السبت 23 نوفمبر 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

ناجية الوريمي بوعجيلة: فلنخرج من الانسداد التاريخي

ناجية الوريمي بوعجيلة: فلنخرج من الانسداد التاريخي
18 يوليو 2019 03:16

عبير زيتون

«لايمكن أن نتحدث عن«نهضة، والعقل العربي مكبل بقيود تمنع التفكير، تحت مسميات فضفاضة من المسلمات»... هذا ما تقوله د. ناجية الوريمي بوعجيلة أستاذة الحضارة العربية الإسلامية في الجامعة التونسية، مؤكدة«أن الانسداد التاريخي الراهن، هو نَتاج تقصير الفكر العربي المعاصر في تحمل مسؤولياته الفكرية، في إرساء علاقة نقدية واعية بالماضي، والتراث، مع غياب الشرط الفلسفي اللازم لكل تقدم نهضوي، يٌعلي من قيمة الفكر الإنساني الحر، ويؤسس لرؤية واعية متحررة من المسلمات».
توصف الباحثة والأكاديمية التونسية، د. ناجية الوريمي بوعجيلة، أستاذة الحضارة العربية الإسلامية في الجامعة التونسية ـ المعهد العالي للعلوم الإنسانية، بأنها أبرز الباحثات العنيدات، في إصرارهن على الحفر عميقا في موروثات المدونة التاريخية العربية، (الرسمية منها والشفوية)، بهدف إعادة إنتاج خطاب معرفي عربي يقوم على منهج المقاربة، والتفكيك، والتشريح، وفق أدوات منهجية علمية، مضبوطة، لا تخضع لسلطان، سوى سلطان إعمال الفكر الحر المتحرر من كل إيديولوجيات فكرية أو مذهبية مسبقة، تعيق توجه فهمنا للتراث، وتقف عائقاً أمام تحررنا من تبعيته، وإعادة امتلاكه امتلاكاً نقدياً، ويتماشى وروح العصر.
وهذا ما يتجلى بوضوح مع مؤلفاتها المتعددة في انشغالها بالتراث وسؤال التنوير العربي، وتجديد الخطاب الديني، ومفاهيم التسامح والاختلاف. ومن مؤلفاتها كتاب «زعامة المرأة في الإسلام المبكر: بين الخطاب العالِم والخطاب الشعبي«(2016م)،» في الائتلاف والاختلاف: ثنائية السائد والمهمش في الفكرالعربي الإسلامي«(2010م)،«حفريات في الخطاب الخلدوني: الأصول السلفية ووهم الحداثة العربية«(2008م)،«الإسلام الخارجي»(ضمن سلسلة الإسلام واحدًا ومتعددًا) (2006م).
في هذا الحوار، نطرح على د. ناجية الوريمي الكثير من الأسئلة الإشكالية المتعلقة بثنائية التراث والحداثة، وأسباب تفشي الخطاب السلفي المؤدلج مقابل غياب خطاب فكري تنويري، وغيرها من الأسئلة..

