السبت 23 نوفمبر 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

تصدّعات الأرواح البعيدة

تصدّعات الأرواح البعيدة
18 يوليو 2019 03:16

حنا عبود

اعتدنا استخدام الاغتراب والهجرة بمعنى واحد، فنقول «أدب الاغتراب» و«أدب المهجر». ربما كان هذا مقبولاً في أوائل القرن العشرين. أما بعد الدراسات المتعددة والمتنوعة عن الاغتراب، فلا بد من أن نستخدم هذين المصطلحين في الأدب استخداماً أدق. وخلاصة ما نريد قوله إن الاغتراب مرتبط بالنفس، بينما الهجرة مرتبطة بالواقع المادي. والرابط بين الاغتراب والهجرة وارد من حيث إن الهجرة قد توقد حس الاغتراب، ولكن العكس ليس صحيحاً. وهذا قانون العلاقة بين الهجرة والاغتراب. فالهجرة ابتعاد بالجسد،
والاغتراب ابتعاد بالروح.
بالطبع لا ينحصر معنى الاغتراب فيما سقناه سابقاً، بل له معانٍ كثيرة، كما ورد في المعاجم وكتب اللغة. ثم إن هذا المعنى ذاته لم يفت شعراء العربية، فقد استخدموه كأنهم معاصرون لأفلاطون وهيغل ولوكاش... قال ابن الدمينة:
فَلاَ تَحسَبِي أَنَّ الغَرِيبَ الذِي نَأى
وَلكِنَّ مَن تَنأَينَ عَنهُ غَرِيبُ
فاستخدم «نأى» الأولى بمعنى الابتعاد، و«نأى» الثانية بمعنى الإعراض، وهذا التقليب في المعاني للكلمة الواحدة شائع جداً في العربية أكثر من غيرها، ومنها كلمة «اغتراب».
وقال ابن الرومي:
غريبٌ له نفسانِ نفسٌ بواسطٍ
ونفسٌ بسامرَّا بكفِّ حبيبِ
ويصل الشريف الرضي إلى أعماق النفس في كشفه أقنعة المراءاة حين يقول:
وَإِنَّ غَريبَ القَومِ مَن عاشَ فيهِمُ
وَليس يَرى إِلّا عَدُوّاً مُداجِيا
ومثله المتنبي:
أَنا في أُمَّةٍ تَدارَكَها اللّهُ
غَريبٌ كَصالِحٍ في ثَمودِ
وأمين الجندي:
كَأَني غَريبٌ بَينَ قَومي وَمالَهُم
شُعورٌ بِأشعاري وَلا في رَسائِلي

قوانين الاغتراب
القانون الأول للاغتراب أنه متلازمة syndrome بشرية - بالمعنى الذي أتينا عليه سابقاً- لا يمكن أن يخلو منه شخص يتحسس الواقع المحيط به. وقد بلغ من الشيوع حتى بات مقياساً- في الحالة السليمة- لطاقة الإبداع. والقانون الثاني أنه حساس جداً، فقد يكون اغتراباً عن الأب أو الأم أو الأسرة أو الوطن أو الثقافة أو المجتمع...إلخ ولكنه بالتأكيد لا يرتبط لزوماً بالمادة. والقانون الثالث أنه خطير إذا فقد المرء السيطرة عليه، فمعظم أمراض النفس متأتية من الاغتراب، والقانون الرابع أنه قابل للشدة والليونة معاً، في حالات وحالات، فينأى المرء بنفسه عن المجتمع حيناً ويندمج فيه حيناً آخر، وما مرض الشيزوفرانيا سوى التقلب بين الطرفين مما يخلق صدعاً في النفس، يؤكد فرويد أن من هذا الصدع بين الرغبات ومراعاة الواقع ينبثق الأدب والفن. والقانون الخامس أنه شمولي لا يقتصر على دائرة من الدوائر الاجتماعية، فقد يظهر في العزوبة وقد يتجلى في الزواج، وقد يظهر بين الأب وابنه، ويظهر في المعمل والمشغل والأحياء الشعبية ودور الثقافة والجامعات... وقد جاءت الدراسات التطبيقية في مخابر علم النفس المصرية تؤكد ذلك.
أما ما جاء به الفلاسفة مثل أفلاطون الذي رأى الاغتراب في مفارقة النفس لحالتها الأولى، أو هيغل الذي رآه في التباين بين الواقعي والمطلق، أو لودفيغ فيورباخ الذي رآه في المعتقدات الدينية وطالب أن يبدأ النقد بالدين قبل أي شيء آخر، أو كارل ماركس الذي رآه في التناقض بين وسائل الإنتاج وعلاقات الإنتاج، أو جورج لوكاش الذي رآه في التشيؤ reification أي شعور الإنسان أنه شيء من الأشياء التي تتكوّن منها الآلة، وأنه لا استقلالية له، أو فرويد الذي رأى الاغتراب في قمع الرغبات النفسية العميقة...إلخ، فهي أطروحات فلسفية لا تهم الأدب. أما الأدباء فمالوا في معظمهم إلى التركيز على مؤسسة الزواج باعتبارها أكبر نظام بشري لتفريخ الاغتراب أكثر من الأرانب ومزارع الدواجن، كما في مسرحيات أوغست سترندبرغ، وبخاصة «الأب» و«مس جوليا»، ويكفي أن نذكر «موت إيفان إيليتش» و«سوناتا لكروتزر» و«آنّا كارنينا» حتى ندرك مدى استياء ليون تولستوي من مؤسسة الزواج. وحتى أشد الكتاب واقعية أمثال غوستاف فلوبير يقدم لنا «مدام بوفاري» نموذجاً صارخاً لهذا الاغتراب، وكذلك توماس هاردي في روايته «تس» النموذج الأمثل للاغتراب الذي ينجم عن انحطاط أسرة كانت من النبلاء... ويعلن بودلير في «أزاهير شرّه» أنه يتمنى أن يرى زوجته على سكة القطار قبل وصوله بثانية، ويتخيل كيف يستريح من عبئه عندما يضع فوقها كومة من الحجارة الثقيلة، خشية أن تعود ثانية. والملاحظ أن أدباء المهجر لم يركزوا على الاغتراب السياسي أبداً، وهذه ظاهرة تستحق الدراسة.
وليس في هذا أي تناقض بين الفريقين الفلسفي والأدبي، سوى أن لكل فريق أسلوباً خاصاً به في التعبير عن هذا الاغتراب.

