يحتفل العالم بمرور الذّكرى الـ 250 على مولد الموسيقار العالمي لودفيج فان بيتهوفن (1770-1827)، وفيما تستعد فرق الموسيقى الكلاسيكية ودور الأوبرا الكبرى حول العالم لإعادة عزف سيمفونياته الشهيرة، أعادت الصّحف أيضاً تسليط الضوء على بيتهوفن بوصفه أعظم موسيقي عرفه التاريخ، نقدّم في السّطور التّالية ترجمة لمقال النّاقد الهولندي مرلاين كركهوف، والمنشور قبل أيام بصحيفة «ده مورخن» البلجيكية تحت عنوان: ما الذي جعل من بيتهوفن العبقري الذي نقدّره اليوم؟...
ستمرّ الذّكرى الـ 250 على مولد بيتهوفن هذا العام، ومن جديد يقف فنان عملاق في العتمة حتى تأتي مثل هذه المناسبات لتعيده حيّاً إلى الأذهان، هذه المقالة موجّهة بالأساس إلى من لا يعرفون بيتهوفن جيّداً، وأيضاً إلى من يعرفونه، والسؤال الذي سنحاول الإجابة عليه بسيط للغاية: ما الذي جعل من بيتهوفن العبقري الذي نقدّره اليوم؟ للإجابة على هذا السؤال، لدينا أربعة عناوين يمكننا استخلاصها من حياة وأعمال بيتهوفن نفسه، هي التي جعلت منه العبقري الذي نعرفه ونقدره اليوم:
1-سيّد الإيقاع
بيتهوفن هو سيد الإيقاع بلا منازع، علينا فقط العودة قليلاً إلى ما قبل 250 عاماً، إلى اليوم الذي ولد فيه لودفيغ فان بيتهوفن في بون الألمانية، لا يزال اسمه العائلي يحمل رائحة اللغة الهولندية، ما يؤكّد ما يشير إليه بعض المصادر من أن جذور الجد الأكبر لبيتهوفن تعود إلى مدينة «ميخلن» البلجيكية، كان الجد يحترف الغناء بإحدى الفرق المحلية في بون، وكان والده عازف كمان وبيانو ومغنياً في فرقة أبيه، لمح الأب المدمن على الكحول الموهبة مبكراً لدى ابنه، فبدأ في استغلاله في العزف على البيانو، كانت هذه هي بداية بيتهوفن، والتي تتطابق مع موسيقار آخر كان مجايلاً له هو فولفغانغ أماديوس موتسارت (1756-1791).
لم تكلّل محاولة الأب لتقديم ابنه بوصفه عبقري على البيانو بالنّجاح الكافي، وفي عام 1792، وبعد انتهائه من العزف بأوركسترا مدينته بون، قرّر بيتهوفن وهو ابن 21 عاماً فقط، السفر إلى فيينا لإكمال دراسته الموسيقية هناك على يد النمساوي يوزف هايدن (1732-1809)، كان هايدن وقتها سيّد السيمفونيات الأشهر، وعلى يديه تعلّم بيتهوفن أسس البناء الموسيقي المعقّد.
إحدى أكبر مميّزات موسيقا بيتهوفن أنها ذات توجه إيقاعي قوي، كان يفاجئ الآذان بإيقاعات غير متوقّعة بالمرّة، يمدّ أو يقصّر الجمل الموسيقيّة على نحو لم يُعرف قبله، والتي تأتي محمّلة على الدوام بالكثير من القلق والحيرة والعنف، كان بيتهوفن قادراً على استخراج قطعة موسيقية كاملة من إيقاع نغمي بسيط. المثال الأكثر شهرة هو بالطبع افتتاحية «تاتاتاتاااا» التي تبدأ بها سيمفونيته الخامسة الشّهيرة، بهذه الافتتاحية يمسك بيتهوفن الآذان بلا رحمة، ليدخل الأذهان في سحر آخر من أمواج الموسيقا التي، كالبحر، ترتفع لتهبط ضاربة الصّخور من جديد.
2-موسيقار الانتشاء المرعب
في العديد من افتتاحياته يخدعنا بيتهوفن بالكثير من الممرّات الموسيقية المتشعّبة، والتي غالباً ما تنمّ عن الاضطراب والقلق، كأنّ هناك عنفاً ما على وشك الإعلان عن نفسه قبل أن ينفجر أمامنا، ينطبق هذا التّحليل على السيمفونية الخامسة وبدايتها القوية، لتهدأ الموسيقى فيما بعد وتخلق تناغماً بين الآلات المختلفة، كما ينطبق أيضاً على السيمفونية الثالثة، فكلاهما تنتهي بموسيقا أهدأ وأكثر تآلفاً من الافتتاحيات القوية، ليشعر المستمع بالانتشاء والأمان بعد شعوره بالرّعب.
على العكس من هايدن، لم يحارب بيتهوفن الغرابة اللحنية، حتى القبح أو عدم التّجانس الموسيقي لم يقف حيالهما متأفّفاً، بل أدخلهما لعبته ليجعل من موسيقاه مشرطاً حاداً للمشاعر التي كانت تنتابه آنذاك، حتى أن الاتحاد الأوروبي اتّخذ من خاتمة السيمفونية التاسعة نشيداً قوميّاً له، نعم، نحن نعرف اليوم موسيقا هذا المجنون الأصم الذي علّم آذاننا معنى جديداً للموسيقى، نعرف افتتاحيته الشّهيرة للسيمفونية الخامسة، ولكن ماذا عن جمهوره الذي استمع إلى هذه السيمفونية عام 1808؟ من المؤكّد أنهم كانوا مذهولين من كلّ هذا الغضب، لدرجة أن أطلق عليه بعضهم حينها لقب «بطريرك الرّعب الموسيقي»!