مقارنة
* لو بدأنا من السؤال النهضوي الكبير: لماذا تأخر العرب، وتقدم الآخرون؟ ماذا تقولين؟
** هذا سؤال مركب لا يمكن اختزاله في إجابة تركز على صنف واحد من العوامل. لكن بحكم تخصصي سأكتفي بما يتعلق بالعامل الفكري، إيمانا بأنه ليس مجرد «منفعل» بالواقع، بل هو«فاعل» فيه.. تقدم «الآخرون» لأنهم حرروا عملية التفكير والإبداع، ولأنهم أعطوا للعقل كامل فعاليته، وألغوا الأسيجة التي كانت تحاصره، ثم لأنهم حرروا الدين من مخالب السياسة، متيحين حيزاً واسعاً للإنسان في تحسين أشكال انتظامه، وتطوير معارفه. وهنا لا بد من الاعتراف بالدور الذي قامت به الفلسفة ـ والإنسانيات عموماً ـ في تحرير العقل الأوروبي، وتمكينه من فاعلية كبيرة في النقد والتجاوز: نقد أنظمة الفكر التقليدية، ونقد التصورات اللاتاريخية، ونقد أشكال الانتظام السياسية والاجتماعية المكرسة لعلاقات ولقيم لم تعد تتماشى والعصر. ومن الطريف أن نجد شهادة للمفكر العربي ابن خلدون على بداية النهضة الأوروبية، يبسط فيها مظاهر رواج الفلسفة والتفكير الفلسفي في أوروبا منذ القرن الرابع عشر (عصر النهضة والإصلاح). فهو بهذه الشهادة يفهمنا عاملاً مهماً من عوامل التحول النوعي الذي بدأت تشهده أوروبا، ويفهمنا أيضاً عاملاً مهماً في تكلس الفكر العربي الإسلامي منذ عصور الانحطاط، وهو إعادة إنتاج الموقف الرسمي المحرّم للفلسفة، ومن ورائها إعمال العقل «الحر» عموماً. وهو نفسه كان صريحاً في «إبطال الفلسفة وفساد منتحلها» في البلاد الإسلامية. لكن مهما كان الأمر، فإن ملاحظة ابن خلدون تظل مؤشراً على بداية تغيّر موازين القوى الحضارية بين العرب المسلمين والأوروبيين. ففي الوقت الذي بدأ فيه الفكر الأوروبي يراجع تراثه ويشرحه تمهيداً للجديد، كان الفكر العربي ـ ونموذجنا هنا مواصلة ابن خلدون نفسه تحريم النظر العقلي ـ مضمخاً بالوثوقية معتقدا أنه بلغ منتهاه في كل شيء، وأنه ليس على الآتي إلا الشرح والتفريع والقياس على القديم.
* ما نُوقشت قضية في الفكر العربي الحديث، بقدر ما نوقشت قضية التعامل مع التراث المكتوب، تحقيقاً، وقراءةً، وإحياءً. وعندما نتحدث عن التراث هنا مالذي نعني به؟ وهل هو الخطاب الشفهي أم المكتوب؟ والفارق بينهما؟
** التراثُ ـ في إطار اختصاصنا ـ هو تركة فكرية وروحية تترجم عنها مدونة مكتوبة. ويتمثل في الموروثَ الثقافي للمجتمع فكرياً ودينياً وأدبياً وفنياً. والمصطلح في حد ذاته حديث، نشأ في عصر النهضة العربية، عندما انتبه العرب إلى أن واقعهم ـ زمن ما سمي بـ«الصدمة الحضارية» في اللقاء مع الغرب ـ بدأ يتشكل اقتصادياً وثقافياً بطريقة جديدة مغايرة للمألوف الذي ورثوه من الماضي. ثم ما فتئ هذا المصطلح يتمتع بحضور قوي في الفكر العربي لاقترانه بإشكاليات التحديث والنهضة والهوية وغيرها.. ونحن نهتم بالخطابات المكتوبة التي عكست بشكل أو بآخر واقع الحضارة العربية الإسلامية فكرياً ودينياً وسياسياً واجتماعياً، وصورت اختلاف الرؤى، ووجهات النظر في فهم الواقع، وفي رسم حلول لمشاكله.

