12 يناير 2011 19:48
أمضت ميرال الطحاوي زهاء خمسة عشر عاما أسيرة مشروع نصها الإبداعي حتى تحررت بكتابة 4 روايات ومجموعة قصصية، كان آخرها روايتها “بروكلين هايتس” التي وصلت إلى القائمة القصيرة لجائزة البوكر العالمية في نسختها العربية، والحائزة جائزة نجيب محفوظ للرواية التي تمنحها الجامعة الأميركية بالقاهرة.
ميرال الطحاوي صوت روائي نسوي ذات مشروع سردي طموح، خبيرة بأسرار الحكي، متمكنة من تقنيات السرد، متأنية في مسيرتها الروائية، مما أتاح لها أن تكتب روايتها الأخيرة بعد فترة توقف أعقبت روايتها “نقرات الظباء”، الصادرة عام 2006 باقتدار شهد به الكثيرون وشكلت عالما سرديا متميزا برواياتها الأربع، وجسدت بحس روائي مرهف ووعي نقدي متقد ثقافة المسكوت عنه في مجتمعات البدو وثقافة الصحراء.
روايتها “بروكلين هايتس” التي صدرت منها طبعة جديدة مؤخراً عن دار الآداب ببيروت، بالإضافة إلى طبعة جديدة عن دار ميريت بالقاهرة، قال عنها النقاد إنها نقلة جديدة لبطلة روايات ميرال، من البيئة البدوية المصرية، إلى مواجهة العالم الجديد، في كتابة فضيلتها الأساسية أنها تنبع من القلب، وإلى القلب يصل أساها وجمالها.
لم يتح لميرال الطحاوي، حسب ما روت لـ “الاتحاد الثقافي”، أن تُطلع أصدقاءها المقربين على مسودة الرواية، وعن شخصياتها وأحداثها وأجوائها التي تدور فيها، كما تعودت في أعمالها السابقة. وهو ما أدى إلى شعورها بغربة إلى حد ما عن نصها، “بروكلين هايتس”، النص الذي ولد بعيدا عنها من دون أن تراه، إذ صدرت الطبعة الأولى من الرواية في مارس 2010 عن دار ميريت بالقاهرة من دون أن تتابع مراحل الجمع والطباعة والصدور، ولكن طوال سنتين هما عمر كتابة الرواية لم يغب حلم إتمامها واكتمالها عن بالها.
ميرال الطحاوي البدوية المصرية، ابنة قبيلة “الطحاوية” ولدت في محافظة الشرقية وحصلت على ليسانس الآداب في جامعة الزقازيق، ثم واصلت دراستها الأكاديمية، بحصولها على الماجستير والدكتوراه، وهي تعمل حاليا أستاذة بجامعة “نورث كارولينا” بأميركا، وترجمت أعمالها إلى العديد من اللغات.
كتابة البنات
? تنتمين لجيل أدبي غلبت عليه ظاهرة “كتابة البنات” ضمن سياق أشمل من التحولات الأدبية والإبداعية؟
? “كتابة البنات” هذا المصطلح أطلقه إدوار الخراط في النصف الثاني من التسعينيات من القرن الماضي على مجموعة كبيرة من الكاتبات اللاتي ظهرت أعمالهن الأولى، مثل مي التلمساني وعفاف السيد ونورا أمين وسحر الموجي وأنا، وأخريات (أكثر من خمس عشرة كاتبة شابة). جيل التسعينيات في معظمه كان من الكاتبات، وتناول أعمالهن عدد كبير من النقاد مثل: علي الراعي وشكري عياد وإدوار الخراط وصلاح فضل وجابر عصفور وإبراهيم فتحي.
بعض النقاد رأى أن كتابة السبعينيات والثمانينيات تنتمي بشكل أو بآخر إلى كتابة الستينيات، أما بداية التغير الحقيقي في أشكال الكتابة، كتابة مغايرة لها طابع خاص وتطرق عوالم جديدة لم يطرقها أحد من قبل، فكانت مع جيل التسعينيات. وهذا الرأي كان محل إجماع بين كثير من النقاد. لكن هذا الجيل ضم كتاباً مهمين أمثال حمدي أبو جليل، وأحمد أبو خنيجر، وسعيد نوح، ومصطفى ذكري، وآخرين غيرهم، لكن الكاتبات كُنّ الأوفر حظا. لو قارنت عدد الكاتبات من النساء بدءا من جيل السبعينيات وما تلاه حتى التسعينيات، فستجد أن كثرة من أسماء الكاتبات اللاتي ظهرن خلال عقد التسعينيات أوفر عددا بكثير من الكاتبات اللاتي كن في الأجيال السابقة لنا. وكان تحولها أي “ظاهرة كتابة البنات” إلى صرعة أو موضة أدبية أو إبداعية يطرح أسئلة كثيرة ومتشككة حول قيمتها الأدبية، كانت هناك أغلبية من الأصوات النسائية التي كان يتم المراهنة على استمراريتها وتناميها وقدرتها على البقاء.
