إبراهيم الملا
تشكّل الوجوه والشخوص والحالات والمساجلات الحسيّة والانطباعية بين الفنان والطبيعة، قوام وملمح النسخة السابعة من المعرض الفوتوغرافي «الشارقة وجهة نظر»، والذي يستضيف في دورته الحاليّة أعمال 36 مصورا من أكثر من 20 دولة، قدموا مواضيعهم وانشغالاتهم الفنية في أفق إنساني رحب تصنعه المعالجات المرهفة للوجد والتجلّي في تصدرهما لأشواق الأمكنة وسحريّتها، وامتدادها في الروح والعين، وفي مواطن الطفولة بإيقاعها العاطفيّ، العصيّ على الوصف.
أقيم المعرض الذي تنظمه مؤسسة الشارقة للفنون في رواقي 1 و2 بساحة المريجة في منطقة الشارقة القديمة ويستمر حتى 6 أكتوبر من العام الجاري 2019، وبمشاركة واسعة للمصورين الفوتوغرافيين المحليين والدوليين، الذين يقدمون ثيماتهم ومقارباتهم البصرية الخاصة والمستقلّة.
يذكر أن مؤسسة الشارقة للفنون كانت قد أعلنت عن أول دعوة مفتوحة لتقديم طلبات المشاركة في المعرض في العام 2013 من خلال مواضيع تتعلق بثيمة الحياة والمناظر الطبيعية في الشارقة، أما ثيمات المعارض التالية فتضمنت: «البورتريه الشخصي»، «الأداء»، «العمارة» «المشهد الحضري»، وغيرها من المواضيع التي يمكن أن تتحول إلى طرائق بحث جديدة عن اللغة التعبيرية والاستثنائية للكاميرا، مقارنة بالوسائط الفنية الأخرى، وقدرة فن التصوير الفوتوغرافي على ابتكار واستحداث مجالات وأبعاد بصرية متنوعة تخاطب بها التوجهات والأنماط الاجتماعية والفلسفية والفكرية، سواء في الأرياف التقليدية أو في المدن المعاصرة، وانعكاس ذلك على السلوكيات البشرية الفردية والجماعية.
وللمرة الأولى هذا العام تم توسيع نطاق الدعوة المفتوحة للمشاركين، لتشمل ليس فقط المقيمين في الإمارات العربية المتحدة ودول مجلس التعاون الخليجي الأخرى، بل أيضا من يودّ المشاركة من مختلف أنحاء العالم، بهدف تعزيز مهارات وخبرات المصورين وتطوير مواهبهم، وتشجيعهم على التواصل مع المجتمع الثقافي الأوسع.
الجوهر الغامض
يتضمّن المعرض الذي قامت بتقييمه الشيخة حور بنت سلطان القاسمي رئيس مؤسسة الشارقة للفنون، الاتجاهات الجديدة والرؤى المتوقدة التي تتعامل مع فن التصوير الفوتوغرافي كخطاب معرفي قبل أن يكون مجرد توثيق لوجوه بعينها، واستحضار لأمكنة وأزمنة محددة، فهذا الطيف المتنوع جغرافيا والغني ثقافيا للبلدان المشاركة في المعرض أضفى على الحدث طابعا حواريا بين المرجعيات المختلفة، وبين الدول المتباعدة شكلا، والمتقاربة جوهرا في معيّة الفن وأنساقه الجمالية، فمن جمهورية الكونغو، وفرنسا والسودان والولايات المتحدة وروسيا، ووصولا إلى جنوب أفريقيا ونيجيريا والكويت ودولة الإمارات، نرى هذا التداخل بين البعد الإنساني وبين الوعي التشكيلي من أجل إظهار الصورة برونق سردي وجاذبية حكائية، تتعدى القوالب والأطر الثابتة للصور التقليدية، كي تذهب التفسيرات بعيدا نحو عمق المعنى ونحو خفاياه غير المكتشفة، وبالتالي التمازج مع الجوهر الغامض والخفيّ لمكنون الصور وانبثاقاتها الوجدانية.
استندت أغلب أعمال المعرض على وسائط تعبيرية متعددة، مثل التصوير المفاهيمي، والتقاط الجماليات المهملة في الزقاق والشوارع والشواطئ، واستنطاق المناظر الطبيعية في الريف والمدينة، مع ميل واضح لأعمال البورتريه، إضافة لتشكيلات بصرية جمعت بين الواقعي والمتخيّل وأفصحت جلّ الصور عن الجهد التقني المبذول في كل من التصوير الفوتوغرافي الرقمي، والمشاهد المنجزة بكاميرات 35 ملم، واستخدام المونتاج، والكولاج، وإعادة توليف الصور الأرشيفية، واستخدام الأشعة تحت الحمراء، والرسم الضوئي.
