السبت 23 نوفمبر 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

«سيدات القمر».. الخيبة في رواية

«سيدات القمر».. الخيبة في رواية
4 مايو 2011 19:32
يظل السؤال الذي تطرحه ميا إحدى الشخصيات الرئيسة في رواية “سيدات القمر” للكاتبة العمانية جوخة الحارثي ( ومن يحزن لحزني أنا؟) معلقا في فضاء العالم السردي للرواية حتى خواتيمه، بوصفه السؤال الذي يختزل في دلالته مرارة الواقع الذي تعيشه تلك الشخصية، باعتبارها ذاتا أنثوية أولا، والصوت الآخر المعبر عن فجيعة المرأة ثانيا في ظل ثقافة ذكورية متوارثة، تختزلها وصية المرأة الإعرابية لابنتها العروس التي تذكرها بها أختها أسماء، أثناء حوارهما، حيث يكثف هذا السؤال مأساة الذات الأنثوية في علاقتها بذاتها، وعلاقتها بالواقع الذي يجعلها تخضع فيه لإرادة الأهل في الزواج ممن لا تحبه، بعد أن ظلت سنوات طويلة تكتم مشاعر حبها دون أن تستطيع حتى مجرد البوح بها، في حين تبقى شقيقتها خولة تنذر نفسها للرجل الذي ينساها لأجل علاقته بامرأة أخرى أثناء دراسته الفاشلة في كندا، حتى تبدأ سنوات العذاب والتجاهل التي عاشتها تحفر في أعماقها إلى أن تقرر أخيرا الطلاق بعد عشر سنوات من الزواج، الأمر الذي يكشف عن البنية المحكمة للرواية، من خلال علاقة خواتيم الرواية بجملة الاستهلال التي تقدم فيها شخصية ميا من خلال علامتين مميزتين، ماكينة الخياطة ماركة الفراشة، والعشق اللذين تستغرق فيهما، إلى جانب شخصيتي اختيها أسماء وخولة اللتين تمثلان نموذجين مختلفين في الاهتمامات والتفكير والمصائر. وإن كانت الخيبة في العشق تشكل السمة المشتركة فيما بينهن. يكشف حضور المرأة في هذه الرواية من خلال شخصيات البنات الثلاث وأمهن سالمة، ومن ثم شخصية لندن ابنة ميا عن الدور المحوري الذي تلعبه تلك الشخصيات في أحداث الرواية وعالمها الحكائي. ولعل جملة الاستهلال التي تعنى بتقديم شخصية ميا وشقيقتيها، وختام الرواية الذي يكشف عن التحول المفاجئ في شخصية خولة، من خلال طلبها للطلاق من زوجها أحمد، انتقاما للسنوات العشر التي عاشتها متشبثة بحلمها، يدلل على الدور الهام والفاعل، الذي تلعبه تلك الشخصية في أحداث الرواية وتحولاتها، التي تترافق مع التحولات التي كان تطرأ على وضع تلك الشخصيات ومواقفها وعلى الواقع الاجتماعي والاقتصادي المحيط . مقابل هذه الشخصيات تبرز شخصية عبدالله الدائمة السفر والتنقل بين مدن العالم المختلفة، بوصفها شخصية عاجزة عن الاستقرار والتكيف مع المكان، ما يعكس قلقا وجوديا تعاني منه، يخلق بعدا دراميا نجده ظاهرا في مشاعر التعب والانهاك التي تعاني منها في سفرها الدائم وعجزها عن الاستقرار. الخاص والعام تطرح الرواية التي تستحضر حقبة من تاريخ عمان الحديث، من خلال تاريخ شخصيات الرواية والواقع الاجتماعي الذي تعيشه سؤالا يتعلق بالعلاقة بين الرواية والتاريخ، تلك العلاقة التي يرى آلان تورين فيها على مستوى السرد الحكائي نوعا من التطابق ( بين سيرة ذات، وبين وضع تاريخي... )، إذ يتداخل الوضع الخاص لشخصيات الرواية مع الوضع التاريخي العام لعمان وتحولاته في تلك الحقبة، وما شهدته من أحداث سياسية وتحولات اجتماعية وعمرانية وثقافية، عبر جيلين مختلفين في الوعي والسلوك والمفاهيم دون أن تغيب تأثيرات الجيل الأول النفسية التي