زيبا مير حسيني*
قبل ستة أسابيع، بدأت المكالمات الهاتفية تتهاطل. وكان المتصلون في كل هذه الحالات، رجالاً لم يعرّفوا بأنفسهم، ويعملون لمصلحة وكالات المخابرات الإيرانية، وهم الذين باشروا الاتصال بأشهر الناشطات الإيرانيات في حقوق الإنسان يطلبون منهن الحضور لاستنطاقهنّ. ووجّهوا إليهنّ تعليمات صارمة متشابهة مفادها: «لا تخبروا أي إنسان أننا طلبنا منكن الحضور إلى هنا، ولا تتحدثن مع الصحافة ووسائل الإعلام، ولا تتنفسن بكلمة واحدة أمام أي إنسان». إلا أن هذا الحديث ذاع وانتشر في الأوساط النسائية لطهران أولاً، وفي أوساط الناشطين السياسيين الإيرانيين بعد ذلك، وهم الذين نشروا على حساباتهم الإلكترونية ما دار من أحاديث خلال الاستنطاق وضمّنوها سلسلة من التساؤلات.
وهذه الحملة الممنهجة التي تشنها الحكومة الإيرانية ضد النساء، ليست إلا واحدة من الحملات المتكررة للحكومة ضد ناشطات حقوق الإنسان، والتي تأخذ طريقها الآن إلى التطبيق. إلا أن هذه الحملة التي نشهدها الآن لا تندرج ضمن إطار صراع الدفع والجذب بين الحكومة والمجتمع المدني الإيراني، ولا بين أجهزة المخابرات وأشهر الناشطات السياسيات، بل تمثل حرباً تُخاض بالوكالة، وتدور بين الرئيس المنسوب إلى خط «الإصلاحيين» من جهة، وأصحاب الخط المتشدد من جهة ثانية.
المؤامرة الكونية!
وحرصت ناشطات حقوق الإنسان الإيرانيات، المتدينات منهن والعلمانيات، على التقاط الإشارة التي أطلقها الرئيس حسن روحاني خلال حملته الانتخابية لعام 2013، وبادرن إلى توسيع إطار نشاطاتهن في الحياة العامة. وكان رد «الحرس الثوري» ومعمَّمي المؤسسة الدينية صارماً، وتجلى في تكرار أطروحة «المؤامرة النسائية الكونية» الهادفة إلى إسقاط الحكومة الإسلامية، وهي المؤامرة التي تتلقى تمويلها من دول غربية غنية ترتبط فكرياً بالحركات التي تقودها نساء أكاديميات يمارسن نشاطهن في الخارج ويديرها مسلحون سريون داخل إيران وحتى داخل القصر «الجمهوري».
«مولاوردي».. الصوت والصدى
هذه هي الأسباب المزعومة التي دفعت أصحاب الخط المتشدد إلى التشكيك في الأهداف الكامنة وراء توظيف روحاني للناشطة النسائية «شهيندخت مولاوردي» كمعاونة وزير لشؤون المرأة، وهي التي جعلت من شعار «الإسلام دين المساواة» حجر الأساس لأطروحاتها الفكرية. وعندما كانت «مولاوردي» محامية متدربة، بدأت نشاطها في عهد الرئيس «الإصلاحي» محمد خاتمي بين عامي 1997 و2005، وعملت على توسيع شبكة المنظمات النسائية الإيرانية غير الحكومية. وخلال السنوات العجاف لحكم الرئيس محمود أحمدي نجاد، كرست نشاطها لخدمة المجتمع المدني.
وكانت ذات نظرة إصلاحية تقدّمية. كما أن عزمها على العمل من داخل النظام السياسي الإيراني أضفى على نشاطها الصبغة الدبلوماسية التي أثارت الكثير من الشكوك في دوائر المتشددين. ويؤخذ عليها أنها كثيراً ما كانت تتردد في إيضاح مواقفها من قضايا مختلفة. ومن ذلك مثلاً أنها كانت تتجنب وصف نفسها بأنها «ناشطة نسائية». وعندما زارت نيويورك للمشاركة في إحدى الدورات العادية للأمم المتحدة، سئلت عن السبب الذي منع إيران من المشاركة في «اتفاقية إلغاء كل أشكال التمييز ضد النساء» (CEDAW)، وكان جوابها غامضاً، إذ قالت إن الأمر شبيه بما يحدث في الولايات المتحدة ذاتها، إذ إن هناك تيارات خاصة في إيران تعارض تلك الاتفاقية بشدة، وإن هناك أساليب أخرى تتبناها الحكومة لدعم الحقوق المدنية للنساء.