طغيان
* كيف نفسر طغيان الخطاب الإسلامي السلفي المتشدد على المخيال الاجتماعي؟ وانكفاء الفكر العربي إلى ما قبل الحراك التحديثي في الزمن النهضوي؟
* ما نعيشه اليوم هو نتاج تقصير في عمل الفكر العربي منذ عصر النهضة إلى الآن. في عصر النهضة كان الفكر العربي يتفاعل مع ظرفية دولية حرجة اتسمت بموجة الاستعمار ونية الاستعمار. فركن إلى الدفاع عن هوية ثقافية، واجتماعية باتت مهددة، وأرجأ ـ إلى أجل غير مسمى ـ مراجعة الأرضية الموروثة التي يعتزم البناء عليها، مثلما أرجأ عنايته بمسألة البناء الشامل والمتناسق بين مكونات الثقافة البديلة. ومن المعلوم أن الاختيارات الصادرة عن آلية الدفاع عن ذات متأزمة في الحاضر، تكاد تنحصر في توظيف مكثف للماضي بعد أن تحول في المخيال الجماعي إلى جنة مفقودة. فوقع استحضاره لمواجهة التهديد المباشر، ولإثبات ندية موهومة، جل مرتكزاتها ماضويةٌ. ومن هنا ظل الوعي العربي، يرنو إلى مستقبل أفضل دون أن يتخلص من التضخم الذي أصاب ارتهانه بالماضي، فأصبح كمن يسير إلى الأمام، وهو ملتفت إلى الوراء، فلا يدري بِمَ يصطدم ولا في أي المطبات يقع. وبعد ذلك لم يعد الفكر العربي إلى تحمل مسؤوليته في إرساء علاقة نقدية واعية بالماضي وبالتراث إلا لماما، وكل ما سجلناه محاولات فردية في الأغلب، كثيرا ما يلقى أصحابها صعوبات تصل إلى حد التكفير. إزاء هذا الرصيد الهزيل من تمثل الماضي تمثلاً نقدياً، وجد الخطاب الإسلامي السلفي المتشدد، عقولاً غير محصنة من دعوات التوظيف الإيديولوجي للدين، ومرتعاً خصباً لتجييش النفوس الموتورة من الشباب وغيرهم. وهذا ما لا يزال يكون مأزقا من أخطر المآزق التي تردت فيها سياسات عربية كثيرة.

* دعوات الإصلاح والتجديد تتوالى منذ عصر النهضة للخروج من الانسداد الحضاري العربي.. برأيك أين العطب؟ وهل مفهوم الإصلاح يجب أن يكون في الإسلام؟ أم في المسلمين؟ وهل الإسلام يتعارض مع مفهوم الحداثة والنهضة؟
** نحن إلى اليوم نخلط بين الإسلام والمسلمين. فالمسلمون اليوم هم الذين تردوا في مأزق لأنهم ـ وفي جانب من مسؤوليتهم ـ لم يحسنوا التعامل مع دينهم، فأقحموه في صراعاتهم السياسية، واختلفوا في وجه علاقته بالدولة ضاربين عرض الحائط بكل القيم السياسية الكونية، التي تجعل مفهوم «الدولة المدنية»، ومفهوم «المواطنة» عماد التحديث السياسي والاجتماعي، وضاربين أيضا بكل القيم الأخلاقية الكونية، التي تؤكد حرية المعتقد وحرية الضمير. وأعتقد أن إخراج الدين ـ كل دين ـ من الشأن الخاص، لإقحامه في الشأن العام، هو الذي يجعله في أزمة. فالإسلام في حد ذاته لحظة من لحظات التحديث، لذلك لا يمكن القول إن الإسلام يتعارض مع مبدأ التجديد غير المحدود الذي يقوم عليه مفهوم الحداثة.

حداثة
* يتكرر مصطلح الحداثة في كتابات الكتاب والمفكرين.. ما هو مفهوم الحداثة التي نحتاجها اليوم؟ وهل من حداثة عربية؟
** عندما نعود إلى المعاجم، والكتابات المختصة، سنجد أن لمفهوم الحداثة دلالات عامة تنطبق على كل التجارب الحضارية، وهي دلالات مركزة في التجديد والإبداع دون أن يكونا مشروطين بالقطع مع الماضي. من هذه الدلالات أن الحداثة هي رفض الديمومة، أي رفض الجمود واللازمني والمتكرر، والدائم، وأنها سنّة الجديد، وأنها مراجعة مستمرة للموجود وللراهن في سبيل فتح آفاق جديدة للوجود، وأنها ليست قطعا مع الماضي وإلغاءً له بقدر ما هي قطع مع اعتباره أنموذجاً يحتذى، ومعياراً يقاس عليه. والقول بالقطع مع الماضي، قول عبثي لا معنى له، لأن هذا الماضي يستمر في الوعي الجماعي، وفي الذاكرة الجماعية، بطريقة تناظر استمرار اللاشعوري الفردي في الشعور، كما يقول علماء الاجتماع. بينما القول: بأنه من الواجب أن تقيم كل حداثة حوارًا مع ماضيها، هو السبيل الناجع إلى الخصوصية الحضارية التي يمكن أن تكون منفذاً إلى إثراء الكوني..