قوانين الهجرة
أشكال الهجرة عديدة جداً، منها النزوح والترحيل transfer كما حدث في فلسطين، والنقل swift كما حدث في الشيشان أيام الحكم السوفيتي، واللجوء السياسي واللجوء الإنساني والهرب من السجون، على مدى تاريخ الدول... فهي كما نرى مختلفة عن أشكال الاغتراب كل الاختلاف، وإن تلاقت مع الاغتراب في بعض التقاطعات. والغريب أن تستخدم المؤسسات المصرفية «الترانسفير» و«السويفت» أساساً لحساباتها.
القانون الأول للهجرة، وهو الأهم أنها دائماً تحدث من الشرق (آسيا وأفريقيا) إلى الغرب (بقية دول العالم). وهذا القانون ساري المفعول حتى هذا اليوم. فمنذ الألف السابعة قبل الميلاد هاجرت أقوام من شعوب آسيا الوسطى إلى أميركا، ولا تزال أفواج المهاجرين، لأسباب شتى، تهاجر إلى الغرب، وبخاصة في الشواطئ الإفريقية.
القانون الثاني للهجرة أنها في العصور الزراعية حملت معها الحضارة إلى الغرب، الورق والحرير والبارود والنسيج الحديث والحروف الأبجدية والأرقام والحساب والرياضيات.
القانون الثالث للهجرة أنها ظلت مستمرة بعد القرن الرابع عشر الميلادي، أي بعد اختراع الأسلحة النارية، من دون أن تحمل معها حضارة. وبدأت الحضارة تتخذ طريقاً عكسياً فراحت تتسرب من الغرب إلى الشرق، من دون أن يكون هناك هجرة أو تهجير، أو أي شيء من هذا القبيل.
القانون الرابع أن هجرة الغرب إلى الشرق لم تكن للأسباب التي حصلت فيها الهجرة من الشرق إلى الغرب، بل كانت بسبب ظهور الإمبراطوريات الجديدة (الامبريالية) فكانت هجرة استعمار واستغلال، ولا علاقة لها بمسيرة الهجرات السابقة.
ظاهرة الهجرة درست كثيراً، فمن المدهش أن تظل ثابتة من الشرق إلى الغرب، مهما تغيّرت الظروف. ففي العصر الحديث تعتبر الهجرة من الجزائر من أكبر الهجرات في البلدان العربية، مع أن الجزائر فيها من الثروات ما لا يحسبه قلم، ولا يدركه عقل. وقد أكد أرسطو أن السبب ليس سوى الاستبداد الشرقي. ليس الاستبداد السائد في كل العالم، بل الاستبداد الشرقي الخاص بالشرق، المتجلي في حاكم يمسح الوجه المدني للمجتمع، ويربط كل شيء بذاته، من رغيف الخبز حتى الكهرباء والنقل والنقابات والفرق الرياضية، وبائعي المفرق والجملة. إن محو الاستبداد الشرقي للمجتمع المدني يفسّر لنا لماذا ينحدر المهاجرون من شتى الطبقات والمذاهب الاجتماعية والدينية، فما هاجر فقير، إن كانت إمكاناته المادية تمكنه من الهجرة، إلا هاجر معه عشرات الأغنياء.
ما نريد قوله إن الهجرة دائماً من الشرق إلى الغرب، حتى أواخر القرن الرابع عشر الميلادي، وتسربت معها مفردات الحضارة الشرقية، وبعد هذا القرن ظلت الهجرة كما كانت من قبل، ولكن الحضارة أخذت تتسرب من الغرب إلى الشرق، بإشراف دقيق من الدول الأوروبية. وهذا ما لا ينطبق على الاغتراب، بالمعنى الذي أشرنا إليه من قبل.