ومنذ تقلدها منصبها الحكومي، سمحت الميول الدينية لـ«مولاوردي» بتمتعها بدرجة من الحماية يفتقر إليها العلمانيون جميعاً تحدّت بها انتقادات وتهجمات أصحاب الخط المتشدد. وهم الذين عبّروا في مواقعهم الإلكترونية عن معارضتهم لتعيينها في وظيفتها الحكومية. واتهمها المتشددون من المؤسستين الدينية والعسكرية بأنها تسعى لنسف القِيم الإسلامية عن طريق تشجيع النساء على العمل! وانتقدوا تعاونها مع الناشطات النسائيات الأخريات، وعابوا عليها موقفها من انتخابات العام 2009، واستنكروا ما ورد في أطروحتها الجامعية التي حصلت بها على درجة الماجستير، والتي تتعلق بالشرح المفصل لأشكال العنف ضد النساء وأساليب التصدي لها.
«مولاوردي» تهديد للمتشددين!
وكانت «مولاوردي» في نظر المتشددين تمثل تهديداً واضحاً، وهم الذين وصفوها بأنها شديدة التمسك بعقيدتها، وقوية التأثير، وذات ارتباطات واسعة. وكان مما أثار المزيد من غضبهم، تصريحها بأنها كانت تسعى لأن تصبح أول امرأة في إيران تحصل على رخصة افتتاح «مكتب لتوثيق العقود»، وهو امتياز لا يحظى به في إيران إلا المعمَّمون الشيعة منذ بدايات القرن العشرين. وكانت عوامل الشك والقلق التي تضمرها المؤسسة المحافظة قد تعززت بعد النجاح الذي حققته مولاوردي في منصبها الحكومي. وكانت خطتها تتركز على تشجيع النساء ودفعهن إلى المشاركة في معالجة التداعيات السياسية الناجمة عن الظاهرة التي أطلق عليها المتشددون تعبير «التجنيس» أو التحيّز إلى النساء خلال الانتخابات البرلمانية الأخيرة التي نُظمت في شهر فبراير من العام الجاري. وفي أكتوبر الماضي، أعلن ائتلاف يضم مجموعة من الناشطات، وبدعم من مولاوردي، خلال مؤتمر صحفي، عن إطلاق حملة جديدة تحت شعار «تغيير المظهر الذكوري للبرلمان» ودعوة المزيد من النساء للمشاركة في الانتخابات.
ونظم «الإصلاحيون» بدورهم اجتماعاً منفصلاً طالبوا من خلاله بتخصيص حصة 30% من مقاعد البرلمان للنساء، فضلاً عن العديد من الامتيازات النسائية الأخرى. وكانت هذه الصحوة غير المتوقعة للمجتمع المدني قد آتت أُكلها، وتمكن المعتدلون الذين يتلقون الدعم من روحاني من اجتياح طهران وفازوا بثلاثين مقعداً في البرلمان. وكان ثمانية من المشرّعين الجدد من النساء. وفي عموم إيران، ارتفع عدد النساء اللائي نظمن حملاتهن الانتخابية للانضمام إلى البرلمان الأخير، بمعدل أربع مرات. وهذا ما أدى إلى تضاعف أعداد النائبات فيه.
«زانان إمروز»
ولقد أثارت النشاطات الصاخبة لما بات يسمى «رابطة مولاوردي» غضب أصحاب الخط المتشدد. وتجلت ردود أفعالهم بصب جام غضبهم على مجلة تديرها الناشطة والصحفية «شهلا شيركات».
و«شيركات» هي مؤسسة ورئيسة تحرير مجلة إيرانية معروفة تدعى «زانان إمروز» وتعني «المرأة اليوم»، والتي لعبت خلال عقد التسعينيات والعقد الأول من القرن العشرين دوراً بارزاً في طرح قضايا المرأة للنقاش على المستوى الوطني عن طريق إطلاق حوار موضوعي جاد بين الناشطات المتدينات والعلمانيات. وكانت هذه المجلة جريئة بحيث نشرت مقالات تتناول كل ما يخطر على البال، وكانت ترمي إلى إشاعة القناعة بين الناس بأن المساواة بين الجنسين مطلب إسلامي بحت. ولم تكن تمثل منتدى للتعبير عن آراء النساء من أمثال مولاوردي فحسب، بل إنها جعلت الحقوق الشرعية والسياسية للمرأة الإيرانية العادية اهتمامها الأساسي. ولم يستسغ المتشددون هذا التوجّه، وضاقوا ذرعاً بالمجلة حتى أعلن محمود أحمدي نجاد عن قرار إغلاقها العام 2008 متهما إياها بأنها لا تسعى إلا إلى «تسويد» وجه إيران وخلق جوّ من التشاؤم والاكتئاب!
