السبت 23 نوفمبر 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

الهويّة.. وحرّاس المرمى

الهويّة.. وحرّاس المرمى
18 يوليو 2019 03:16

أسماء جزائري

الشعوب التي لا تملكُ من بلدانها سوى «الاعتزاز» يتحول فيها حوار الهويات إلى ثورات، لأنه اعتزاز مريض مبني على الوراثة لا العمل، ما يجعله غير قابل لفهم حوار البنية المتخلية تماما عن العاطفة، لأنها لا تستطيع بالمطلق تجميل الهزيمة الآنية لصالح انتصارات تعدتها الشعوب الأخرى إلى انتصارات أضخم.
كثيرون مثلا يبحثُون عن ذاتيتهم في اللغات («اللغة الفرنسية منفاي» مالك حداد)، آخرون يبحثُون عنها في الأعراق («أفريقيا للأفارقة» ماسينيسا أحد حكام نوميديا قديماً)، وآخرون يجدونها في الديانات (ما شاهدناه من فخر حينما تصارع الروسي المسلم حبيب مع غريمه الإيرلاندي) وغيرها الكثير. إننا ننموا فوراً إذا زرعنا، والجذور تمد ذاتها على أتربة أوسع ما يجعلها تتشابك مع جذور أخرى، لكننا بالمقابل ننكمش إذا ما تعرضنا للنكران المبني على الإلغاء، وما بينهما نظل نتخبط تحت درائع الوطنية. يقول غرامشي: «إن الأزمة الحقيقية تكمن في أن القديم يحتضر، والجديد لم يُولد بعد، وما بينهما نشكو من أمراض عديدة»، ومن ثم فما يحدث اليوم من صراعات هوياتية هي مسائل غير محسُومة تركت أو تم استبعادها، والتي تعامل معها الآخر البارحة بالإجبار والإنكار، وعلينا اليوم أن نتجاوزها لا بكتمانها بل بسماعها بأصوات أفكارنا العالية لا لنجبر الـ«هو» على جوهر سكوني بل لنصنع جوهرا حقيقياً بعيدا عن المنطق الأرسطي الجامد الذي ينظر إلى التحول على أنه دليل نُقص وقصور، وليس ظاهرة طبيعية أو قانون علمي. أي أن التغيّر يعني نقصا في طبائع الموجودات من حيث حاجتها في حفظ وجودها وكمالاتها إلى شروط وظروف هي غيرها، فالوجود الحقيقي بحسب أرسطو هو ما ليس يطرأ عليه التحول، ولهذا كان التغيير عندهم برهانا على نقص في الوجود بالنسبة إلى الشيء المتغير، أو برهانا على ما أطلق عليه اليونان أحيانا باللاوجود، ولمعرفة أن الديناميكية هي الجوهر لا السكون لا يعني أننا ننفي وجود هوية الكائن، ولكن فقط يعني نفي وجود هوية جوهرانية ثابتة دائمة على الأقل علمياً. في كتابه «الهويات القاتلة» يشرح أمين معلوف بعفوية قائلاً: «علمتني حياة الكتابة أن أحذر الكلمات، فتلك التي تبدو أكثرها شفافية هي في الأغلب أكثرها خيانة، أحد هؤلاء الأصدقاء المزيفين هو بالتحديد كلمة»هوية«، فجميعنا نعتقدُ معرفة ما تعنيه هذه الكلمة ونستمر بالثقة بها حتى عندما تبدأ هي بقبوُل العكس بمكر».