* برأيك في القرن الحادي والعشرين هل نستطيع أن نقول إن للعرب خطاباً فكرياً فلسفياً تنويرياً واضحاً؟
* وضع الفلسفة في الثقافة العربية وضعٌ حرِجٌ للغاية، وأعتقد أن أصداء التحريمات الفقهية القديمة للفلسفة، لا تزال تتردد إلى اليوم بنسب متفاوتة. ولاحظي أن النهضة العربية التي تعد حلقة هامة في مسار التغيير والإصلاح العربيين، عرفت مفكرين مصلحين تبنوْا قضايا مجتمعاتهم، وقدموا أفكارا عملية، قدروا أنها كفيلة بالخروج بالمجتمع من وضع الأزمة، ولم تعرف فلاسفة. لم يكن لنا فلاسفة في منعرج نهضوي يصعب أن تنجح فيه مساعي التغيير دون الارتكاز على الفكر النقدي الذي يعد الفلاسفة من أكبر ممثليه. وإلى اليوم نظل في حاجة إلى هذا الشرط الفلسفي للنهضة، أي في حاجة إلى فلاسفة عرب يتكفلون أساسا بنقد نظم التفكير، وبلورة مفاهيم جديد قادرة على نقل الوعي بالوجود الإنساني من أرضيته الكلاسيكية البائدة، إلى آفاق حديثة منفتحة على المستجدات العلمية في سائر حقول المعرفة، والتأسيس لعقل نقدي لا يخضع لسلطة، إلا سلطة تقديره المعلل للأمور. فغياب هذا العقل النقدي، أو ضعفه، هو الذي يفسر الانتشار الخطير لإيديولوجيات سلفية متشددة مدمرة للمجتمع وللمدنية، تحت مسمى الالتزام بالدين والدفاع عن المقدس.

غياب
* كتابك الأخير «زعامة المرأة في الإسلام المبكر بين الخطاب العالمِ والخطاب الشفهي».. هل هو مقاربة جندرية من نوع جديد لإعادة قراءة تاريخ النساء عبر التاريخ؟ وما هو الفرق بين الخطابين العالمِ والشفهي؟ وأي جديد يحمله هذا البحث؟ والدافع إليه؟
** منطلقي في هذا الكتاب هو البحث في جذورالغياب الصارخ للمرأة العربية في مراكز القيادة واتخاذ القرار. وهو غياب يُفهم في جانب منه بما كرسه تراث سائد (فقهي وتاريخي) وموجه وجهة سلطوية ذكورية، في الوعي وفي الذاكرة الجمعية.. فمبدأ العدل والمساواة اليوم، يواجه صعوبات من أهمها الصعوبات الثقافية المتأتية مما كرسه تراثٌ عالِم أخلاقيُ المنزع، وبارعٌ في توظيف المقدس من صورة للمرأة بعيدة عن شروط الفاعلية الاجتماعية. والخطير أن هذا التراث، هو الذي هيمن على الوعي العام، بكيفية تقسيم الأدوار في المجتمع إلى اليوم، وهو الذي نجح في الانتشار، والاستمرار عبر الكتابة العالِمة، وقد أفضى بنا تفكيكُ الخطابات الممثلة لهذا التراث التاريخي والفقهي الرسمي، ومقارنتها بالخطابات الممثلة لتراث آخر، منفلت من الرقابة ـ وهو الرواية الشعبية للتاريخ ـ إلى الكشف عن صورة مختلفة للمرأة، بدت فيها فاعلة في مراكز القيادة واتخاذ القرار.
إننا نرمي من وراء هذا الكتاب إلى استثمار دلالة المشاركة الفاعلة للمرأة العربية في الشأن العام، وفي الزعامة خاصة، لدعم ما يقتضيه الانتماء الإيجابي إلى قيم العصر، من إقرار بضرورة عدم التمييز بين المواطنين في المشاركة الفاعلة في الشأن العام، والحق في تولي المسؤوليات والمناصب. فالتمييز التقليدي القائم على معايير جندرية، أو دينية، أو مذهبية، لم يعد مقبولاً في مفهوم المواطنة.