? خلال هذا السياق الإبداعي الذي شهد بزوغ جيل التسعينيات، كيف تميزين صوتك السردي ضمن هذا السياق؟
? كنت أحاول طوال الوقت أن أتعامل على أنني حالة خاصة في الكتابة توصف بأنها ذات “مذاق خاص وفرادة نوعية”. كانت توصف بأنها “كتابة البدو” أو “كتابة الصحراء” أو “كتابة ابنة القبيلة” إلخ. تلك المسميات والمصطلحات التي أطلقت على ما كتبت من أعمال كانت تنظر إلى هذه التجربة باعتبارها مختلفة عن تجارب الآخرين. بعد ذلك تم إطلاق “أدب الهامش” على مثل هذا النوع من التجارب الجديدة، الكتابة التي تركز على الهامش وليس المتن، ودار حوار وجدل طويل حول هذه التجارب باعتبار أن الكتابة عن البدو وباعتبارهم جماعات هامشية تمثل شكلا من أشكال الكتابة عن “المهمشين”. وتم تصنيفي أو تصنيف ما كتبته على أنه مرة “كتابة بنات” أو “كتابة الهامش”، ومرة على أنها “كتابة الصحراء” وعموما فأنا لست مشغولة بفكرة الأجيال “المجايلة”، لا يعنيني أن أكون منتمية لجيل التسعينيات أو لجيل الستينيات أو لأي تصنيف آخر للأجيال. ليس من مهمة الكاتب الانشغال بهذه المسألة أو بغيرها من مسائل تدور خارج دائرة الكتابة ذاتها.
الرواية الأنثروبولوجية
? ما مفهوم الرواية الأنثروبولوجية التي يصنف بها البعض كتابتك، وبالأخص روايتك الأخيرة “بروكلين هايتس”؟
? هذا اصطلاح آخر من الاصطلاحات التي استخدمت لتصنيف رواياتي، وأعتقد أن المقصود هو الكتابة عن المكان بوصفه محورا للإبداع في ارتباطه بجماعات عرقية أو أصولية معينة، مثل كتابة يحيى الطاهر عبدالله عن مجتمع الصعيد أو ناس الجنوب، وإبراهيم عبد المجيد عن الإسكندرية، وذلك من خلال التأريخ للمكان بوصفه تاريخا لجماعة من البشر تحيا وتعيش في هذا المكان، وكذلك مثل كتابة إبراهيم الكوني عن الطوارق وأبناء الصحراء. لا أعتقد أن هناك كاتبا يكتب وفي ذهنه تصور مسبق لتصنيف نقدي ما أو مصطلح نقدي يمكن أن ينطبق عليه، بينما الناقد مشغول بمثل هذه التساؤلات، وهذا جزء من مهمته. الكتابة دائما تأتي أولا، ثم تأتي محاولات التصنيف وإشكاليات المصطلحات النقدية، وحتى النقد الذي كتبته أو أكتبه غير معني بالتصنيف. الناقد مهمته الأساسية هي تحليل النص ورؤيته كما يشاء، والناقد في حقيقة الأمر مبدع آخر، أو تستطيع أن تقول إن النقد إبداع مواز، الناقد مبدع بشكل ما، وإذا كان من حق الكاتب أن يرى عالمه المتخيل كما يشاء، فأيضا من حق الناقد أن يرى هذا العمل الفني أو الأدبي كما يشاء، وله الحرية الكاملة في تصنيف العمل وتحليله من الزاوية التي يفضلها أو يختارها.
