الجمعة 22 نوفمبر 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

إصلاح الضلع المسرحي الأعوج

إصلاح الضلع المسرحي الأعوج
4 مايو 2011 19:39
المكان: مقرّ الهيئة العربية للمسرح بالشارقة، والزمان: الأحد من الأسبوع الماضي، أما المناسبة فهي: الإعلان عن فعاليات ملتقى “الاستراتيجية العربية للتنمية المسرحية” بندوته الأولى التي أقامتها الهيئة العربية للمسرح في قصر الثقافة بالشارقة من 26 ولغاية 28 من ابريل الماضي بمشاركة ثلاثين فناناً مسرحياً، وحملت هذا العنوان غير المعهود: “واقع المسرح العربي – مكامن الإخفاق ومواقع العثرات”، وتحديداً: الإخفاق والعثرات ودلالات الاعتراف بوجودهما، حيث إن ما جرت عليه العادة هو أن كل ما يتم تقديمه من فعاليات ثقافية هي فعاليات ناجحة دائماً بدرجة امتياز؛ دائما بدرجة امتياز إلى حدّ لا يُعقَل. هل يمكن القول بأن هناك بشائر لتحول ما في طبيعة التعامل مع الأفكار وتطبيقاتها على الأرض، ووصولها إلى الفئة المستهدفة وتحقيقها الغرض منها في سياق استراتيجي ثقافي شامل؟ ربما في التساؤل مبالغة من نوع ما لكنها ضرورة التفاؤل بمستقبل أفضل حتى لو كان الضوء القادم من هناك خيطاً – ذبالة على وشك الانطفاء باستمرار. في أية حال، فإن ما يتلمسه المرء، وبقَدْر من اليقين هو أن التغيرات الاجتماعية التي تطال المنطقة العربية وبشكلها الأكثر إيجابية وربما الذي لا يزال محلوما به لدى أي مثقف عربي، هو الباعث أو المحفّز للعمل من أجل ما هو موجود في رحم المستقبل ومن غير الممكن المراهنة على شكله منذ الآن، والذي نطلق عليه عادة: الأمل الذي ينمو في تربة اليأس، حيث من المؤكد أن التفاؤل هو قرين الأمل. أيضا فإن تلك النشوة التي أحدثها الحراك الاجتماعي في المنطقة العربية وحرّكت ماء راكدا في نفوس المثقفين العرب باتجاه غد أفضل لم تقتصر على المؤتمر الصحفي الذي استغرق قرابة الساعة والنصف بل كان جذره ممتداً، على نحو مسبق ربما، إلى الأبحاث والأوراق التي جرى تقديمها في الندوة وفي المداخلات التي أججتها البعض من تلك الطروحات التي يأمل أصحابها بتغيير واقع المسرح العربي بدفع قوي من أمل ديناميكي يتحرك بالاتجاهات كلها معاً ويعلو معه الاحساس بالجدوى من الفعل المسرحي، وأنَّ ما اختزنوه من خبرات إنسانية ومعرفية في حقلهم لن يضيع هباء، بل سيجد الشكل الذي يتكيّف به مع ما يطرأ في المستقبل من متغيرات وكذلك الكيفيىة التي ستدرك بها الأجيال المقبلة أهمية، من عدم أهمية، ما يقدمونه. حتمية التغيير “لا محالة سيتغيّر واقع المسرح العربي” .. كانت هذه أول عبارة نُطِق بها في أول الأوراق التي تُليتْ في الملتقى وجرت على لسان الدكتور حسن رشيد من الكويت، ومثلما أن هذه العبارة كانت من خارج السياق المعهود في الملتقيات فقد كانت أيضا من خارج الورقة التي جرى تداولها في النقاشات مع أوراق أخرى بحماسة غلبت على معظم المداخلات والنقاشات الجادة والمتفائلة أيضا التي أعقبت تلك الأوراق. وبالتأكيد، وعلى مدى ثلاثة أيام استغرقها المؤتمر بدءاً من الثلاثاء الماضي وحتى الخميس فقد سال كلام كثير وجرى حبر كثير أيضا. وربما يصح أن العديد من المشاركين قد خانتهم قدراتهم اللغوية في ترجمةَ خبراتهم إلى أفكار، وهم في أغلبهم من جيل المخضرمين في المسرح العربي، إلا أن الخلاصة الاجمالية التي يخرج بها