تأخذ في بعض الأحيان شكل الكوابيس عند عبدالله بصفة خاصة بسبب القسوة والصرامة التي ميزت تلك العلاقة. وإذا كان بول ريكور يرى بأن الرواية تستطيع الكشف عما لا يستطيع التاريخ دائما اكتشافه، فإن هذه الرواية التي تمزج بين الاجتماعي والتاريخي في سيرورة السرد الحكائي لسيرة الواقع عبر شخصياتها الرئيسية التي تشكل الشقيقات الثلاث محورها، تحاول أن تقوم بما لايستطيع المؤرخ القيام به عبر تحويل التاريخ إلى حكاية، والحكاية إلى تاريخ ينبض بحيوات الناس وأحلامهم ... هامشيين ومركزيين باعتبارهم العناصر التي تتشكل منهم ومعهم سيرورة الواقع. وتلعب لغة السرد دورا هاما من خلال ما تتميز به من شعرية مكثفة وموحية، وجمل قصيرة ساهمت في منح السرد رشاقته، حيث ساهم استخدام الرواية لتقنية تيار الوعي أو التداعي الحر في العمل على كسر وحدة الزمان والمكان في الرواية، وسمح بحرية الانتقال بين الوقائع والأزمنة والأماكن المختلفة . تستدعي قراءة العنوان الرئيس من خلال علاقته التناصية وشعريته إحالته أولا على مرجعيته الأسطورية التي تجعل من القمر رمزا للأنوثة، وثانيا على المتن السردي الذي يحيل عليه، ويقيم تعالقه معه على مستوى الدلالة واستراتيجية البناء، خاصة وأن بنية العنوان النحوية التي هي جملة اسمية مبدوءة باسم جمع مؤنث معرف بالإضافة إلى الاسم المضاف: القمر تظهر العلاقة بين الاسمين، كذلك يستدعي شخصية النساء بلقبها الذي يحمل معنى الرائحة الذكية وليس باسمائها، ما يدل على القصد المضمر والمعنى الرمزي الذي تخفيه الكاتبة من خلال استخدام اللقب بدلا من الاسم . يتميز السرد الروائي إلى جانب لغته التي تميزت بشاعريتها الكبيرة وبإيقاعها السريع الذي شكل عنصرا مهيمنا في الرواية، ساهم في تنامي حركة السرد من خلال استخدام الجمل القصيرة المكثفة، إلى جانب تعدد لغاته التي تتمثل في استخدام المفردات المحلية، التي تحيل على البيئة الاجتماعية للرواية، بالإضافة إلى الشعر التقليدي الذي قيل في العشق، وتوظيف الوثيقة بصورة مكثفة جعلتها لا تشكل عبئا على السرد وحركته، بل ساهمت في الإضاءة على مرجعية القول أو الحدث. خرجت الكاتبة على التقسيم التقليدي للرواية إلى فصول حيث لم تستخدم الترقيم أو العنونة بديلا، بل جاءت بعض الفصول في مساحة لا تتجاوز الصفحة الواحدة أو الصفحتين، مستخدمة الحوافز الديناميكية التي تجعل الرواية تنتقل من وضع إلى وضع آخر مختلف، إلى جانب استخدام التحفيز الواقعي عبر استخدام الوقائع التاريخية المعروفة والقيم الواقعية الحديثة, وتقديم الأماكن باسمائها المعروفة بغية إيهام القارئ بواقعية المتخيل الروائي. كسر أحادية الرؤية يتناوب كل من ضمير الغائب وشخصية عبدالله ابن التاجر سليمان على سرد وقائع وأحداث الرواية وتقديم شخصياتها، أو القيام بنقل أقوالها وأحاديثها، الأمر الذي يكشف عن محاولة الكاتبة تقديم وجهات النظر مختلفة بحيث يسهم ذلك في كسر أحادية الرؤية التي يمكن أن يقدمها الراوي الوحيد لأحداث ووقائع الرواية، التي تتوزع أحداثها بين أماكن متفرقة في عمان والقاهرة وألمانيا وكندا، وإن كان المكان العماني الريفي والمديني بتحولاته وتبدلاته التي تطرأ عليه يظل هو المهيمن على عالم الرواية، كاشفا عن علاقة التأثير المتبادلة بين تلك الشخصيات والمكان، في التحول الذي