3-الثّوري الأوّل
في السّنوات العشر الأخيرة من حياته، كان بيتهوفن يحيا مترنّحاً بين برزخيّ العبقرية والجنون، ضاقت عليه الحياة وصار مجبراً على العمل المتواصل ليجد نفقاته ونفقات علاج شقيقه المصاب بالسل، لم يتزوج بيتهوفن أياً من حبيباته الثلاث اللواتي أغرم بهنّ في فترات مختلفة: لا جوليتا جيجياردي أو جوزفين برانسفيك ولا حتى تيريزا مالفاتي، بل يمكننا أن نستشف المظهر الرث لملابسه الداكنة في هذه السنوات، وبسبب تقلّباته المزاجية الدائمة صار يتجنبه الجميع، كان يتحدث بصوت عالٍ بسبب صممه، وإذا اضطر إلى مناقشة موسيقاه، كان يستعين بكتابة ما يريد قوله على أوراق كانت دائماً بحوزته، وبفضل هذه الأوراق صرنا نملك اليوم العديد من المصادر المكتوبة عن عبقرية بيتهوفن الموسيقية، وبخطّ يده المرتبك.
كان بيتهوفن في ذلك الوقت نصف أصم، ومع حلول 1797 بدأت مشاكل السمع تصيبه بقوة، كان أولها وشيش موجع وآلام دائمة في الأذنين. في وقت لاحق، وتحديداً عام 1812، أصيب بيتهوفن بالصمم الكامل وهو في الثانية والأربعين، واضطر إلى الاستعانة بأقماع لتضخيم صوت البيانو دون فائدة، عندها فقط استسلم أمام صممه، وتخلى عن مهنته كعازف بيانو، رغم تحقيقه نجاحاً كبيراً في العزف على البيانو والكمان، آنذاك.
هنا حدث التّحوّل الأهمّ في مسيرة بيتهوفن، خاصّة حين قرّر أن يحيا من عمله كمؤلف موسيقي فقط، واستطاع أن يكون من أوائل من حصلوا على هذه المهنة بدوام كامل آنذاك، في الوقت الذي لم تكن هناك أية مكانة للموسيقيين لدى الطبقة الغنية في أوروبا، بل كانوا يُعاملون باعتبارهم خدماً، فأستاذه هايدن كان لا يزال يعزف في القصور مرتدياً ملابس الخدم، وكان مجايله موتسارت يأكل مع الخدم بالطابق السفلي بعد أن ينتهي من العزف. أما بيتهوفن فأبى إلا أن يُعامل باحترام وتقدير نابعين من مكانته التي يؤمن بها، فأجبر ملوك أوروبا ونبلاءها على تقديره واحترام موسيقاه.
4-الكادح الفوضوي
كان لبيتهوفن رأس عنيد، ويقال إنه كان مصاباً باضطراب ثنائي القطب، وهو بهذا المعنى جمع بين الشخصي والعملي في موسيقاه، وفي حين كتب موتسارت مئات النوتات دون أن يشطب كلمة، كان بيتهوفن يستهلك كمّيات مهولة من الحبر ليخرج بعد أيام بنوتة من صفحات قليلة.
غالباً ما كان بيتهوفن يستخدم صممه ذريعة لعدم التزامه بمواعيد تسليم موسيقاه، وأيضاً كذريعة لعمل ألحان مجنونة، في سوناتا رقم 29 والمعروفة باسم Hammerklavier، والتي وضعها بيتهوفن لتكون واحدة من أصل 32 سوناتا للبيانو المنفرد، يجمع الخبراء على أنه من الجنون أن يجيد أحد عزف هذه المقطوعة، لصعوبة تنفيذها وما فيها من سرعة كفيلة بتحطيم أصابع أمهر عازفي البيانو!
أسّس بيتهوفن لنفسه مكانة لم يسبقه إليها أحد، ولم يتخطّاها بعده أحد، ويكفي أن نعرف أن هايدن وضع 104 سيمفونيات، أما بيتهوفن فلم يترك لنا سوى 9 فقط، ورغم هذا، فإن ما قدّمه بيتهوفن في هذه السيمفونيات التسع، لهو أكثر غنى وثراء من كل ما خلفه لنا هايدن.
فاغنر: إنه وجه العالم على صورة إنسان
«موسيقيٌ لا يسمع! فهل بوسع أحد ما تصور رسام أعمى؟ لقد سمعنا عن أعمى انكشف عنه الحجاب، هو ترزياس الذي أتاح له انعزاله عن عالم الظواهر أن يرى بعين الباطن أساس الخلق كله.
وما أشبهه في ذلك بالموسيقي الأصم، الذي لم يعد ضجيج الحياة ليعكر صفوه، فأصبح لا يستمع إلاّ إلى الانسجام المستكنّ في باطنه، ويتحدث من الأعماق وحدها إلى عالمٍ لم يعد لديه ما يقوله له بلسانه. هكذا تتحرر العبقرية من كل القيود الخارجة عنها..
إنه بيتهوفن.. عالَم يمشى بين الناس، إنه وجه العالم وماهيته، ساعياً في الأرض على صورة إنسان!»
ريتشارد فاغنر
موسيقي وكاتب مسرحي ألماني
(1813- 1883)