من منتصف القرن التاسع عشر «ميلاده 1844»، إلى آخره، تاريخ رحيله «1900»، ترعرع ونما نيتشه، في جوٍّ ديني، وصدمه موت والده وهو في الخامسة بنزيف دماغي، كما موت شقيقته بعد خمسة أشهر، وهذا ما أثّر فيه، عذوبة ريفية، وهشاشة جسدية تلازمانه على امتداد حياته: حياة معطوبة، موروثة من والده. وبعد غياب والده، عاش مع جدّته محاطاً بالنساء. الموسيقى وَلعَهُ الأول. قارئ الشعر الكلاسيكي. يدخل إلى مدرسة دينية: صرامة السلوك: تعلَّم الخضوع للأوامر. وكذلك التأمّل الذي كان مثاله الدائم. يريد أن يكون مؤلّفاً موسيقيًّا على طريقة شومان، وشاعراً على طريقة بايرون: مرتبتان عاليتان: الشعر والتأليف الموسيقي.
لكنّه، ومن طبيعة عدم استقراره شغف بعلم الفقه اللغوي (فيلولوجيا)، لكنه واجه التقليد العائلي بضرورة التكرّس للثيولوجيا. لكنّه يفضِّل اللغة وأسرارها وتفكيكها، ليجمع بينها وبين «علم» الإيمان... وفي المدينة، تردّد إلى ما هو مختلف: الشراب، والحانات. وهناك، في ليزينغ تابع دروس الفقه.
في العشرين من عمره، يعثر عند أحد باعة الكتب على كتاب غيّر مجرى حياته «العالم كإرادة وتصوّر» للفيلسوف التشاؤمي شوبنهاور، يختزن به عوالم غير مسبوقة بالنسبة إليه، «كل سطر يصرخ الزهد، النبيذ والشفاه، المنفى والملجأ، الجحيم والفردوس». وها هو يتماهى بتشاؤمية شوبنهاور مع أصدقاء وجيل جديد من المثقفين الذين رفضوا هيغل بوضعيته التاريخية وإيمانه بالتقدم، لكنه شعر بأنه يحتاج إلى الفلسفة ليتجاوز الفيلولوجيا، والفن.
في عام 1868 في ليبزيغ، يتسلم نيتشه كرسي الفيلولوجيا في جامعة بال، وعيِّن أستاذاً بعد عدة أشهر. قبل بشعور مزدوج: محبته لهذا العلم، ولكونه يتيح له أن يغرف من الينبوع الذي يغذّي الفلسفة. عمل في هذا الإطار ليشرع في معالجة النصوص الإغريقية: لتفسير التراجيديا اليونانية انطلاقاً من فلسفة شوبنهاور. وكان «ولادة التراجيديا اليونانية أول كتاب نُشر له عام 1872، والذي أثار ضجة، أيّده فيها الموسيقي فاغنر، لكن هذه الحماية الموشّاة بالقومية المتطرّفة أقلقته.
وأثناء الحرب الفرنسية – الألمانية 1870 تطوّع ممرّضاً عسكريًّا، وعاش بين القتلى والجرحى، وفهم، عمقاً، عبثيّة القومية الألمانية المنتصرة.
لكن نيتشه، عانى عذابات، تختلف عمّا شهده في الحرب، أي مختلف عن»العذابات الثقافية. فهو من مراهقته عانى صداعاً دائماً، ومع تقدّم السن، راحت همّته تتراجع. ابتداء من 1873، كان يمنعه هذا الصداع من الكتابة أسابيع عدّة، حيث كان عليه أن يبقى في العتمة، وتناول الأدوية المخدّرة للتخفيف من آلامه.
الصديقة المرموقة
في 1876 يطلب إجازة، ليزور إيطاليا ليستريح في سورنيّته فيقابل هناك صديقته مالوير اميسنباك، أحد الرموز البارزة في الجيل الثوري عام 1848، لتلعب دور «الأم»، والحالم بعشقها وقد قال لها «امنحيني بعض هذا الحب، أيّتها الصديقة المرموقة، وابحثي فيَّ عن شخص يحتاج كثيراً إلى أُمٍّ مثلك».
لكن، وبعد شغفه بشوبنهاور، وجد في فلسفته إفراطاً في التشاؤمية، وكذلك عند فاغنر. إنها النيهيلية التي يمجّها نيتشه. بل وجد فيها «عنصراً انحطاطيًّا، فقطع علاقته بالإثنين. إنها قطيعة بداياته الأولى. تفتح أفقاً لاستقلالية متوجّسة: ضخمة ميثولوجية صارمة، إلى شوبنهاورية عبثيّة سلبية، فإلى أكاديمية»تافهة«اكتشفها بين»دكاترة«الجامعة التي درس فيها. كأنّه، يرمي كل خطاه الماضية، ويتقدم.
