الأحد 24 نوفمبر 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

«كسارة البندق».. عرض خشبي بلا حنين ولا لغة!

«كسارة البندق».. عرض خشبي بلا حنين ولا لغة!
25 يوليو 2019 04:35

لينا أبوبكر

في البدء كانت الكلمة، ومن الكلمات جاءت الحكايات، والخرافات والأساطير، والأمثال الشعبية والمكتبات ومن ثم الحضارات، فهل يمكنك أن تتخيل تاريخاً أو فناً بلا كلمات؟ لا يمكن للأمم أن تسير وفق أنظمة مشفّرة أو رموز رقمية جامدة، لأن هذا يحوّلها إلى مجتمعات آلية بلا روح ولا ذاكرة ولا ثقافة. الكلمات هي التي تؤسس بنية صلبة لعلاقات اجتماعية حميمة، وهي ذاتها التي تمد الجسور بين الشعوب والقبائل والأجيال. اللغة هي الزمن، واللغة هي الفكرة، واللغة هي الأبد، واللغة هي الغيب وهي المصير، فكيف يمكن أن يعيش المرء بلا قدر، وهل يمكن أن تتحول الأحاسيس الإنسانية إلى أزرار إلكترونية في يوتوبيا فضائية تحدها التحف الفلكية الصماء، والمراصد البيانية العمياء؟
هل تصدّق أن الغرب بدأ يخاف على لغته من لعبة الصورة والإبهار التقني في التكنولوجيات السينمائية؟ هناك نقّاد بريطانيون يمارسون توعية جماعية من خلال حملات صحفية منظمة تحض على الاستفاقة من غيبوبة الثورة الرقمية، والغزو البصري الذي يجتاح المخزون اللغوي ليحل محله، معربين عن خشيتهم وقلقهم من انحسار دور اللغة لحساب الصورة التي تخلو من الشحنات العاطفية المتعلقة بالحنين للحكايات على اعتبارها نسيجاً ذاكراتياً واجتماعياً خصباً، وفعّالاً. فهل أتى زمن على السينما تشكّل فيه خطراً على الذائقة ومنظومة العلاقات في المجتمعات، أم أنها الخطر الأخطر على الوعي الفني عموماً؟
لم يكن تشايكوفسكي ملاحاً فضائياً، لأن الإيقاع ليس لغة بكماء، وإنما هو تعبير حركي وديناميكي للدلالات والكنايات لا للحروف والكلمات.. فالإبهام لم يحوّل الموسيقى إلى لغة عالمية، وإلا كانت لتكون لغة آلية، ولكن ما جعل الموسيقى لغة مشتركة بين الثقافات المختلفة هو الأحاسيس، ومن هنا تحديداً جاءت حكاية «كسارة البندق» كملحمة أدبية قبل أن تكون رقصة باليه، وإن احتشدت الفنون على اختلافها لتصنع أسطورة متكاملة تتضافر بها الحكاية مع النوتة مع تصميم الرقصات، فماذا عن الصورة؟
أحدثت أفلام اللدائن البلاستيكية والصلصال، أو ما يعرف بأفلام «إيقاف الحركة» stop motion منذ نهايات القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين ثورة في عالم السينما الصامتة أو الإيحائية، التي أصبحت لها علامتها التجارية المنافسة على جوائز الأوسكار، وقد يكون توني هارت أحد أشهر مصممي الشارات ومقدمي برامج الأطفال الخاصة بالتصميم الإبداعي خير مثال على ذلك، فهو من اخترع شخصية مورف الصلصالية، لتحل محله تلقائياً في أحد برامج الـ«بي بي سي» وأكثرها شهرة في السبعينيات، وهذا طبيعي ما دامت العروض الكرتونية أكثر مرونة ورحابة وطواعية، لا بل إن الشخصيات الخيالية تتمتع بقدرات خارقة وعجائبية تمكنها من اختطاف الأضواء من الأبطال الذين صنعوها، حتى كأنها من سلالة وحش فرانكنشتاين، ما غيره!