ففي أعمال الفنانة الكويتية هدى عبدالغني الملفتة في تعاطيها مع أركيولوجيا الروح، تتحول علاقة الشخوص مع البحر إلى طقس سحري واستدعاء ميثولوجي لكائنات غرائبية، تحوم فوق ذاكرات منسيّة وقصص خرافية، لها وقع وتأثير وصدى في المخيال الشعبي لسكان قرية: «سلخ» في جزيرة قشم عند احتفالهم بعيد «النيروز»، أو رأس السنة الجديدة للصيادين، حيث يتحول الحدث إلى مهرجان تنكّري تستخدم فيها خامات الطبيعة وألوانها ونباتاتها وحيواناتها، مثل الطين وجريد النخل والأقمشة والهياكل التجسيمية للخيول والجِمال، إضافة للخامات المتوافرة على طول السواحل الممتدة للقرية، لتجسيد الاحتفال الجماعي الواصل بين الخوف والنشوة، وبين الريبة والافتتان، وكأننا أمام مسرح مفتوح على تأويلات الماء وإيقاع الموج، وعلى مشاهد سوريالية تنضح بتداعياتها العبثية، وفوضاها المرتّبة، حيث تتعانق المسرّة مع الوجل، وتتشكّل حياة أخرى موازية وقابلة لاستيعاب كل أحلامنا المستحيلة.
مخزون البراءة
وتستدعي أعمال الفنانة الروسية أولغا فوربيوفا المفاهيم المتعلقة بالهوية وبأسئلتها الفلسفية والوجودية، مستخدمة اللونين الأسود والأبيض للانكشاف على الحيرة في أوج انشطارها، وعلى الاغتراب النفسي في عنف اشتباكه بملامح الأطفال الحاملين كما يبدو لهمّ وجودهم في المكان الخطأ وفي الزمن الملتبس، وقامت الفنانة بالتقاط صورها في مسقط رأسها بجزيرة القرم المتنازع عليها، لترتحل من خلال هذه الصور إلى فضاء متبخّر وأنساق هلامية تتسرب من الماضي، وتندفع نحو الحاضر، جالبة معها هلع الأمس، ومآسي الأيام الفالتة، إلاّ من قبضة الكاميرا وهيامها المتشبّث بالحياة، حيث تعيد النبض للأمل في الوجوه الذائبة لهؤلاء الصغار المنسيين، لعل في هذا الهيام ما يشفي جرحا ويرمّم وجعا، ويعيد النبض للذاكرة الذبيحة، تلك الذاكرة التي تستدعيها صور الفنانة لتكون شاهدة على الهدر الكامل لمخزون البراءة المُصادرة والجَمال المُنتهك.
ونرى في أعمال الفنانة الإماراتية مهرة المهيري (مواليد دبي 1997) هذا التناغم البصري مع الاحتفالات الشعبية التي تستخدم فيها بنادق (الماغما) كي تشيع داخل صورها الملتقطة بحرفية عالية مجالا للربط بين السكون والحركة في لحظة التوتر القصوى لإطلاق الرصاص والقفز في الجو، حيث يمارس المشاركون في رقصة الحرب القديمة، تمرينا ذهنيا يوازي التمرين الجسدي وهم يتجنبون الشظايا الحارقة للرصاص، ويعبّرون عن شجاعة نادرة تستعيد قصص المغامرات الشعبية في فضاء حميمي تتداخل في تفاصيله الفلكلورية معالم البهجة المفتقدة، وروافد الحنين العابرة للزمن.