المرء من الأوراق ومما يتناهى إليه من أفكار تمّ طرحها في أروقة الملتقى تشير إلى أن هناك اتفاقا غالبا مجمعٌ عليه ويتمثل في الإشارة إلى مواطن خلل يتحمل بعضها الوسط المسرحي مثلما يتحمل أغلبها الحال الراهنة ثقافياً واجتماعياً وسياسياً على المستوى العربي إجمالا حيث ما زالت الدولة العربية تنظر إلى الثقافة باعتبارها ديكوراً يكمل شكل الدولة، وليست عنصراً أصيلاً في سلوك المؤسسة والفرد. مرة أخرى، لم تكن الأوراق كلها في المستوى نفسه فقد جاء البعض منها أكاديمياً محضاً يكاد يكون بلا أفكار تخلخل لكن تلك الأوراق، التي اختلطت فيها الخبرات بالأفكار التي أنتجتها في شخص المسرحي المثقف المنحاز على نحو أصيل باتجاه ما هو أكثر صراحة، ووضوحاً وقبولًا للاختلاف بالرأي، فقد كانت أقلّ وهذا أمر طبيعي تماما في مثل هذا النوع من الملتقيات التي غالبا ما تكون التوصيات فيها جاهزة للتوقيع عليها من قبل حدوثها فيغرق الصوت المختلف، والذي قد يكون مؤثراً في جلبة الأبواق الصادحة دائما بالعبارات نفسها، وقد بنت مجدها على فعل مسرحي ما مضى عليه سنوات طويلة، كي لايبالغ المرء فيقول: قد أكل عليه الدهر وشرب. لكن هذا الملتقى لم يخرج بتوصيات بل بمسوَّدة توصيات، وهذا أفضل، هي إطار نظري، سيجري التداول فيها مع الذين شاركوا وآخرين لم يشاركوا عبر وسائل الاتصال الحديثة ليتم إقرارها وبالتالي تبنيها فيما بعد على اعتبار أنها الفكرة الأساسية التي ستُبنى عليها الندوتان اللاحقتان من الملتقى واللتان ستعقدان في عاصمتين عربيتين، ثم العودة إلى الشارقة ليُصارَ بعد ذلك إلى عقد ندوة أخيرة قبل نهاية هذا العام بهدف الإعلان عن “إعلان الشارقة للتنمية المسرحية العربية” الذي يتضمن اقتراحات لحلول تسهم في معالجة الضلع الأعوج في واقع المسرح العربي الراهن وجبْره، إنْ كان ذلك ممكنا، بمساهمة كبيرة من المسرحيين العرب أنفسهم بأجيالهم المختلفة وتجاربهم المتباينة. أبعد من المسرح ربما تكون المسوَّدة شديدة التفاؤل بتغيير ما، وربما يتمنى أصحابه أن يجري على وَقْع التغيرات العربية، لكنْ إنْ تحقق منها أقلّ القليل أم لم يتحقق أي من توصياتها، فإن ما يلاحظه المرء هو أنها تضغط على موضع الألم تماما بل وعلى العصب الحساس الذي يوجع هذا الواقع حقاً من فرط ما تعفّن موضع هذا الألم من جرّاء الكلام المعسول والخطابات التي تنافق وتلمّع واقعا مريضاً، وما يتفرع عنه هذا المرض في جسد المسرح العربي. بهذا المعنى قد تكون المسوَّدة أعلى سقفا ومنطقية من ما سوف يتضمنه “إعلان الشارقة” لأن الشلل لم يطل الأداء فحسب بل استشرى في المخيلة أيضا، إنما على المرء أنْ يحدِّق إلى نقطة البياض التي تكاد تُرى في محيط السواد الذي احتل كل المساحات الخضراء في قلوب الناس. وليس هذا القول من باب التشاؤل أو التشاؤم المطلق أو مصادرة حقّ الآخرين في الحلم، إنما جاءت منطلقاته مما تضمنته المسودة بالقياس إلى الراهن العربي بمجمله. يكفي أن يتأمل المرء ملياً بالمادة الأولى التي وردت تحت العنوان: “دمقرطة المجتمع العربي أولا”: “نعرف أن هذا الواقع المسرحي اليوم بكل أعطابه واختلالاته المتعددة والمتنوعة ما هو إلا نتيجة طبيعية لهذا الواقع العربي المختل، سياسياً واجتماعياً وفكرياً. ولهذا يكون من واجبنا أن نقول اليوم ما يلي: نحن في حاجة أكيدة إلى عالم آخر