وها هو عام 1879، وبسبب مرضه، والفلسفة أيضاً يستقيل من كرسيّه الجامعي في بال، ويعيش في نزل، ثمَّ ينتقل إلى آخر، ثمَّ يعيش كمتشرّد في فنادق متواضعة، بين إيطاليا، وجبال سويسرا، والكوت دازور. وهنا حاول أن يتعلم ترويض مرضه المزمن من خلال رؤى جديدة حول الحياة: يشبِّه حاله في جنوى بكريستوف كولومبوس الذي أبحر من تلك المدينة نحو «الأرض المجهولة». إنها المغامرة. فليغامر بالفلسفة إلى «أرض جديدة»، وبجرأة، ليقلب العالم القديم ويؤسّس قيَماً جديدة، وفي كتابه «فجر» راح يكتشف ويرسم مفهوماً رمزيًّا: «إرادة القوّة»، وفي كتاب «فرح المعرفة» (1882) يبدأ بفتح طريقه رؤيا أبقاها حتى تلك اللحظة سرّية: في صيف 1881 أقام نيتشه للمرّة الأولى في «سيلس ماريا»، ذات المناظر الخلاّبة من بحيرات وجبال، (درج على الإقامة فيها كل فصول الصيف حتى 1880).
كبرياء ويأس
بين 1883 و1885 يؤلف سمفونيّته «الأجزاء الأربعة»، و«هكذا تكلّم زرادشت»، اللغة الباطنية (الايزريسترية) والشعرية، ليعانق فيها فكرة «الإنسان الخارق»، «والعودة الأبدية» وانحناء على «ديونيسيّة الأرض».
لكن بدأت في هذه المرحلة، أكثر من سواها، بلبلة في حاله، وانطواء، وسلوكاً غريباً، حتى قلق أصدقاؤه على صحّته، النفسية. حتى نيتشه بات يخاف من إصابته بالجنون، وبمزيج من الكبرياء واليأس الناتجَين عن شكّه في كيفيّة «أن يصير مفهوماً.
تحسّن وضعه عام 1886، واستعاد وضعه الطبيعي، وها هو يأتمن أعماله ناشر أعماله وأعمال فاغنر. وفي هذه المناسبة يضع سلسلة من المقدمات الجديدة قواسمها المشتركة نتاجه المنشور لمحصّلة «الانتصار الصحة على المرض». صعود من الهاوية الباطنيّة والجوفية، وتجاوز دائم لأفكاره.
وهنا أحسَّ نيتشه بأنّه بات قادراً على أن يقول ويكتب من جديد بلغة قابلة للتواصل ما قاله زرداشت:»أبعد من الخير والشر«(1886)، «جينيولوجيا الأخلاق»(1887)، وعنده مشروع آخر ذو أهمية فلسفية كبيرة سيكون عنوانه»إرادة القوّة». وفي موازاة ذلك راح يبتعد شيئاً فشيئاً عن المقرّبين به باستثناء صديقه بيتر غات، (مؤلّف موسيقي فاشل) كان يصحّح مخطوطاته. وهكذا حفر نيتشه عزلته، فاختلف أولاً مع أخته أليزابيت التي تزوّجت عام 1885 من برنار فورستر المعادي للسامية والقومي المتطرّف.
وفي 1888 بدا أن أيّامه باتت معدودة.
مُعاصرنا
نيتشه الذي لم يكن يريد أن يكون مُعاصراً في زمنه هو اليوم مُعاصرنا. جديدنا «أنها المعاصرة اللامعاصرة له». ربّما أننا نعيش اليوم «معاصرة»دائمة، حاضراً مستمراً، فحياتنا الداخلية مشوّشة على امتداد النهار بساعاته ودقائقه، محاصرين بطوفان من الأخبار إلى درجة نتساءل فيها»هل ما زلنا نفكّر»، بل هل ما زال ضروريًّا أن نفكّر، إنها العولمة المتسارعة. نعيش دُوار الأخبار المتدافعة المتدفّقة، فلماذا إذن علينا أن نستمر في التفكير، عندما لا يبقى سوى الأخبار والحسابات، بلا تفكير أو تفسير.
