الإثنين 25 نوفمبر 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

«الفن العربي» إذ يؤرخ له ناهبو خزائنه

«الفن العربي» إذ يؤرخ له ناهبو خزائنه
12 يناير 2011 19:40
سابقا على حملة نابليون الفرنسية على مصر العام 1798، لم تكن هناك نتائج واضحة تذكر للاستشراق الفني الفرنسي قد جرى تأريخها أو أرشفتها على مستوى السلطات المحلية أو الاستعمارية، اللهم سوى تلك الرسومات التي قصد منها الرسامون الفرنسيون التأريخ لنابليون ومعارك الجيش الفرنسي في المنطقة العربية. لم يكن ذلك الاستشراق الفني قد تأسس في الدوائر الاستعمارية بوصفه علماً مستقلاً قابلاً للوصف والبحث فيه وبالتالي إدراك ماهيته واختلافه إلا عندما تراكمت المنهوبات والمسروقات التي تمت على أيدي المستشرقين أو تحت إشرافهم عبر ما يزيد على القرنين من الزمان. أكان ذلك ولعاً بمصر وحدها من دون سائر المنطقة العربية؟ ربما، لكن الأطماع الاستعمارية الفرنسية تجاه المنطقة العربية إجمالاً لم يتم الإفصاح عنها تماماً إلا بعد خروج محمد علي باشا على سلطة الباب العالي وشروعه في تأسيس دولة حديثة في سياق مشروع لا زال حتى الآن يحمل اسمه بوصفه مشروعاً تنويرياً ينتمي إلى العصر الحديث، حتى في الأعمال الفكرية التي ألفها الإصلاحيون والتنويريون العرب والمسلمون الأوائل خلال الفترات التالية على حكمه. وحقيقة الأمر أنه ليس من السهل حتى على أهل الاختصاص الجزم في تحديد تاريخ ما يُعتبر بدايةً لهذا الولع الاستشراقي الفني بمصر، وسائر المنطقة المتوسطية الجنوبية التي تعتبر منطقة الحراك الطبيعي والتاريخي للمسيحية “العربية”، وذلك لأسباب مفهومة. لكن فترة حكم ابراهيم باشا هي التي أسفر فيها الاستشراق الفرنسي عن ولع شديد بمصر، وقد فتحت أبوابها، وهي الفترة التي تركت تلك الآثار المدمرة والكارثية، إذا جاز التوصيف بحق، على البنية الأساسية للعناصر الطبيعية التي كان من الممكن لعلم جمال عربي غير استشراقي أن ينشأ بناء عليها وأن يفضي إلى وجهة نظر تطرح إجابات على تلك الأسئلة التي يطرحها علم الجمال على الفن، أي فن ذي هوية محلية وخاصة، منذ أرسطو والأغارقة حتى اليوم. وربما يظن قارئ أن هذه النتيجة الواردة في الأسطر السابقة تندرج في باب المبالغة؛ لكن المقدرة على تخيُّل مدى النهب المنظم وغير المنظم للقى والآثار من قِبَل الدوائر الاستعمارية الفرنسية من جهة ويدا التخلف والجهل اللتان امتدتا إلى الآثار المعمارية والفنية عموما، تلك التي تنتمي إلى مصر الفرعونية أو المسيحية أو الإسلامية، تجعل المرء يذهب إلى الاعتقاد بأن دراسة هذا الأمر علميا وتاريخيا وفنيا قد تفضي إلى تأسيس حقل معرفي مكتمل بطرائقه وأساليبه وبالتالي نتائجه. هذا ما يخرج به المرء إذ يفرغ من قراءة كتاب “الفن العربي”، الصادر بالفرنسية العام 1877، وقد تأمل في محتوى الكتاب/ المجلد صورةً وكتابةً، ثم في معنى هذا الكتاب وقد ألّفه مستشرق ورسام فرنسي ذو موهبة رفيعة واستثنائية، هو في الأصل نهّاب آثار من طراز خاص، يدعى بريسّ دافين (1807 ـ 1879) وصدر عن مكتبة لبنان ـ ناشرون بترجمة إلى العربية تحمل توقيع الدكتورة رانيا عادل وأخرى إلى الانجليزية تحمل توقيع هيثم خشبة وطه بلال، في قرابة 500 صفحة من القطع