* برأيك هل هذا التهميش التاريخي الذي تعرضت له النساء تاريخياً واجتماعياً، يفسر اليوم بروز ظاهرة الحركات النسوية الإسلامية، على حساب حركات نسوية يسارية وعلمانية، كيف تفسرين هذا؟
** تجارب الزعامة النسائية الناجحة في الماضي، ليست رأسمالاً رمزياً لهذه الحركة النسوية أو تلك، أو لهذا التيار أو ذاك، بل هي رصيد رمزي يسوّغ لثقافة التحديث الاجتماعي ردَ كل ادعاء قائم على عدم أهلية المرأة للقيادة وتحمل المسؤوليات. فهو يبطل الاستشهاد بالتاريخ، أو بآراء الفقهاء القدامى، على أن القوم لا يفلحون إن هم ولّوا أمرهم امرأة، لأن هذا التاريخ وتلك الآراء لا تعدو أن تكون مجرد تشكيل إيديولوجي للأحداث والوقائع، ومجرد وجهات نظر لا علاقة لها بالدين، أو بطبيعة المرأة المنقوصة.

وهم
* في كتابك «حفريات في الخطاب الخلدوني: الأصول السلفية ووهم الحداثة العربية» (2008) ماهو وهم الحداثة؟ ولماذا استأثر الخطاب الخلدوني باهتمامك وقد خُلصت إلى نعته بالسلفية؟
** حري أن أشير بدءاً إلى أنه لم يتمتع نص تراثي باهتمام المفكرين المعاصرين مثلما تمتع به النص الخلدوني، حتى أن الكثير منهم اعتبروه مبشراً بالعقلانية (محمد عابد الجابري على سبيل المثال) وبحداثة عربية (فهمي جدعان على سبيل المثال أيضا). وكنت أقول كما يقولون، لأنني كنت أقرأ بعض الفصول من مقدمته ـ مثلما يفعل الكثير إلى اليوم ـ متأثرة بهؤلاء. لكن قلقًا تأويليا ظل ينتابني، ووهماً فكريا ظل يلازمني، ويدفعاني إلى مراجعة البنية الدلالية للخطاب الخلدوني التي كانت تبدو لي فيها مؤشرات عديدة اصطلاحية وفكرية تبعدها عن النهوض بدلالات العقلانية والتحديث. وبدأت أرجح أن هذه الدلالات مسقطة على الخطاب الخلدوني ومحمولة على ما تريده قراءة حداثوية منه، وعلى الوظيفة الإيديولوجية التبريرية التي يمكن أن يقوم بها. لقد كان هم هؤلاء إيجاد مؤشرات العقلانية والتحديث في نص عربي يقف ندا للدعوى الأوروبية في انفرادها بهاتين الميزتين الحضاريتين. ولا بد من التنبيه إلى أن هؤلاء المفكرين لم يجانبوا الصواب في بحثهم عنهما في التراث العربي الإسلامي، فأنا نفسي أفعل هذا، وأؤمن بتواصل المفاهيم المتجانسة في خلفيتها الإبستمولوجية، لكنهم جانبوا الصواب ـ في نظري ـ في تحديد الخطابات التي تستجيب لمقومات التحديث. إنها مجسدة في خطابات كلامية اعتزالية، وفي خطابات فلسفية، وفي أخرى دينية منفتحة، وليست في خطاب ابن خلدون الذي لا يعدو أن يكون نتاجا لعقل فقهي يتحكم بعمق في عمليات إنتاج المعنى. ولا يمكن ألا نلتفت على سبيل المثال البسيط، إلى الردود الحادة أحيانا والتي تضمنها هذا الخطاب، على كل هذه