دفاع
يعتقد الإنسان أنه يمتلكُ الحقيقة فقط حينما تتوقف الحقيقة عن الظهور أمامه، وبذلك يُراكم الكثير من الادعاءات المتوفرة في ظل غياب ما يمنع ذلك أو لنقل ما يردعه بصورة منطقية، فالهويات لا تموت من تلقاء ذاتها ولا بتفريطنا بها، فالإنسان يعيش حالة من الوهم الاضطراري يجدُ فيها ما يفتقد إليه، ما أسميه بآليات الدفاع أو ما يسمى في عالم الأسلحة منظومة دفاع تعتمد على الصد اللامحدود الذي يرى فيه هذا الإنسان أن كل ما يقذفُ باتجاهه هو محاولة لإلغاء وجوده، فيتحول إلى رافض يصد حتى الورود تحت ذريعة الحماية.
إن الطريقة المثلى لتنامي هذه البؤرة المدهونة بكل شحوم استخراج المعلوم ما هي إلا إعاقة لحركة التاريخ السليمة التي سيتوقف معها المردود في إنتاج إشكاليات متطورة تمنحنا نتائج جديدة غير مجرّبة لصالح تواريخ قديمة متنازع عليها الآن لأجل إحقاق الـ«هو» مقابل «الآخر». فالذين لا يستطيعوُن الاضطلاع بتنوعهم الخاص يجدُون أنفسهم أحيانا بين أشد القتلة على الهوية فتكاً، يهاجمون الذين يمثلون ذلك الجزء الذي يريدون طمسه من أنفسهم، إنه كره الذات الذي شاهدنا أمثلة عديدة عليه عبر التاريخ كما يفسره أمين معلوف. صحيح هنالك أشخاص كُثر لا يستطيعون فهم أن الإنسان لا يستطيع حمل الهوية التي حصل عليها آباءه أو أجداده القدامى كما هي، مع هذا لا يمكن لأحد أيضاً أن يكسر ذلك الجوهر، فلا يكفي أن يكون التغيير موافقاً لروح العصر لكي يتم قبوله كما يقول معلوف ينبغي أيضاً ألا يُسبب صدمة على مستوى الرموز، وألا يمنح الذين نحثهم على التغيير شعوراً بالتنكر لذاتهم.
إننا هنا نعود إلى مبادئ أرسطو من جديد من منظور عكسي «مبدأ الهوية» الذي يعتبر«B» هو «B» أي أن الشيء هو عين ذاته، وهو لا يصدق على المساواة الرياضية فحسب، بل يصدق على كل علاقة منطقية يعبر عنها بالجملة BB ومبدأ الهوية هو المثل الأعلى للحكم التحليلي، لأن المحمول في هذا الحكم ليس جزءا من مفهوم الموضوع، وإنما هو عين الموضوع ذاته ومن شروط الضرورة المنطقية التي يُعبّر عنها مبدأ الهوية، أن يكون المعنى المُتصور مُحددا وثابتا فلا يتغيّر بحال، وهذا ما يرفضه أمين معلوف، فالـ«هو» ليس ذاته دُفعة واحدة ولا يكفي على حسبه بأنه يعي ما هو عليه، إنما يصبح ما هو عليه ولا يكتفي بأنه يعي هويته إنه يكتسبها خطوة خطوة، فالهوية لا تعطى مرة وإلى الأبد، فهي تتشكل وتتحول على طول الحدود، فوجود عوامل كثيرة تمنع فهم ذلك دليل على عدم إدراك حجم مكر الصراع عن الهويات دون النظر إلى الهويات المكتسبة التي شكلت واقعاً منطقياً يهربون منه بالإنكار، فالاستغناء حاجز ذاتي بنته المعتقدات لا الحقائق، لا أحد يستغني حتى لو أراد ذلك، هو لا يستطيع تحقيق الأشياء التي لا تهتم لمشورته كقدومه إلى الحياة، حمله للقب ما، وانتسابه لبلد ما، فالتبرؤ هنا يصبح منزوعاً والانتماء لا يُمكن تغطيته أو إزالته بتغيير البلدان أو الألقاب، إنك ما تعنيه الأنا من الـ«أنا»، لهذا في عمله «الهويات القاتلة» يعترف معلوف بأن يحدث له أحياناً ما يدعوه بمتفحص هويتيه مثلما يقُوم بعضهم بتفحص ضمائرهم، وربما فهمنا أنه لا يهدف لأن يعثر في ذاته على انتماء أساسي يتعرف إلى نفسه من خلاله، بل إنه يتبنى الموقف المعاكس، فهو يبحث في ذاكرته ليكشف عن أكبر عدد من عناصر هويته ويجمعها ويرتبها ولا ُينكر أيا منها.