عالم ديزني
كان لمدن الحلوى والأحلام وأشجار الميلاد وعلب الهدايا الملفوفة بالأشرطة الحريرية، والدمى السحرية، وعرائس الماتروشكا الروسية، والفتيات الطيبات الجميلات والفقيرات غالباً، والأمراء الأثرياء المتواضعين، والخيول البيضاء المجنّحة، والغابات الثلجية والقصور الذهبية والقلاع الغامضة، والفئران ذات الطبائع البشرية، والممالك السفلية، فتنتها ودهشتها الأثيرة لصناع الأفلام في عالم ديزني، والعوالم التجارية الأخرى التي تلت فيما بعد. كل شيء كان طازجاً.. ومشرّعاً على تنافس محموم وشره استنفد ما في جعبة الصورة والألوان، والمخيّلة التكنولوجية، لدرجة أصبحت الإثارة مجرد تجارة لا تثير إبهاراً بقدر ما تعد تكراراً أو اجتراراً، لأن فيلم «سندريلا» و«أليس في بلاد العجائب» الذي اقتبس من رواية للكاتب الإنجليزي لويس كارول ليدخل عالم والت ديزني بنسخة كرتونية عام 1951، وقد أعيدت صياغته عام 2010 بنفس طريقة فيلم «كسارة البندق والعوالم الأربعة» عام 2018، وقبله فيلم «السندريلا» عام 2015، فهل فرغت المخيّلة الإلكترونية؟ أم أن الصورة فقدت بريقها وأثرها، وخسرت الكثير من فعاليتها إثر استهلاكها تجارياً، وإسناد دور البطولة الرئيسي لها على حساب العناصر الإبداعية الأخرى وعلى رأسها اللغة؟
الأمر لا يتعلق بالخواء الفكري للصورة أبداً طالما أنها لم تقارب الاسكتشات الإعلانية، فيلم «رجل الرمال» الموسيقي مثلاً الذي أنتج عام 1975 بتحريك رمال منثورة فوق لوح زجاجي، أو قبل ذلك بكثير حين أنشئ أول سيرك سينمائي لأفلام إيقاف الحركة، مع «سيرك همبتي دمبتي» عام 1897، بل أيضاً فيلم «روميو وجولييت» الكرتوني الذي أطلقته أول امرأة عملت في مجال Stop Motion هيلينا سميث دايتون عام 1917، ثم «رحلة سندباد الذهبية» عام 1973، كان الاستكشاف الطليعي وحده كفيلاً ليكون إنجازاً بحد ذاته، بينما تغيّر المشهد تماماً، في حقب متأخرة، مع تطور الصناعة السينمائية، التي كرّست اللغة في ظل منافسة شرسة مع المسرح، وهناك أفلام تنسب لعبارات شهيرة -وليس العكس- تناقلتها الجماهير عبر الأزمنة، واستخدمت التقنيات التكنولوجية لكي تكرّسها وتسقطها على ظروف أو أحداث أو حالات عاطفية معينة، بل إنها اتخذت طابعاً لغوياً للملصقات الدعائية الخاصة بالأعمال السينمائية، ضمن هذه الاستجابة الفطرية التلقائية للغة أو تلك التي تبيّت نية مشروعة بالانحياز إليها!