? كيف تحدثين التوازن المطلوب بين الكتابة والنقد أثناء ممارسة الكتابة؟
? إن طغيان بعض الأدوار بداخل الكاتب على أدوار أخرى، أو عدم قدرة الكاتب على إحداث التوازن، يحدث في أي مهنة عند من يجمعون بين عملين مختلفين في ذات الوقت، مثلا عندما تعمل بالصحافة وعينك على الكتابة. والمهنة دائماً تمتص الوقت، إذا كانت قريبة من الحقل الإبداعي، فهذا يوفر كثيرا على الكاتب شرط ألا ينغمس، ونجيب محفوظ هو المثال الأكثر توازنا وبروزا في هذه المسألة. هو الذي أعطى مثالا مكتملا على أن أي مهنة يستطيع الإنسان أن يتوازن معها، وأن يعطيها حقها فقط، وأن يعطي الكتابة حقها فقط أن يكون نجيب محفوظ!، وهذه مشكلتي مع الكتابة. في السنوات التي كنت متفرغة فيها لإتمام الماجستير والدكتوراه لم أكتب حرفا، لم أستطع أن أكتب، لأن القدرة الإنسانية محدودة، لا تستطيع أن تعطي بنفس القدرة والمستوى. لكن التوازن يكون في أن تستطيع أن تتوقف قليلا وتعاود وأنا أعتبر أن هذه حالة من الشحن الإبداعي لأن الدراسة الأكاديمية توفر الموضوعية والمعرفية، وقراءة أعمال الآخرين، والتأمل في تجربة الكتابة، والتأمل في التجارب الأخرى وأشياء أخرى كثيرة. بعض الكتّاب الذين يكتبون بشكل يومي لا يتوقفون للحظات كي يتأملوا حتى ما يكتبون، كتابة بلا زاد ولا وعي معرفي. هذا هو تفسيري في أن تجربة نجيب محفوظ في التفرغ للكتابة هي تجربة غير مسبوقة ويصعب تكرارها بكل تأكيد!.
الرواية والجائزة
? كيف ترين النجاح الذي حققته الرواية وترشيحها للبوكر ثم فوزها بجائزة نجيب محفوظ؟
? الكتابة بالنسبة لي ليست استحقاقا لجائزة. ولا الجوائز تصنع للكاتب قيمة. ولا حتى فكرة البيع أو “البيست سيلر”. الكاتب يرضى عن نصه الذي كتبه. ويتساءل بداخله هل هذا النص هو الذي أردت كتابته أم لا؟ هل أشعر بالرضا عما كتبت أم لا؟ خصوصا وأنا عيني على كتابات الآخرين. ومطمح أي كاتب أن يكون موجوداً ومتحققاً، واسما بارزاً وفاعلا في خريطة الكتابة وبعمق واضح أو محدد، وفي الإطار الذي يحب أن يوضع فيه. النص هو الذي يحقق وجوده، ويحقق للكاتب أشياء أكبر من أي جائزة. إذا كان النص متحققاً ومقروءاً وثمة اتفاق وإجماع نقدي عليه فهو نص متحقق وموجود وباق. السنوات العشر الأخيرة أنتجت أو أفرزت عدداً كبيراً من الجوائز في الثقافة العربية، هذه الجوائز بالتأكيد تسهم في انتشار الكتاب، وإعادة طبعه، وتعريف قارئ جديد بكاتب لم يعرفه من قبل ولم يقرأ له، وإتاحته لعدد كبير من القراء على نطاق واسع لم يكن متاحا قبل ذلك. لكنها لن تكون سبباً في صنع كاتب هو بالأصل غير موهوب. أنا ذكرت في مناسبات سابقة أن بداية أي جائزة، وطبيعة أي جائزة هي سباق، وعلى المتسابقين احترام قوانين هذا السباق، قانون المنافسة. أنا أرى أن مثل هذه الجوائز والمنافسات الأدبية تصب في صالح النص الجيد والكاتب الجيد. وإذا كان بعضهم يرى أن هذه الجوائز غير مجدية أو لا تعود بفائدة أو نفع عليه أو على نصه، فلا أحد يجبر أحداً على التنافس في مثل هذا الأمر!.