الكبير والملوّن. لقد أسست منهوباتُ هذا الرجل الآثارية القسمَ الخاص بما يُعرف بـ”المصريات” في متحف اللوفر، وبالتالي لما يعرف بـ”الاسرائيليات” وسواها من العلوم والفنون الاستشراقية، التي انبنت في مراحلها المتعددة بناء على التأويل الأدبي للتوراة من ناحية وبدرجة مفصلية ثم بناء على الداروينية الاجتماعية والتفوق العرقي الذي يتيح نهب كل ما هو نافع ويملكه الآخرون. لقد فعل دافين ذلك على نحو من الوفاء والولاء الشديدين والنادرين للمشروع الاستعماري الفرنسي الذي يثير الإعجاب أيضا. من هنا، يمكن القول إنه من غير المؤكد لأي بحث يقوم بإهدار السياق التاريخي، بمعناه السياسي والفني معا إذ يتشابكان في التفاصيل والتضاريس، أن يفضي إلى نتيجة منطقية في دراسة “علم جمال” الفنون العربية وجملة النظريات التي انبنت عليها هذه الفنون وأغراضها الجمالية والنفعية أو الوظيفية وبالتالي التعرف إلى طبيعة الشخصية العربية في واحدة من مراحلها التاريخية الدقيقة. وبالطبع، فإن هذا السياق التاريخي يشتمل أيضا على تداخلات إيديولوجية وجغرافية قائمة على تصورات دينية مسبقة وأفكار راسخة لدى الغرب تجاه العربي والمنطقة العربية، كما يشتمل على الواقع التاريخي لحضور الدولة ـ الإمبراطورية الإسلامية في العالم وما كانت تتعرض له من تحلل وتفتت أدى إلى تمزيقها ومن ثم وقوعها تحت القبضة الاستعمارية فدخول العرب، أو الدولة العربية الحديثة، إلى العصر الحديث. ثم تأتي أهمية أي بحث في هذا الحقل من مقدرته على تفكيك هذا التعقيد وإعادته إلى عناصره الأولى دون مبالغات أو إفراط في التأويل. ولعل من الممكن اعتبار كتاب “الفن العربي” وسيرة صاحبه في أرض الكنانة أحد أهم المنطلقات لتفكيك ذلك التعقيد بهدف الوصول إلى نتائج بشأن شخصية الفن العربي تاريخيا وليس بدءا مع الظهور اللاحق للوحة المسندية الحديثة التي غالبا ما يبدأ معها التأريخ للفن العربي الحديث، وذلك بمعزل عن تاريخ أسبق، مع أن ظهورها ارتبط بالوجود الاستعماري ثم ظهور الدولة العربية الحديثة. ثمة ثروة فنية عربية هائلة قد تمت سرقتها سرا وجهرا أو خُربت عن عمدٍ أو جهل خلال القرنين التاسع عشر والعشرين، ربما بمستوى لم تتعرض له أمة أخرى سبق لها أن تعرضت لسرقة تاريخها القديم. ثم دع جانبا تلك القدرات الاستثنائية لدافين التي يشير إليها الدكتور مصطفى الرزّاز في مقدمته التحليلية للكتاب، أو بالأحرى عرضه السريع لسيرة الرجل في مصر وإبرازه الجوانبَ العبقرية في شخصيته، واذهب عميقا باتجاه الرسومات التي أنجزها دافين وتضمنها الكتاب، فهي التي ستشير إلى موهبة هذا الرجل بوصفه رساما استشراقيا يبدو قادرا على نقل المشهد الطبيعي المُعاش كما هو بكل تفاصيله إنما بإحساس ينبعث أساسا من الديناميكية في علاقة الإنسان بفضائه المحيط به وبمقدرة الفنان نفسه على إدراك طبيعة تلك العلاقة في تلك الأعمال المرسومة باليد أو التي تمّ التقاطها بالكاميرا وتبدو بالأبيض والأسود كما لو أنها خرجت للتوّ من الذاكرة القديمة للفن الاستشراقي. غير أن تلك العبقرية تتجلى فيما أنجز الرجل من نقل للرسومات الموجودة أصلا في أعمال فنية، وما تتوافر عليه من مهارة تقنية ومقاربة، ربما، لثقافة الناس اليومية، هؤلاء الذين عاش بينهم