خسارات كلارا
الحكايات هي المحفّز الإبداعي للنسق السينمائي، ولكنها لم تعد تكفي في ظل سيطرة الصورة، التي بدورها، لم تعد مؤثرة وفاعلة لتغني عن الحكاية أو تخطف منها سحرها. والآن، وقد تنوعت تجليات كسارة البندق السينمائية التي اقتبست كلبنة نيئة من مسارح الأوبرا والباليه، فقد أثرت مشوارها الحكائي بين الحقول الإبداعية المختلفة، بإحالاتها الروائية والتصورية، وهاك فيلم الإثارة النفسية Black Christmas عام 2006، الذي قلب متعة العيد إلى مغامرة رعب، بينما أصبحت باربي -أسطورة الدمى المعاصرة- بطلة الأبطال في فيلم Barbie in the Nutcracker عام 2001، وليس هذا فحسب، فحتى سلسلة «توم وجيري» الشهيرة التي عبّرت عن مرحلة الحرب الباردة بين روسيا وأميركا، أضفت طابعاً كوميدياً على حكاية تشايكوفسكي، في فيلم Tom and Jerry: A Nutcracker tale عام 2007.
أما قنبلة شباك التذاكر فجاءت بنسخة إنجليزية هنغارية لفانتازيا موسيقية ثلاثية الأبعاد عام 2009، فما الذي اختلف تحديداً عن كل تلك النسخ في فيلم «كسارة البندق والعوالم الأربعة» عام 2018، إخراج السويدي لاسي هالستروم، وفنان المؤثرات البصرية الأميركي جو جونستون، عن فتاة اسمها «كلارا» تنتقل إلى عالم خيالي مليء بجنود من خبز الزنجبيل وجيش من الفئران، والذي حقق 174 مليون دولار مقابل ميزانية إنتاج بلغت 120 مليون دولار، مع مراجعات غير مواتية من النقّاد، حيث شابه بطء في وتيرة إعداد الرقصات، عدا عن خوائه الروحي رغم تأثيراته المرئية العالية، أضف إليه الخسارات التي شملت الفارق بين الإيرادات والنفقات، والافتتاحات المخيّبة، وتاريخ الإصدار الأحمق في نوفمبر، ما جعله أدنى فيلم لديزني على شباك التذاكر. وقد جاء عنه في إحصاءات المواقع الإلكترونية: «غياب اللوحات الراقصة المبهرة، فيلم فارغ لكنه ظاهر للعين، كعطلة جميلة يسهل الاستمتاع بها بقدر ما يسهل نسيانها»، في حين تساءل البعض عن كون «هذه الفانتازيا العائلية التي تدعو للتحديق فقط لديها أمل بإثارة إعجاب الجيل الشاب، وإن كانت هناك فرصة لتزويد أطفال اليوم بحنين مشبع وكافٍ للمستقبل عبر هذا الهراء الفارغ، ثم إن كان أساس الحكايات السحرية يستند إلى العبر المستفادة، وتعلّم الأشياء من القصص المحببة، فلماذا فشلت هذه الأقصوصة السينمائية بالاتصال المرئي مع القيمة القصصية، خاصة وهي تدّعي أن الإرادة أهم من الأداة، بأسلوب فوضوي وعروض خشبية وحوار منعزل ومجاني ومتقطع، وبالتالي باهت وسريع الخفوت»!
الفتاة الشابة التي قامت بدور كلارا أثبتت أن حضورها على الشاشة الخضراء لم يكن مناسباً للعمل، بينما لكنة كيرا نايتلي البريطانية والتزامها بالشخصية قد يصرف النظر عن سوء كتابتها ولكنه لا يلغي قبح وجودها، معيبين على النص خلوه مما يجب قوله وعجز المواهب المثير للإعجاب عن رفع السقوط اللغوي، فماذا نفعت به حلويات الكمبيوتر إذن؟
(«كسارة البندق» 2018 نسخة سطحية جافة لا تصلح سوى للتسلية الآنية وملء الفراغ مؤقتاً، والتأمل بدقة الرقصات يبرهن أن متابعة دقيقتين من الباليه الكلاسيكي له قيمة روحية وإبهارية وبصرية أكبر من كثير من متابعة فيلم امتد لأكثر من تسعين دقيقة بلا فائدة ولا أثر يذكر).. وا أسفاه على تشايكوفسكي في عصر الصور العمياء!

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©