? كيف جاءت قصة ترشح الرواية للبوكر؟
? فكرة الرواية والشروع فيها والتدوين اليومي لها استغرق سنتين. وكنت متخوفة من النشر وأرسلت مخطوطة هذه الرواية لصديقي عزت القمحاوي، وكنت مترددة في نشرها، لكنه تحمس للنص، وقال لي سأنشر فصلا في “أخبار الأدب”. على عكس نصوصي الأخرى التي كنت أشرف بنفسي على مراحل طباعتها وأتابعها حتى صدورها بشكل طيب خال من الأخطاء الطباعية قدر الإمكان لم أكن موجودة عندما صدرت الرواية، ولم أكن موجودة أثناء جمع الرواية وإعداد بروفات الطبع. لأول مرة في حياتي لا أكون مشرفة على طباعة نصي، وأرسلت بـ”الإيميل” إلى الناشر أن يرسلوا لي بروفات الطبع كي أتمكن من مراجعتها وتصحيحها والتأكد من خلوها من الأخطاء، وهذا لم يحدث لرغبة الناشر في أن يلحق بقائمة البوكر. الناشر محمد هاشم قام على الفور بنشرها حتى من دون أن أراها، وقد كان متحمسا للحاقها بقائمة البوكر. أعتقد أنها آخر رواية وصلت بريدياً وكان متخوفاً من انتهاء فترة الترشيح، وأنها ربما لا تلحق الترشيح وسلمت بذلك وقلت إن الأشياء في النهاية قسمة ونصيب. بالطبع كانت القائمة الطويلة مفاجأة، والقصيرة فرحاً مضاعفاً، والفرح الأكبر أن هناك شبه إجماع على أن لجنة التحكيم لها مصداقية شديدة. وهناك إجماع على أن هذه الدورة من أفضل دورات البوكر العربية، الجائزة التي حققت في وقت قصير كل هذا الحراك الأدبي. لا أنتظر شيئاً، وأعتقد أن الجائزة سيأخذها من يستحقها، وأنا سعيدة لوجودي بين أسماء كبيرة نالت استحقاقا كبيراً، وكلهم أصدقاء أعزاء. أتمنى أن تظل الجوائز محفزة للكتابة الجيدة، وأن تبتعد عن العصبيات والإقليمية الضيقة، فكلنا نكتب تحت مظلة لغة واحدة هي ما تبقى من روابط بين العرب، اللغة هي المظلة الأخيرة التي تتسع للنص الجميل. وسأفرح لمن يأخذها ومن يستحقها، وكما قلت في لقاءات سابقة، فأنا سعيدة ببهجة التحقق وهذا أقصى ما كنت أتمناه.
? هل فوجئت بردود الأفعال القوية تجاه الرواية؟
? فاجأني ذلك جدا. لقد كتب عن الرواية الكثير من المقالات والدراسات، ومعظمهما من كتاب لهم تقديرهم في نفسي. لقد كتب عن الرواية الكثير، مثل د.صلاح فضل والكاتب الكبير شريف حتاتة، والشاعرة ظبية خميس والكاتب الصديق عزت القمحاوي، والمقال الجميل الذي كتبه الروائي محمود الورداني ود.سيد البحراوي وآخرين. وقد فاجأني ذلك لأنني غير موجودة في الحياة الثقافية منذ مدة طويلة، ومسافرة وعلاقتي بالحياة الثقافية تبدأ وتنتهي من خلال متابعة الصحف على الإنترنت؛ لذلك اعتبرت هذه الحفاوة تكريماً كبيراً أقصى مما تمنيته في الحقيقة قبل الجوائز.
? عقب الإعلان عن وصول روايتك “بروكلين هايتس” إلى القائمة القصيرة تم الإعلان عن فوزك بجائزة نجيب محفوظ للرواية، ماذا يعني هذا التزامن من النجاحات المتتالية لميرال الطحاوي؟
? أسعدتني جائزة نجيب محفوظ وكانت من المفاجآت الجميلة. فمنذ ثلاثة أسابيع اتصلت بي الدكتورة سامية محرز لتبلغني باختيار لجنة التحكيم لي بالإجماع، وتحدثت بحماسة شديدة. وأربكني ما قالته الدكتورة سامية عن رؤيتها ورؤية اللجنة لروايتي وهو ما لم أتوقعه. توقعت جائزة الجامعة الأميركية قبل ذلك، لكن كل الأشياء تأتي بميعاد ولا يقلل هذا من فرحي بها. كما أن فرحة الأصدقاء والمحيطين بي بحصولي عليها زاد فرحي. الجوائز تصنع جسرا بين الكاتب وقارئ محتمل، قارئ لا يعرفني ولا أعرفه.