د. سعيد توفيق
الموضوع الذي يلح على ذهني دائمًا، ولا أجد فكاكًا منه هو «أزمة الإبداع في واقعنا العربي». وربما يكون من الملائم في البداية أن نشخِّص هذه الأزمة، وأن نعرف أعراضها وظواهرها، لكي يمكن البحث في عللها وأسبابها، وهو ما يمكن أن يقودنا في النهاية إلى التعرف على الأقل على مواطن الداء، وسُبل التغلب عليه. أما كوننا في حالة أزمة إبداعية حقيقية، فهذا أمر لا ينكره سوى جاهل أو غافل. والأزمة هي مأزق نجد أنفسنا متورطين فيه، ولا نعرف كيفية الخروج منه. ولا شك أنني لست بأول من يفطن إلى هذه الأزمة، فقد سبقني إلى ذلك كثير من المفكرين والأساتذة المرموقين الذين أدلى كل منهم بدلوه في الأمر من خلال مشاريع رائدة وعظيمة.
من المدهش أن هذا يحدث منذ أكثر من قرن ونصف، حينما بدأ من مصر مشروع نهضوي في عصر محمد علي، أعقبته حركات فكرية تنويرية بلغت ذروتها في النصف الأول من القرن الفائت، حيث امتدت هذه الحركة التنويرية خارج مصر، خاصةً في بلاد الشام. وجدنا ثمار هذا التنوير مع بداية حركة ترجمة قوية بدأت مع رفاعة الطهطاوي، وحركة إصلاح ديني بدأت مع الإمام محمد عبده، وحركة إصلاح سياسي واجتماعي ازدهرت على أيدي كثيرين غيرهم.
ومع ذلك، فإننا نجد أنفسنا الآن وكأننا نقف في مكاننا الذي بدأنا منه، بل إننا- في واقع الأمر- نجد أنفسنا قد تراجعنا كثيرًا على الأصعدة كافة: فما زلنا حتى يومنا هذا نطالب بإصلاح الخطاب الديني، ونطالب بتطوير التعليم، وبتحرير المرأة، وغير ذلك كثير. وحينما نقيس موقعنا في الإبداع الفكري والعلمي (أستثني هنا الإبداع الفني الذي يمكن أن يزدهر في فترات الأزمات والمِحَن) نجد أننا في تراجع دائم بالقياس إلى ما يتم إنتاجه في العالم المتقدم، وهذا التراجع يزداد يومًا بعد يوم بشكل مذهل، بحيث يزداد الفارق باستمرار بيننا وبين هذا العالم. ولا بد هنا أن نتوقف ونتساءل: لماذا؟ هل يرجع ذلك لعلة في الجهود الفكرية السابقة؟ أم إلى تغير السياق التاريخي عن السياق الذي كانت تستدعيه تلك الجهود؟ الواقع أن كلا الأمرين صحيح: فمن ناحية نجد أن جهود الإصلاح قد ركزت كل منها على جانب ما: فهذا رأى أن الإصلاح يكمن في إصلاح الفكر الديني، وذاك رأى أنه يكمن في إصلاح الأحوال السياسية، وثالث رأى أنه يكمن في إصلاح الأحوال الاجتماعية. ومن ناحية أخرى نلاحظ أن هذه الجهود كانت مرتبطة بسياق عصرها الديني والسياسي والاجتماعي؛ ومن ثم كانت مرتبطة باللحظة التاريخية التي أنتجتها؛ أعني أننا لا يمكن اليوم أن ننظر إلى العالم وإلى موقعنا بالنسبة إليه من المنظور ذاته والموقع ذاته اللذين كان من خلالهما ينظر السابقون.
وعلى هذا، فإننا نرى أن أية محاولة فكرية تحاول أن تستشرف طريقًا للخروج من تلك الأزمة التي نحياها، لا بد أن تكون أولًا رؤية شاملة تفطن إلى لب الأزمة التي ينتج عنها ظواهرها المتعددة، وأن تكون ثانيةً رؤيةً تنبع من فهم اللحظة التاريخية التي نعيشها في عالمنا الراهن، وأن تكون في هذا كله تراعي الأولويات، بمعنى أن تفطن إلى موطن الداء، لتتبع بعد ذلك مظاهره وأعراضه. وهذا هو ما يشغلنا في تشخيص جذور أزمة إبداعنا الحضاري، كما سوف نلخصه في السطور التالية:
هيمنة الديني على الدنيوي
المقصود هنا هو إرجاع معظم الناس كل شؤون الدنيا إلى الدين؛ فكل شيء ينبغي تقييمه- بل تفسيره أحيانًا- على أساس الدين، حتى إن كان شأنًا خالصًا من أمور الدنيا، وحتى دون فهم للمرجعية الدينية أو إلى النص الديني الذي يستشهدون به. ومن هنا نشأت المرجعية الدينية في عالمنا ممثلة في بعض رجال دين الذين يفتون في كل كبيرة وصغيرة من شؤون الدنيا، وكفي بالناس أن يلتزموا بهذه الفتاوى في صورتها الشكلية.