وتكشف أعمال المصوّر الفرنسي غريغوري دارجنت عن ولع شخصي تجاه جذوره المنحدرة من جنود فرنسيين خدموا في الجزائر، وبحثه في أرشيفات الماضي الاستعماري الفرنسي، والذّي خلّف وراءه نتائج كارثية إثر الاختبارات النووية الفرنسية في الصحراء الكبرى والتي وصلت إلى 17 اختبارا، وذلك بعد مرور خمسين عاما عليها، وهناك في القرى الصحراوية المتناثرة يبدأ غريغوري دراجنت في استقصاء ومعاينة أثر هذه التفجيرات النووية في المخيال الشعبي للسكان، والأوصاف العجائبية الواردة في حكاياتهم حول الفطر الذرّي المشعّ الذي أضاء السماء، وتسبب في تصدّع الجدران واهتزاز الأرض وهلع الناس، ويرتحل دارجنت إلى «المنطقة المحرمة» في طفولته كي يزور الصحراء التي يعشقها، ويبدأ في توليف حكايته الخاصة وانطباعاته الذاتية ونظرته المختلفة لمجريات الماضي المؤلمة، مستخدما التقنيات الحديثة للتصوير الفوتوغرافي لاستدعاء حالات الوحشة والوحدة والعزلة المضاعفة التي خبرها سكان الجنوب، وابتكر كتابا فوتوغرافيا حمل عنوان: «إتش» يتناول مشروعا فنيا لرصد المشاعر التي انتابته والوعي الذي اكتسبه خلال رحلته للجزائر، مستخدما صورا تنطلق حكاياتها من مركز الكادر البصري إلى هامشه، والذي تحتله هنا قامات بشرية متلاشية لسكان الصحراء والشبيهة بأجساد هائمة في ضباب الذكريات، بينما تطل صورة الطفل في منتصف الكادر وكأنها تحاكم فترة الاستعمار البغيض، وتستدعي أرواح الضحايا إلى الأرض التي ولدتهم أحرار، وودعتهم أحرارا أيضا، بعد أن غادر المستعمر وصار مجرّد تذكار للبشاعة المنهزمة والخائبة.
إشراقات حبيسة
وفي مجموعة الصور التي حملت عنوان: «آخر الخلاسيين» للمصور الكونغولي إيمانويل إيكو، تتوافد أيضا الشواهد المؤلمة في جمهورية الكونغو الديمقراطية أثناء الاستعمار البلجيكي لها، مستلهما مواضيعه البصرية من المصاعب التي عاشها والده الخلاسي وأنواع الظلم الاجتماعي التي اختبر قسوتها في بيئة تنبذ الخلاسيين وتعتبرهم أغيارا وعرقا مشوها، وتقتنص الصور حركة الأشخاص من ذوي الأنساب المختلطة، انطلاقا من الكونغو البلجيكية حتى بلجيكيا الحضرية المترولوبوليتانية، وتعكس الصور الحيرة النفسية التي عصفت بهؤلاء الخلاسيين وصنعت في دواخلهم أزمات عميقة وأسئلة معلقة حول الهوية والانتماء واللون والعرق والهجرة والتراث الاستعماري، حيث كان مسمى: «أبناء الخطيئة» يطارد أصحاب هذه الطبقة المنبوذة، والذي أدى عزلهم عن المجتمع وعدم الرغبة في تزويجهم إلى تناقص أعدادهم في الكونغو، ومن هنا فإن الصور التي يوثقها إيمانويل ترصد النزيف الإنساني والمعاناة المتراكمة لشخوص تشكّلت حيواتهم ومصائرهم من أخطاء الماضي التي لا علاقة لهم بها، وتتوضح اللقطات المعبّرة عن هذه اللحظات المأساوية، من خلال كادرات واسعة لفضاءات مفتوحة على حلم متطاير ووجود عبثي لهؤلاء الخلاسيين في مكان اقصائي لا يعترف بهم، ويضعهم دائما في الزاوية الخانقة والحاملة لكل معاني التهميش والدونية واللعنة المتوارثة.
وتعبّر أعمال الفنان المغربي رشيد الوطّاسي والتي تحمل عنوان: «أطفال العدم» ما يمكن وصفه بالإشراقات الحبيسة، المدفوعة إلى استنباط البهجة من عمق السوداوية، مستخدما صور الأطفال الفقراء في لحظة قفزهم داخل مياه البحر، كمعبر للأنساق الدلالية التي تشي بالاحتجاج الصامت تجاه مصائر بريئة مسكونة بالأمل، رغم البؤس المحيط بها، فباستخدامه للألوان المحايدة يتسلل الوطّاسي إلى عالم الطفولة المستلبة دون ضجيج، ويفتح مجالا للحوار بين الذات المراقِبة، والذات المرصودة، وكأن ثمة تماهٍ هنا بين الأضداد التي تبدو متنافرة خارجيا، ولكنها مندمجة ومتعانقة في توقها المشترك للانغماس في السعادة، ولو لساعات قليلة تذوب فيها الأنا المعذّبة، وتصير أشواقا محلقة في الراهن والمعاش والمتحقّق، بعيدا عن سطوة الظروف الوحشية، خارج هذا الإطار المؤقت للفرح.