الخطابات العقلية والمنفتحة من قبيل الكلام الاعتزالي والفلسفة. لكن مفكرينا رشحوا هذا الخطاب بالذات لمهمة تعريب الحداثة، فكانوا بذلك واهمين في تقديرهم له، وواقعين تحت تأثير إيديولوجي عروبي أكثر من التزامهم بضوابط القراءة والتأويل. خطاب ابن خلدون مبني بنية محكمة، مثل سائر الخطابات الفكرية، وقائم على منطق جدالي أشعري، نجح في رفع ثوابته المذهبية إلى مستوى القوانين العمرانية التي أرّخ في ضوئها«للعرب والعجم والبربر» كما قال. لكن تشظية نصوصه، واقتطاع جمل، وأجزاء منها، وتحميلها دلالات هي في فكر القارئ وهواجسه وليست في بنية النص، عوامل تضافرت لتزداد كرة الثلج الخلدونية التحديثية ضخامة. والخطير في هذا أن إكسابَ خطابٍ ما عاجز بنيوياً عن إنتاج معاني التحديث ـ مثل الخطاب الخلدوني ـ قيمةً معرفيةً تحديثيةً تتحول بحكم الشيوع، وإعادة الإنتاج إلى بداهة، يفضي إلى نتيجة عكسية، وهي سهولة تسرب جملة معانيه السلفية، والمنافية أصلا للتحديث، إلى حقل الفكر العربي المعاصر، فيزيد في تعميق أزمته، كما قلت في استنتاج من الاستنتاجات التي خرجت بها من تحليلي للنص الخلدوني الموسع.

* كيف تنظرين كمفكرة إلى ما يجري في أوروبا اليوم، إثر تنامي تيار الشعبوية، واليمين المتطرف المعادي للمختلف دينيا وعرقيا وإثنيا؟
** ما يجري اليوم في أوروبا وفي بقية أنحاء العالم، هو نتيجة متوقعة للنظام العالمي الجديد الذي فاقم الفوارق بين الشعوب، وعمّق أزماتِ المجتمعات السائرة في طريق النمو. وفي ظله تنامت النزعات العنصرية الداعية إلى توفير طوق الحماية على المرفهين والمعتبرين في الدرجة الأولى من الإنسانية، من أجل مواجهة أولئك المصنفين في الدرجة الثانية، وربما الثالثة وأكثر.. ولنستحضر تنظيرات صامويل هنتنغتون الخبير الاستراتيجي على سبيل المثال، والمتعلقة بوجود أمم وثقافات صالحة بطبيعتها للتطور وللديمقراطية، في مقابل أخرى لا تعدو أن تكون تهديدا لقيم العالم المتحضر، سنكتشف أنها تعاد بطرق متشابهة في خطابات فكرية وسياسية كثيرة، في مختلف الدول التي تقول إنها متحضرة، ونعني شمال القارة الأمريكية والقارة الأوروبية. في هذا الإطار نفهم تنامي المواقف والرؤى المتعصبة والرافضة لحق الاختلاف في الغرب. وهي المتسببة ـ إلى حد بعيد ـ في ردود عنيفة من قبل ضحايا هذا التمييز العنصري، والمتسببة أيضا في دفع شرائح من المجتمعات النامية التي وصمتها بنعوت تحقيرية، إلى التقوقع على الذات، والإمعان في رفض الغرب الذي أضحى ملازما لصورة الخطِر على الذات ومقوماتها. وهذه الشرائح هي التي مثلت ـ إلى حد ـ الخزان البشري للتيارات السلفية المتزمتة.