يظهر على تلك الشخصيات وواقعها وسلوكها ومفاهيمها، دون أن يغيب حضور الماضي في الحاضر بسبب تنوع تجارب الشخصيات، وتمثيلها لأنماط وعي اجتماعي وتاريخي مختلفة، تنطوي كل منها على رؤية مختلفة للعالم الذي تعيش فيه وإلى ذاتها، حيث يكتفي الراوي الشاهد بتقديم تلك الحالات وأنماط الوعي والسلوك والقيم من خلال أفعال الشخصيات وعلاقتها ببعضها البعض . إن هذه التحولات الجديدة التي يمثلها الجيل الجديد ومنظومة قيمه الاجتماعية والحضارية ترتبط بقيم الحداثة والتطور الجديد والاستهلاك الذي كان يشهده الواقع المديني بصفة خاصة، في حين يبقى الجيل القديم متمسكا بعلاقته بالمكان القديم: “رفض “أبي” أن ننتقل تماما لمسقط، من سيعمر البيت القديم؟ من سيستقبل الضيوف؟ من سيقيم البرزة للرمسة كل مساء؟ لا. لا لا .. ننجز أعمالنا في مسقط .. يوم يومين ونرجع العوافي.. العوافي بلدنا ما مسقط . بعد عشر سنين أخرى قال ولدي سالم: “ مسقط بلدنا ما العوافي... لماذا لا نقضي كل الإجازات والأعياد هنا؟” (ص97 )، ما يدل على التفاوت في العلاقة مع المكان، وما ينطوي عليه هذا التحول والتبدل من طابع درامي ينعكس على علاقة الآباء بالأبناء. تستخدم الكاتبة التواتر في سردها للحدث الذي يتكرر عدد المرات التي يروى فيها مثل واقعة عقاب والد عبدالله له بربطه بالحبل ووضعه داخل البئر منكس الرأس، عندما اكتشف سرقته لبندقية الصيد، وحادثة كسر ميا لهاتف ابنتها لندن النقال بعد أن اكتشفت محادثتها لأحمد، وكذلك واقعة سفره المتواصل تعبيرا عن حضورها النفسي العميق عند تلك الشخصيات، حتى أضحت تواريخ بارزة يستخدمها الراوي للدلالة على زمن محدد في سرد حكاياتها الخاصة التي تتآلف أو تفترق مصائرها واختياراتها. تحاول الرواية أن تقول الكثير عن تحولات الواقع الاجتماعية والاقتصادية والثقافية وصراعاته السياسية، وعلاقة المرأة بالمرأة، والمرأة بالرجل، والمرأة بذاتها مع التحولات التي يشهدها جسدها في مرحلة البلوغ، وكذلك علاقة الآباء بالأبناء، وحكايات العشق المتحقق أو الموؤود، وعلاقة الجميع بما يطرأ على الواقع من تغيرات وتبدلات، حيث تتداخل حالات الخيبة والشوق والشعور بالغربة والتشبث بالأحلام أو خسارتها، وتناسخ الأدوار التي يقوم بها الآباء مع الأبناء مع تبدل المواقع والشخصيات في هذا العالم الروائي الذي تعمق تحولاته من المنحى الدرامي للوقائع والأحداث في واقع يحتشد بالمفارقات التي تمثلها حيوات شخصياته المتباينة من حيث شرطها الاجتماعي ودرجة وعيها وأنماط سلوكها وردود أفعالها على الواقع، ورؤيتها التي تقدمها إلى ذاتها وإلى العالم المحيط بها، حيث استطاعت الكاتبة أن تقدم عالما سرديا حافلا بحيوات غنية ومعبرة، تقوم بنيته على الاتصال والانفصال في آن معا، وإن ظل السرد والوصف هما العنصرين المهيمنين مقابل محدودية استخدام الحوار. لقد سمح تحطيم وحدة الرواية زمانيا ومكانيا، والاستفادة من شعرية اللغة واقتصادها في منح السرد رشاقته وكثافته، والقدرة على الحركة في أمكنة وأزمنة مختلفة تلتقي فيها وتتقاطع وحوه كثيرة ومصائر متقاربة استطاعت الكاتبة أن تستجلي أبعادها ودلالاتها، وانعكاسها بصورة درامية على مرآة تلك الشخصيات ووعيها لذاتها وللواقع ولعلاقتها بالآخر.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©