جديد، قبل أن نكون بحاجة إلى مجرد مسرح عربي بمواصفات تقنية مختلفة، فالأمر أكبر وأخطر من أن يكون مجرد بحث عن جنس أدبي أو فني مغاير، أو عن صيغة مسرحية جديدة. إن الأساس في المسرح أنه برلمان الناس في المدينة، وهو مدرسة لتعلم أصول الديمقراطية الحقيقية، ولممارستها أيضا، وهذه الديمقراطية ليست مجرد مؤسسات برلمانية فقط، ولكنها قناعة فكرية قبل كل شيء ... إن الشاب يمثل المستقبل، ويمثل القطيعة والاستمرار، ويمثل الطاقة الحيوية المغيرة والمتغيرة في المجتمع، وهل يمكن أن يكون هذا المجتمع أو ذاك سالماً ومسالماً ومتناغماً مع تغييب الشباب؟ وهل يمكن أن يكون كاملا ومتكاملا أيضا، مع غياب نصفه الذي تمثله المرأة؟”. ومع الاعتذار في إطالة الاقتباس، فإن المرء يحسب أن هذا الإقرار بطبيعة واقع واضح وصريح هو كلام، لجهة أنه كلام كبير، يشبه بعض الشعارات التي ينادي بها الشبان المسالمون في مسيراتهم اليومية في بعض البلدان العربية، تلك الشعارات النابعة من نبض الشارع العربي بلا شكّ، لكنه بالمقابل إقرار بلا أي إثارة للالتباس ويخلو من الأوهام ثم أنه مثقف ويشير إلى إحساس عالٍ بالمسؤولية. ويقينا أنه كان قد قيل سابقا سواء في الجلسات الخاصة أو العامة أو في وسائل الإعلام لكن الجديد هنا أنه لا ينطلق من أصوات تتبعثر في الهواء بل من تجمع ثقافي مسرحي وبشهادة إعلامية وأخرى مؤسسية عربية تتمثل بوجود المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم بوصفها شريكا سواء في إقامة الملتقى أم في الإسهام بإبراز أثر الخلافات العربية على تلكؤ أي مسعى مشترك في سبيل تطوير الثقافة العربية إجمالا والمسرح تحديداً. وبالطبع، فقد امتلأت المسوّدة بالمطالبة بإصلاحات لا يقل الكثير منها عن ما تمّ اقتباسه، ما يثير سؤالا يحمل قَدْرا من المشروعية: إلى حدّ تحتمل بنية المؤسسة الثقافية العربية إجراء تغييرات فيها تتناسب مع السقف الأوطأ من الإصلاحات؟ وإلى أي حدّ يستطيع المسرحي العربي أن يتحمل مسؤليته الفنية والجمالية والأخلاقية تجاه الواقع السائد وتجاه طموحه بتغييره من خلال المسرح بوصفه مؤسسة ديمقراطية مستقلة؟. أيضا فقد “انفضّ سامر” الندوة الأولى وظلت ثانية وثالثة فرابعة، فهل سيبقى السقف ذاته هو السقف العالي؟. وسيعود المشاركون إلى بلدانهم وانشغالاتهم فيما العديد من بينهم يتواجدون في مواقع مسؤولية في مؤسسات معنية بالمسرح والثقافة عموما في بلدانهم، فهل ستبقى مواقفهم على ما كانت عليه في الشارقة؟. في آخر الأمر، تبقى التجربة هي خير برهان. ولأن التجربة كذلك فهي بالقياس إلى ما سبق من تجارب لا تدعو كثيراً إلى التشاؤل. “المسرح لا يغيِّر العالم؛ إنه رحلة إلى بلاد الأسئلة فحسب”، هكذا افتتح المخرج اللبناني روجيه عسّاف ورقته بأقل ما يمكن من التفاؤل بالتغيير ربما، إنما برغبة حقيقية برؤية واقع مختلف والعيش فيه حيث بوسع المرء أنْ يتنفس الأوكسجين نقيّا. كانت هذه العبارة الشعرية من خارج النص الذي بين يديه. إن ما يتمناه المرء أن لا يبقى النص بعيدا عن أيدي المسرحيين العرب فيكون نص الكتابة هو ذاته نص العرض والفعل أيضا وقد جرى إخراجه على الخشبة حيث تُسمّى الأشياء بأشيائها مثلما بأسمائها، كي لا يبقى المسرح شيئاً أخيراً في بلاد الأشياء الأخيرة.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©