير المؤرخة: «أن التاريخ المعاصر يتعرض للتزييف والتحريف والتشويه وفقاً لأغراض المتعصبين قومياً ودينياً وسياسياً، فما بالنا بالتاريخ القديم!».
يلحّ عليّ أن أستعير من محمد منصف الوهايبي بصدد (قوس الرمل) مما قدّم به لرواية - كتاب (النحاس) أنه قرنها إلى فن التوريق (الآرابيسك)، لأنها تقوم على تفريع الأصول، قبل أن يسم التعريج فيها الفروع، ثم تنكفئ الفروع على نفسها لتستدعي (ألف ليلة وليلة). ولعل (قوس الرمل) أولى بهذا القول النقدي الدقيق والشامل والبديع، على الرغم من أن الإلحاح على مضارعة اللغة الروائية للشعر قد آذى جمالية الرواية مراراً. فمن اختفاء حليمة الأربعائي إلى حرزها وصورة الحرز في الرواية، إلى خروج الظل من الجسد، إلى طائر الرخ، إلى الدود الذي طفح على البلاد واستعمر (حياتنا) و(أقحمنا) في ذل كبير، إلى الحجر السيار، إلى خرائب وَبَار... يتفجر العجائبي والغرائبي، يتفجر الفانتاستيك. وفي الآن نفسه، يتعرى الواقع، لتظهر البداوة والصحراء، وتتحول بلدة إلى ومضة من ملح، لكأنها تلوح إلى (مدن الملح) وتترحم على عبدالرحمن منيف. وفي التعرية الجارحة للواقع تأتي صورة زمننا الذي «ترهلت هويته بعد أن شربنا من كسل الأشياء، وتوضأنا من أخبار العالم وأوراق البنكنوت، وسكن فينا الخوف من جفاف الآبار الواحد وراء الآخر، وسيطر علينا الرعب من البقاء وحيدين في مواجهة الربع الخراب». وترسل الرواية نبوءتها في جفاف آخر بئر للنفط، وفي مضاعفة الطمع (فينا)، لأن الصحراء ستنتفض بطاقة الشمس، والمعادن المشعة ستبرز، والرمال الزجاجية ستتكثف. وليومنا وغدنا تطلق الرواية السؤال اللائب: «لِمَ لا ننشغل في اتحادنا وتكاتفنا لتطهير الأرض واستخراج الماء بسواعدنا؟»، فحرب الماء أشد من حرب النار والنواة.

خرجنا من ضلع جبل - 2014:
يقع المرء في هذه الرواية على وفرة من جذور العلامات الفارقة في (قوس الرمل). ففي البناء المقطعي للرواية، وحيث تتوالى الفقرات مرقمة وغير معنونة، تأخذ الراوية هند بوصية أمها، بألا تُغضب بالغناء جبل جيس الذي يأكل نفسه ويكبر، وهو أعلى جبل في الإمارات على الساحل، شمال إمارة رأس الخيمة. وفي كل صباح تثقب هند في جدار المقبرة بحثاً عن (حجاب الموت) المطمور تحت الجدار الطيني. غير أن جدة هند تصرخ دائماً أن الحجاب ليس في المقبرة، بل في الصخرة التي انبجست من رأس جبل جيس، ومنها خرجت اللعنات على روح البلدة المنزلقة في الخطايا، والمبتلاة بداء الكهولة، والتي لا تخلع سوادها: البلدة المحرمة التي قست القلوب فيها.
تتعزز المخاتلة السردية بهذا الفانتاستيك، كما تتعزز بحضور الكاتبة في الرواية /‏‏ الكتاب. ففي المفصل (ل و)، وبعد تهجئة الاسم الأول للكاتبة نقرأ: «ستكتب هذه المرأة أكاذيب البلدة في كتاب يصدقه عاشقو الكذب. اعرفوا أنها امرأة من كبد جيس، تُنبت نفسها وتنمو ثم تنام في قبر مجهول». وتتضاعف المخاتلة السردية في حضور هيثم يعقوب ومخطوطة الرواية. فهذا الذي التقته هند في كهف الجبل يدعوها إلى أن تكتب كل شيء عن البلدة: «دوّني كل أكاذيبها وحكاياها». وهند تعزم على أن تحفظ ذاكرة الجماعة من الضياع، وترى حكاية البلدة ذات موت مفتوح، وتروم نصاً متشعباً ومنفتح الدلالات. أما ما هو أبعد من ذلك فيأتي في إهاب (أحمد) الذي يقفز من خارج الزمن إلى داخل النص، ويتجول بين أوردة دماء الحكاية. وبينما تشكو هند من أن أحمد يأكل من نصها، يهيكل هو النص، ويكتب فاتحة لفقرة (قفص) حيث باب القفص مفتوح، والعصافير هي التي تسجنه. وفي الختام تكتب هند أن أحمد يسرق قلمها، ويكتب على جسد النص، فتفكر في أن تغلق عليه كل النصوص ليختفي، وفي أن تضع الكثير من السطور الفارغة، لعل راوياً آخر يخرج من ضلعها في زمن بعيد قادم، ليكمل حكاية البلدة العاقة. وقد كان ذلك في (قوس الرمل).
يبقى ما جاء في رواية (خرجنا من جبل) من تعرية الذات، وهو ما جاء في إهاب رمزي متواضع للذهب الأسود (النفط)، سواء ما جاءت به هند من التجثيث (جثة الطفل الكهل - جثة الطفلة الخرفة...) فحيّت الجبل: (صباحك جثث يا جيس)، أم ما جاء به هيثم: «بلدتك ليست إلا تاريخ وحوش». وهكذا يتبدى حبل السرة بين روايتي لولوة المنصوري، كما المخاتلة السردية في الروايات التجريبية والحداثية، بالعجر وبالبجر.

 

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©