الهجرة والإبداع
تتخذ الحياة البشرية مسارين: أفقي ويكون بالتطور المادي، فبدلاً من الطبخ على الحطب ظهر الميكروويف، وبدلاً من الغسيل على ضفاف الأنهر والسواقي ظهرت الآلات الحديثة، وهكذا تكاثر عدد العبيد الآليين، إلى درجة أن قلامة الأظفار صارت على الكهرباء.
والاتجاه الثاني عمودي وهو الارتقاء المعنوي ويكون في الآداب والفنون، والجهود التي تبذل في الأفقي تدخل في باب الاكتشافات والاختراعات، وفي العمودي تدخل في باب الإبداع، فلا أحد يقول إن نيوتن مبدع، بل مكتشف، بينما يقول عن إدغار ألن بو بأنه مبدع.
نسبة المتفوقين، أو البارزين، من المهاجرين إلى العالم الجديد، في كل العلوم التطبيقية، تكاد تكون واحدة تقريباً، نجدها بين اليابانيين والصينيين والكوريين والهنود والعرب والأتراك... وقد عرفت ميادين الفيزياء والكيمياء والرياضيات والهندسة الكونية وعلوم الذرة، والسيبرنتيكا أسماء لامعة من كل الشعوب المهاجرة. لكن الإبداع في الآداب والفنون والنقد والموسيقا يقتصر على السوريين واللبنانيين فقط. فأدب المهجر، وكان يجب أن يسمى أدب الاغتراب، لأن الهنود الحمر هاجروا منذ عشرات الآلاف من السنين، ولم يظهر منهم شعور بالاغتراب، ولم يقوموا بعمل إبداعي. وهذه ظاهرة فريدة من نوعها.
ألا توجد جاليات مهاجرة من بقية البلدان؟... بلى، فكما نعرف كادت اللغة الألمانية أن يعترف بها لغة رسمية للولايات المتحدة لولا صوت واحد رجح اللغة الإنجليزية. لم يظهر أدب مهجر ألماني، ولا إنجليزي، ولا فرنسي ولا روماني ولا إيطالي ولا هندي، ولا إندونيسي... ظهر أدب مهجر عربي فقط. ولندع الدول والشعوب الأجنبية وننظر إلى العالم العربي، متسائلين: ألم تكن هناك جاليات عربية أخرى، غير الجاليتين السورية واللبنانية؟... بلى كانت هناك جالية مصرية كبيرة، وعراقية وسودانية... إلخ، ولكن إبداع أدب مهجري أثر في الفكر الأدبي الحديث أكبر تأثير، لم يظهر إلا من اللبنانيين والسوريين (والمصريون يطلقون عليهم لقب «الشوام» نسبة إلى بلاد الشام) الذين لم يقصروا أيضاً في ميادين العلوم التطبيقية.
كما تفرد أهل الشام بالإبداع الموسيقي، فقد درست الأكاديمية الفرنسية مؤلفات الموسيقيين العالميين، الذين كان لهم تأثير كبير في بلادهم وخارج بلادهم، فاختارت ثلاثة وقدمت لهم «وسام الخلود» باعتبارهم الأعظم فناً في العالم: الأول بيتهوفن من ألمانيا، وأطلقت عليه لقب «موسيقار النصف الأول من القرن التاسع عشر» والثاني شوبان من بولونيا، وأطلقت عليه لقب «موسيقار النصف الثاني من القرن التاسع عشر»، واختارت من العرب فريد الأطرش وأطلقت عليه لقب «موسيقار القرن العشرين» بعد أن تأكدت أن موسيقاه الصامتة تعزف في كل أنحاء العالم، وأن أغانيه ترجم منها أكثر من 49 أغنية إلى ثماني لغات وأداها المطربون، كل بلغته، من دون أي تغيير في الألحان الأصلية. وبعض أغانيه ترجم إلى أكثر من ثماني لغات بكثير.
ويجمع نقاد الأدب أن لونجينوس، الحمصي المولد، الذي هاجر إلى الإسكندرية وأثينا، وصار مستشاراً للملكة زنوبيا، يعتبر أعظم ناقد أدبي في البشرية، وأن كتابه «الجليل في الأدب»The Sublime لا يزال الأفضل، لم يتخط مبادئه الإنسانية الراقية كتاب نقدي آخر.
ما أكثر الكتب التي ظهرت عن أدب المهجر، ولكنها، السلبي منها والإيجابي، لم يطرح هذا السؤال: لماذا لا يوجد إبداع «مهجري» إلا عند «الشوام» ظهر منذ أواخر القرن التاسع عشر ولا يزال مستمراً حتى اليوم؟
ولكن حتى لو طرح هذا السؤال، هل هناك جواب يطمئن إليه القارئ ويقتنع به؟... نخشى أن يبقى السؤال قائماً إلى الأبد.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©