وهذا الخلط بين الديني والدنيوي لا أصل له، لا في المسيحية ولا في الإسلام؛ فالحكمة الخالدة في المسيحية هي: دع ما لقيصر لقيصر، وما لله لله، وهو ما يعني أن الإيمان هو علاقة خاصة بين العبد والرب، وهو أمر مستقل عن شؤون الدنيا. وهذا المعنى الأخير هو ما أكد عليه رسولنا الكريم محمد صلى الله عليه وسلم، حينما سُئل عن تأبير النخل كيف يكون، فقال قولته الشهيرة: «أنتم أعلم بشؤون دنياكم». فالدين لا معنى ولا أهمية له، إن لم يضع في اعتباره الدنيوي، أعني إن لم يكن مصدرًا وطاقة روحية من أجل تعاملنا مع شؤون الحياة الدنيا. ولكن المتطرفين يريدون أن يتحول الدين إلى سلطة تهيمن على العالم وتوجهه من خلال مجرد نصوص وقواعد شكلية تقوم على سلطة الزجر والعقاب، والأوامر والنواهي، وعلى تصنيف الناس وأفعالهم البشرية بناءً على ذلك.
ليست هناك حضارة حقيقية كان يمارس فيها الدين هذا الدور الشكلاني المتسلط، وإنما كان يمارس دور الطاقة الروحية المحفزة على الإبداع وتشييد العمارة والعمران، والإبداع في العلوم والفكر والفن. حدث هذا في الحضارات القديمة: كالحضارة المصرية القديمة والصينية والهندية، وفي الحضارة الأوروبية الكلاسيكية القديمة لدى اليونان والرومان، وكذلك في أوج الحضارة العربية الإسلامية.
وإذا ما نظرنا في أحوال عالمنا الإسلامي المعاصر، فسوف نجد أن صفة الإسلام ملتصقة بهذا العالم التصاقًا شديدًا، وكأنهما يشكلان هوية واحدة (حتى في عالمنا العربي الذي توجد فيه بعض الديانات الأخرى، وعلى رأسها المسيحية). وكأن هذا العالم ليس له من صفة أو هوية أخرى غير الدين، خاصةً الدين الإسلامي. ونحن نشاهد هذا في كثير من أحوال الحياة اليومية، بدءًا من التعبيرات المستخدمة في لغة الحياة اليومية، وحتى الشعارات الدينية المعلنة في كل مكان، حتى على الزجاج الخلفي للسيارات، وكأن هذا في حد ذاته جواز مرور إلى الآخرة، بصرف النظر عما يمكن أن يحدث في الدنيا، وبصرف عن النظر عن أن يكون لنا حضور في هذا العالم من خلال الفعل والإبداع.
سوء فهم التراث
الواقع الشائع في عالمنا العربي هو أن كل المرجعيات النصية في كتاباتنا وأحاديثنا الشفاهية، هي غالبًا مرجعيات تتعلق بالنص الديني، تُطلَق إطلاقًا من دون تأويل، بحسب الموقف الذي يتخذه الكاتب أو المتحدِّث والمحاور في نقاش ما. وهنا ينبغي أن نلاحظ عدة ملاحظات جوهرية: أولها أن التراث لا يمكن اختزاله في التراث الديني؛ لأن التراث يشمل الديني، مثلما يشمل ما هو اجتماعي وسياسي، وغير ذلك. وثانيها، أن التراث لا يمكن اختزاله في لحظة معينة من الماضي، كما لو كانت لحظة مثالية ثابتة، بل هو مجمل التاريخ المتواصل والذي يبقى معنا في عالمنا الراهن، ويخضع للبحث والتمحيص والمساءلة. ومن ثم فإن التراث لا ينبغي النظر إليه باعتباره أيقونة ينبغي التَّبرُك بها؛ فليست كل لحظات الماضي في حضارتنا مضيئة، بل إن كثيرًا منها مظلم حالك السواد.