استثمار التراث رمزياً في تأصيل قيمة التسامح
حول كتابها «الاختلاف وسياسة التسامح» وكيف نفهم مفهوم التسامح اليوم؟ وهل التراث الإسلامي يحمل نماذج تكرس هذا المفهوم؟ تقول الدكتورة نادية الوريمي بوعجيلة:
بلغت الدراسات والفلسفات الخاصة بدراسة الذات في علاقتها بالآخر، وبدراسة قيم التسامح، وشروطه، اليوم، درجة هامة من التطور في اتجاهيْن متكامليْن : اتجاه الحاضر والمستقبل الذي يرمي إلى حل مشاكل التعايش في ظل حقيقة التغاير والاختلاف والتعدد، واتجاه استحضار التجارب والقيم المتسامحة في الماضي، دعماً لترسيخ هذه القيم في ضمير الإنسانية. وفي هذا السياق تكون عودتنا إلى التراث العربي الإسلامي لاستثماره رمزياً في سبيل تأصيل القيم ونشرها، أمراً مفيداً، بل ملحاً، ليس لأنني أبحث عن مجاراة ما يقوم به الآخرون مع تراثهم، بل اعترافاً وتعريفاً بمواقف وأفكار مستنيرة وجدت في تراثنا فعلاً، ولكنها طُمِست. فلست أريد بهذه العودة السقوط في نزعة تمجيدية فارغة لا تجد لها مستنداً إلا في التعسف على النصوص، وإنطاقها بما نرغب فيه، بل أريد المراجعة الخلاّقة التي تنطلق مما تفتحه النصوص نفسها، وتسمح بالتطور في اتجاهه.
ومن هذه الزاوية حاولت أن أكشف عن بعض المواقف التي لا يزال يرين عليها النسيان والتهميش، وهي ممثلة أولاً، في خطاباتٍ للمعتزلة وللفلاسفة وللمتصوفة، تضمنت دلالات طريفة في موضوع الاعتراف بالآخر المختلف، والتنظير للتعايش معه سلمياً؛ وثانياً، في تجارب سياسية متسامحة شرعت للتعدد وأسقطت ـ إلى حد ـ العمل بمعايير التمييز الديني والمذهبي والعرقي المعهودة في الأنظمة التقليدية. وذلك مثل تجربتَيْ البرامكة والمأمون (الذي قدمتُ تصوراً آخر لما شاع في شأن استبداده الفكري والسياسي). وأضفت مؤخراً ـ في مقال لي سيصدر قريباً ـ تجربة عمر بن عبد العزيز. وهذه ليست الوحيدة، بل هناك أخرى في الغرب الإسلامي، مازالت تنتظر من يلتفت إليها، وربما أفعل..
وأعود وأقول: إعطاؤنا لهذه التجارب والمواقف حيّزاً واسعاً من ثقافة التداول اليوم، يساهم أولاً، في إعادة الثقة بماضٍ ثري متنوع، مثلما حفل بمواقف لم تعد تصلح اليوم إلا لوسمها بانتهاء الصلاحية، حفل بأخرى يمكن لنا ـ ومن منطلق الالتقاء مع الإنساني المشترك ـ أن نقيم معها جسور تواصل خلاق. والثقة في جزء هام من مكونات الهوية، وهو التاريخ، مهمة في تعزيز إرادة النهوض نحو المستقبل. ويساهم نشر هذه المواقف ثانياً، في قطع الطريق أمام التيارات السلفية المتزمتة التي ما فتئت تحصر صورة الماضي في التعصب لحق مزعوم، وفي دموية لازمة لنشر هذا الزعم. إنها تستمد كامل المشروعية في ما تسلك، وفي ما تعتقد من عنف مع الآخر المختلف، من هذه الصورة بالذات.

 

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©