مصفاة
فهل الانتماء الوطني الكلي يربي تحت جناحيه آليات الاحتقار باعتباره الآلة التي تُعتمَد في البلدان الشمولية على التلحيم بدل التركيب؟
تتحدث حنة أرندت بالكثير من الحسرة عن طبيعة الأنظمة الشمولية التي تمحو الثراء والتنوع البشري وابتلاعها المساحات الخضراء بجرف المجتمعات إلى مستنقعات الخُضوع لتختزل وجوده ووعيه كحشد قطيعي، ثم تصور لنا تلك الآلة التدميرية لهذه الأنظمة التي تحطم الصفة الإنسانية ومعها تجرف الذات، لأن الاستبداد بين المُستبَد والمُستبِد يقع بذات الثقل رغم اختلاف المواضع، وإن سألنا هل يعوُد المستبَد والمستبِد إلى طبيعتهم بعد انتهاء الاستبداد؟ سنجيب: بالطبع لا، فالوطنية ليست فقط وفاء لما تمليه الدولة أو ترفضه، هي أيضاً اعتراض عليها. ويعتقد ادوارد سعيد أن المشكلة الكبيرة تكمن في مسألة الهوية الوطنية، أو ما يسميه «بسياسة الهوية»: الشعور بأن كل ما تفعله يجب أن تشرعه هويتك الوطنية، أو أن يمر عبر مصفاتها، وهي في معظم الأحيان مجرد وهم، كما يعلم الجميع أقصد الهوية التي تقول: إن العرب متجانسين ومتطابقين، وضد كل الغربيين المتشابهين بدورهم، هنالك غربيون عدة، إذن دور المثقف الأساسي في هذه اللحظة، هو تكسير تلك الهويات الكبيرة، الوطنية والثقافية والعابرة للثقافات.
إن كل صراع ناتج عن آليات الخوف، «الخوفمِن» أو «الخوف على»، الخوف القديم الذي يخلق معه استجلاب الحدث المأساوي وحده ما يجعل حدث رفع راية ما هو محاولة للانفصال مشكلاً تهديدا تتحكم فيه البنية التاريخية التي صنعت هذا الجيل. وهذا التفكير يفضح مدى الخوف من الشتات باعتبار أن الأشخاص يحملون إرثا استعماريا، سواء عايشوا ذلك الخوف من فُقدان الانتماء للوطن بأنفسهم أو بالعودة إلى التاريخ، وهو خوف مُبرر لكنه اعتراض غير مبرر، فالأعلام لا تحمل نفس الطموحات ولا الألوان. الولاء للوطن لا يختلف مُطلقًا عن الولاء للعرق لأن الولاء الإجمالي ما هو إلا مجموعة من الأعداد تتقارب في صورتها الكلية دون إلزام يجعل هذه الأعداد تفقد خواصها بما يسمى الإذابة، هناك خوف تاريخي متغول يتحكم في القابلية والإقصاء، وهذا الخوف هو ما يصنع السفاحين والمنتقمين منهم الذين يعتقدون أن الاختلاف في الهوية من حيث الأمس ما هو إلا محاولة خطيرة من الآخر للإطاحة بوجود ال «هو» نفسه، ما يجعلُ قبول الأجنبي نوع من الاتهام والريبة ليبنيان معاً منعطف الاحتقار.
وتعد حالة تنامي الحزب اليميني في الغرب بصورة مُلفتة، والالتفاف حول رفض الآخر، تفسيراً للشعور بتهديد العرق والنسيج الخاص ما يجعل الناس يقفُون في وجه الليبرالية والتعددية، فما تذيبه ماكينة العولمة يستجمعه ويعيد صلابته تنامي مفاهيم الهوية.
وكان المفكر الأميركي فرانسيس فوكوياما صاحب نظرية نهاية التاريخ، قد عاد في كتابه «النظام السياسي والتآكل السياسي» بعد عامين، ليتحدث عن تراجع التجربة الديمقراطية باعتبار أن الديمقراطية نهاية التاريخ فإنها لن تنهار لكنها قد تتآكل، ويؤكد أنه لكي تنجح الديمقراطية يحتاج المواطنون إلى اعتزاز غير منطقي بمؤسساتهم الديمقراطية، وتغيير الثقافة الاجتماعية القائمة على الاعتزاز بالانتماء إلى جماعات صغيرة على أساس الدين أو العرق أو أشكال أخرى من الاعتراف، وهي دون الاعتراف الشامل الذي تقوم عليه الدولة الليبرالية، أما الديمقراطية الليبرالية فتبدل الرغبة غير العقلانية في الاعتراف بالدولة أو بالفرد، باعتبار أيهما أعظم من الآخر، وتحل محلها رغبة عقلانية في الاعتراف على أساس المساواة. ولم يتخلف نعوم تشوميسكي عن رؤيته لهذه الإشكالية رغم أنها لم تلق قبولا بداية، وكانت رؤية سويداوية حذر فيها من أن صعود «رمز يتمتع بالكاريزما» في المجتمع الأميركي سيكون خطرا على البلاد، لأنه قد يأتي بعده شخص يدفع الأمريكيين باتجاه صناعة أعداء داخل المجتمع.
الأمر لا يختلف كثيرا إذا ما وجهناه إلى الصراع الهوياتي عندنا ما بين الأصيل والأجنبي، حيث يتحول فيها المواطنون إلى مجموعة من المنظومات النفسية للجماعات المتقاتلة، كان الفيلسوف وعالم الاجتماع الهندي أرجون أبادوراي قد نوه إليها في كتابه «الخشية من الأعداد الصغيرة»، فالجماعات الهوياتية بالنسبة لأبادوراي تتحول إلى جماعات مفترسة بمقتضى التنميطات المتبادلة التي تمارسها الجماعات الدينية أو العرقية أو المذهبية على بعضها البعض، فعملية التنميط ووضع اللافتات التي تُشيطن الآخر وتلبس الذات ثوب الملاك ما هي إلا تأسيس لمنظومة متكاملة من الادعاءات والصور النمطية ضد الجماعات الأخرى، فسلطة الأعداد الصغيرة هي الخاصية المميزة للإرهاب الجديد من طرف والخشية من الأعداد الصغيرة من طرف آخر وفي المحصلة ما هو إلا ضعف جسيم في الديمقراطية، وعلينا أن نضيف اليوم الخشية على الأعداد الصغيرة لا منها فحسب، فهنالك طرفان يتنازعان «الصلب والإذابة».