غير أن الآفة الكبرى التي تتفشى في فهمنا للتراث هي غياب فهم التراث نفسه، أعني: غياب تأويل التراث. ولهذا السبب ذاته، فإن غياب الاتجاه التأويلي في الفكر الإسلامي، كان نذيرًا بأفول الحضارة العربية الإسلامية. وقد حدث هذا بمحاصرة فكر المُعتزِلة وملاحقة مفكريهم، وبحرق كتب ابن رشد من بعد، وبمحاولة وأد كل فكر مغاير ومعاقبة صاحبه، الذي كان يصل أحيانًا إلى حد الإعدام، وهو ما حدث بالفعل مع الحلاج وغيره، بل حدث في واقعنا الراهن على أنحاء عديدة. وكل هذا كان دليلًا قاطعًا على غياب التأويل، ومن ثم على غياب أو أفول الحضارة الإسلامية ذاتها. لأن غياب التأويل يعني عدم القدرة على الفهم والتفسير، ومن ثم على الحوار مع الآراء المتباينة، وهو ما كان يميز الحضارة العربية في أوج تألقها.
إصلاح العقل العربي
أعني بذلك تغيير العقل العربي ذاته، فهذا العقل قد فسد عبر قرون عديدة، ولم يعد يجدي معه سوى تغيير بنيته الذهنية نفسها، من خلال إعادة النظر في مكوناتها التي تحول بيننا وبين الإبداع. ولذلك فإن سؤال شكيب أرسلان»: «لماذا تخلف المسلمون وتقدم غيرهم؟!» هو سؤال لا يزال باقيًا؛ ببساطة لأن أغلب المشروعات الفكرية النهضوية في الثقافة العربية، قد اختزلت نفسها عادة في بعد واحد: فالأفغاني ومحمد عبده يركزان على إصلاح الموروث الديني الاجتماعي، والطهطاوي وخير الدين التونسي يركزان على الليبرالية السياسية، وشبلي شِميّل يركز على العقلانية العلمية. وقد ظهر في فترة أحدث نسبيًّا في واقعنا العربي اتجاهًا ماركسيًّا يردد معظم أصحابه بشكل غوغائي بعض شعارات الماركسية دون معرفة بأصولها. والملاحظ في سائر هذه الاتجاهات أنها لا يتبنى كل منها موقفًا واحدي البعد فحسب، بل إنها في حقيقة الأمر تميل إلى التغريب، أي في اتخاذ حضارة الآخر (المتمثل في الغرب عادةً) نموذجًا للتحديث والتقدم من خلال الانبهار بإنجازاته وإبداعاته التي ينبغي علينا استيرادها. ومثل هذه المشروعات الفكرية لا تفطن إلى أن المشكلة تكمن فينا أنفسنا، أي في بنية عقلنا ورؤيتنا للعالم والأشياء. وإلا فخبرني- أثابك الله- كيف يمكن أن يحدث تطوير أو إبداع علمي في أذهان أساتذة في عالمنا العربي يخلطون بين العلم والدين! فما بالك بالعوام! ومع أنه كانت هناك اتجاهات فكرية تسعى إلى التوفيق بين رؤية الغرب ومواقفه الليبرالية وبين المواقف الكامنة في التراث الإسلامي؛ فإنها تظل اتجاهات لا تفطن أيضًا إلى لب المشكلة، وتسعى إلى موقف وسطي أو تلفيقي، دون أن تضع يدها على مواطن الداء الحقيقية في تراثنا نفسه.
****
قد يرى البعض أن هذا التغيير غير ممكن إلا من خلال إصلاح سياسي راديكالي في نظام حكم ما، ولكن الحقيقة أن شكل النظام السياسي ليس هو الذي يحدد التغيير؛ بل الإرادة السياسية نفسها حينما تسعى إلى هذا التغيير من خلال تغيير حقيقي في التعليم والثقافة، فبهما معًا يتغير وجه العلم والمعرفة، الذي يتحول إلى إبداع علمي وتكنولوجي في النهاية؛ ويتغير وجه الفكر والثقافة التي تُفضي إلى الإبداع في الفكر والآداب والفنون.
ومن أراد برهانًا عمليًّا على هذا، فلينظر كيف يناظر ترتيب الدول المتخلفة نفس ترتيب الدول في مدى تقدم التعليم فيها.