وفي العام 2014، عادت المجلة إلى الصدور عقب انتخاب حسن روحاني. وجاء العدد الأول بغلاف معبّر تضمن صورة لمجموعة من النساء الضاحكات المنشرحات يعلوها عنوان بالخط العريض يقول: (كلنا سعيدات بهذا القرار)، بما يخلق لدى القارئ حيرة متعمدة حول ما إذا كان المقصود منه هو أن الإعلاميات الإيرانيات حققن انتصاراً مهنياً، أم أن الحركة النسائية الإيرانية تعبر عن فرحتها بانتخاب روحاني رئيساً. ومن خلال مقالة افتتاحية تعلن من خلالها عن ولادة المجلة من جديد، قالت «شيركات» إن شعوراً قوياً بعودة الأمل يخالجها بعد انقضاء سنوات من الصمت والسكوت، وإن بقية الصحفيات يشاركنها الشعور بأنه بات في وسعهن الآن أن صوتهن عالٍ، وقالت: «نحن نعلم أنهم سينفرون ضدنا، ولكننا لا نمتلك خياراً آخر».
المرأة في البرلمان
والتزمت المجلة نشر قضايا ومواضيع جريئة متنوعة. ففي عددها لشهر فبراير الماضي، نشرت موضوعاً رئيساً تضمن حواراً مع الأكاديمية الكندية ذات الأصل الإيراني «هما هودفر»، وهي عالمة في أصول الإنسان وتطور المجتمعات البشرية مقيمة في مدينة مونتريال. وتركز موضوع الحوار حول استعراض بعض القضايا التي أثارتها «هودفر» في كتاب نشرته مؤخراً تحت عنوان (سياسة الانتخاب: تخصيص الحصة البرلمانية للمرأة) تناولت فيه نصيب المرأة من الانتخابات البرلمانية في دول متعددة، مع تركيزها على الوضعية السياسية للمرأة الإيرانية.
وفي شهر ديسمبر الماضي، تنكّبت «هودفر» سلاح الجرأة وسافرت إلى إيران ثم عادت إلى كندا لتخبر أصدقاءها بأنها تشعر بالتفاؤل من التطور الجيد للأمور تحت حكم حسن روحاني. إلا أن شعورها هذا لم يلازمها طويلاً. فعندما عادت إلى إيران في شهر فبراير الماضي خلال تنظيم الدورة الانتخابية البرلمانية، اقتحم رجال الأمن شقتها قبل يوم من موعد مغادرتها، وتعرضت لسلسلة طويلة من عمليات التحقيق والاستنطاق، وصادر المحققون جواز سفرها وحاسوبها الشخصي وهاتفها المحمول. وبقيت رهن الاعتقال والتحقيق حتى تاريخ 6 يونيو. وبعد شهر، نطق النائب العام لطهران بحكم إدانتها مع ثلاثة من الإيرانيين الآخرين مزدوجي الجنسية من دون تحديد التهم الموجهة إليهم.
تهمة «العمالة»
وعقب اعتقالها بوقت قصير، هطلت المقالات المنشورة على مواقع الإنترنت والتابعة للحرس الثوري، لتعلن عن أن «هودفر» ليست إلا عميلة أجنبية. وبعد ذلك، بدأ النظام باستثمار مزاعم ارتباط «هودفر» بوكالات أجنبية لتلطيخ سمعة ناشطات أخريات في الحركة النسائية للعاصمة طهران.
والكثير منهن تلقين مكالمات هاتفية من وكالات المخابرات تأمرهن بالحضور إلى مكاتبها للتحقيق معهن. وكان العدد الأخير من مجلة «زانان إمروز» قد ظهر في شهر يونيو الماضي. وفي شهر يوليو، ظهر منشور على الموقع الإلكتروني للمجلة يقول إنها توقفت عن الصدور حتى إشعار آخر، وإن هذا التوقف «يعود لبعض المشاكل والعراقيل»، من دون شرح التفاصيل.
وكانت «شيركات» من بين النسوة اللائي تم استدعاؤهن للتحقيق بعد اعتقال «هودفر».
بعض التقدم.. ولكن!
حكومة روحاني حققت بعض التقدم في سياسة مشاركة النساء في العمل السياسي، ولا تزال «مولاوردي» ومؤيداتها مهتمات بإعادة إبراز نشاطاتهن باعتبارهن يشكلن جزءاً لا يتجزأ من الحوار الوطني. ولا زالت الجهود تُبذل لتصحيح ممارسات محمود أحمدي نجاد في الشأن البرلماني على الرغم من وجود مؤشرات قوية إلى أن المتشددين سيبذلون كل الجهود الممكنة للوقوف ضد هذا الهدف.
*خبيرة إيرانية في القانون الإسلامي تحمل شهادة الدكتوراه في العلوم الإنسانية من جامعة هارفارد.