اكتساب
فهل يحتاج التعايش للذوبان بدل فهم ماهية التراكم؟ لماذا نرفض فكرة التقدم في السن في مسألة الهوية؟ فهنالك هويات تشيخ ويجب تشبيبها.
نحن لا ننتمي فقط فطريا، بل نكتسب الانتماء مع مرور الثقافات علينا، دور الإنسان ليس الحفاظ على موروثه القديم بتجميد ذاته هو ليس بحارس مرمى تاريخي، بل الانتقال إلى صناعة موروث جديد مركّب يخلقُ من خلاله هوية تتصارع لأجل إخماد شيخوخة الأوحادية ما يضمن له امتداداً يحافظ فيه على ديناميكية الأحداث.
إن التمسك بالأمس لا يعني مُطلقا أن نبقى عبيده، بل إن نتعداه دون طمسه. مثال بسيط ما طرأ على الملابس التقليدية من عصرنة، وهو شيء لم يتخل لكنه يرفض الثبات بصورته الرهينة، كذلك التزاوج الجميل، كأن تُوضع قطعة الملحفة الشاوية فوق سروال الشلقة العاصمي، ملابسنا تنفتح على بعضها البعض بعفوية وهي الأصدق على الدوام مما يحدث على المنابر، فكلما فقد الإنسان رؤيته المستقبلية يعود إلى الخلف بالتقوقع على الثقافات القديمة. ومن الجدير فهم تمسك السياسيين دائما بورقة الهويات، وهو نوع من التمسك بتموقع الشعوب عند خط الحضارة ذاته، فبينما تجد الإنسان في مكان ما يتحدث عن إمكانية التواصل مع سكان من كواكب أخرى تجده في مكان ما يقطع تواصله الموجود بين ال«هو» وال«آخر» اللذان ينتميان إلى نفس البيئة، لأنه لا يستطيع التخلص من حالة الإنكار المتلازمة بحالة الخوف والذعر التاريخي، الخوف الارتيابي المملوء بأخطاء البارحة يجعل من المسافة ذاتها دائما موجودة عبر تواريخ مختلفة وهي عوامل استطاع الإنسان المحافظة عليها أيضًا بداعي التريث، لكنه مع الوقت يكتشف فور خوض أزمة جماعية مدى تقارب هذا الذي يُسميه غريما، ثم يتم تكسير حلقة من ذلك الارتياب، وأزمة بعد أزمة يكتشف هؤلاء الناس أنهم وفي هذه الآونة يشكلون من جديد هويتهم الواقعية المبنية على التراكم ويتخلون بذلك عن خطوة خلفية للأوحادية.

 

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©