نجد أنفسنا اليوم، حيث استشرف نيتشه، وما عاش، يستبطن السؤال الذي طرحه «هل ما زال عصرنا يفكّر؟»، «إنه التصحر ينمو»، قالها قبل 123 عاماً وطرح كل الأسئلة حول «النيهيلية» (الافراط في التشاؤمية العبثية) لعصره، وحول «البؤس الثقافي». ويبدو معاصرنا عندما يعلن أنّه بدأ زمن فقداننا «تراتبية الغير»: الذوق، الأفكار، أي كل ما يحدّد الحضارة. يتساءل «ما الذي لا يزال نبيلاً؟». وما أسماه «زوال الأرستقراطية» لا يعني امتيازات سقطت مع الثورة... لكن ما هو النبيل؟ ومن هو؟ ليس نبيلاً ذا امتياز من هو حديث النعمة، لكن نبل النفس، إعلان حقوق جديدة لنبل الفكر، نفوس حرّة محرّرة من «لحظة القطعان»، ونجد ذلك في التنوير... من هنا أُعجب بفولتير.
ولا ننسى أن نيتشه هو شاعر الفلاسفة، وفيلسوف الشعراء، اعتمد في تعبيره «الالتماع»، و«الاختزال» والتكثيف، (متأثراً بطريقة الفرنسيين وخصوصاً لاروشفوكو ولابرويير (وقد صدر له قبل سنوات ترجمة لقصائده في باريس، وقد نقلنا بعضها إلى العربية). وها هي الجملة، أو المقطع أو الرسالة القصير يستخدمها الجيل الجديد عبر SMS: جُمل مفيدة، نصوص مختزلة، وضع أفكار مهمّة في شكل مضغوط، وبسرعة عميقة، هنا سحر – نيتشه. لكنّه إلى ذلك يكتب مثل هذه الشذرات، (أو المأثورات) ثم فجأة تتدفّق جمل الطويلة.
النيهيلية وغوتا
كان نيتشه يقول إنه يجب وضع ثلاث ميزات عند مَنْ يهتم بالفكر:
1) أن يضع نفسه خارج المنهج الجامعي (الأكاديمي)، كأنّما لا يحق للجامعيين التفكير خارج الكليات.
2) أن تكون فيلولوجيًّا (فقيه لغة) جيّداً، قريباً من اللغة والأسلوب.
3) التمتع بعين تشريحية، دقيقة، ومن دون هذه الميزات لن تغطي شيئاً مهماً!
ويقول إن الناس ليسوا بائسين بسبب خطأ الآخرين أو بسبب نظام استبدادي، لا، فخلف الشكوى نيهيلية لتعذيب الذات. فالبشرية بائسة بسبب خطئها، وهو، بذلك يحتفظ بروح الاحتفال، يمتدح الحياة وديونيسزس برغم آلامه.
واليوم، نشهد حاليًّا نوعاً من «صناعة الشكوى» والفراغ والسلبية تملأ وسائل الميديا: شكوى من فقدان الفكر، مديح الفراغ، وقالها «نحن نحب الفراغ نحب البؤس». ونقرأ اليوم لفيلسوف فرنسي كبير لاويسيس يتكلم بصراحة عن «الاستعباد الإرادي». وقد شحذ نيتشه هذه الفكرة، وركّز على إرادة هذا الاستعباد«أفضل إرادة اللاشيء من اللاإرادية. (إنه تحديد النيهيلية). أفضل انتحاراً بطيئاً يتمثّل بعدم إرادة شيء نبيل، شغوف...
رأى نيتشه أن الفلسفة تطلع من الألم، والألم يطلع من الفلسفة، لكن الفرح هو الذي يطلع من هذه الجُلجلة، وكذلك حب الحياة، والتمتّع بمباهجها، ليلتقي الفلسفة الأبيقورية الإغريقية القديمة.
ونظنّ أن كتّاباً عديدين في العالم العربي، وخارجه تأثّروا بنيتشه كالفيلسوف أونفري، وألبير كامو، وجورج باتاي وميشال فوكو وهايدغر وميشال أونفري.. من دون أن ننسى تأثّر جبران خليل جبران به، سواء بثورته على التقاليد والإقطاعيات المذهبية، وباعتماده «الشذرات» المختزلة في كتابه «رمل وزبد» أو حتى بلغة كتابه»النبي».
نيتشه معاصرنا اليوم، تماماً ككِبار في التاريخ من أرسطو، إلى ابن خلدون، إلى ابن رشد.. إلى ألبير كامو.. وهايدغر، وفولتير.