لسبعة عشر عاماً وأتقن لغتهم إلى جوار لغات عديدة ولغته الأم. أيضا فإنه من المثير للإعجاب حقا، هو تلك اللوحات الباهرة للنظر التي انجزها دافين وتتعلق بالفنون العربية كالخط العربي والمنمنمات والزخرفة، تلك التي في الجدران والمشربيات والنوافذ أو حتى المصاحف، والنسيج والتطريز اليدوي والسجاد وتفاصيل النقوش على الخشب، وذلك إلى جانب الآثار المصرية الأكثر قِدَما بما يعنيه ذلك من إتاحة إمكانية دراسة الفن المصري وفقاً للأسس التي انبنى عليها معماريا ودينيا، أي الأساطير المؤسسة له والفاعلة فيه، من جهة، وما استجد عليه من مدارس فنية إسلامية مشرقية ومغربية وأندلسية، من جهة أخرى. الأمر الذي يشكل أساساً فعلياً لدراسة تقوم على أسس أخرى مختلفة عن ما هو سائد، وبالطبع بالاستفادة من مجمل الدراسات النقدية والتاريخية في حقل الفنون العربية. ولعل إحدى اكثر المقولات انتشارا حول الفنون العربية والاسلامية هي نزعة هذه الفنون إلى المزج بين الحسي والمجرد والمرئي والغيبي والروحي والمادي وكل ما من شأنه أن يجعل هذه الفنون بلا وظيفة جمالية/ نفعية مباشِرة من فرط التركيز على البعد الديني فيها الذي يرتبط بعقيدة التوحيد مباشَرة، أي بالأساس الذي تقوم عليه العقيدة الإسلامية أصلا. غير أن واقع الحال، وبالاتكاء على منجز دافين في “الفن العربي”، تجعل المرء يعيد تقليب النظر في هذا الشأن. إذ أن من الواضح أن حجم التداخلات بين الحاجة الاجتماعية والحاجة الجمالية للفن، أو لما هو جميل، في الحياة اليومية العربية قد كانت أكثر تعقيدا مما نتوقع نحن أبناء هذا الزمان. أيضا، ثمة ذلك الغنى في الأساليب والطرائق التي يلحظها المرء في الفنون عندما تصبح عملا فنيا تطبيقيا خالصا وله منفعة آنية في العيش اليومي، ما يشير إلى غنى وتنوع فريدين في الحياة العربية والإسلامية التي سمحت، بثقافتها المنفتحة، لتيارات فنية عديدة أن تؤثر في مجمل هذه الفنون، هي التيارات القادمة من ثقافات الشعوب التي ضمها القوس العربي الإسلامي وغير الإسلامي. هنا يجد المرء أساليب وعناصر فنية تنتمي إلى ثقافة متوسطية غير عربية كالرومانية والإغريقية من قبلها في أشكال الأعمدة التي تشكل عنصرا أساسيا في العمارة العربية والإسلامية، أو أساليب وطرائق فنية، بل وتعددا في المدارس، فيما يتصل بالرسوم والتزيينات التي ترافق الكتب السردية أو المصاحف، بمثالها الأبرز في المدرستين المغولية والصينية إلى جوار العربية أو الواسطية، إن صحّ التوصيف. تجتمع هذه الفنون كلها في أفق ثقافي ربما تكون ميزته الأساسية أنه على تعايش يومي ومَخيض مع البشر وعلاقتهم النفعية بالأدوات دون تعالٍ أو نخبوية من أي نوع. مع اليقين أن حياة الناس لم تكن فنا خالصاً بالتأكيد، لكن حضوره كان شائعا في التفاصيل اليومية للناس تبعا لممارسة العبادة بالدرجة الأولى ثم لطرائق اكتسابهم العيش اليومي. بهذا المعنى لم تكن الثقافة العربية والإسلامية، وفقاً لرؤية واسعة وحضارية بالأساس، متخلفة على ذلك النحو الذي بدت فيه في لحظة انكشاف حضاري بين الغرب والشرق عشية العام 1798 ودخول المطبعة الحديثة إلى المنطقة العربية، وأن مسألة “الفوات الحضاري” بينهما لم تقم إلا على أسس غير محايدة معرفياً، تحديداً فيما يتعلق بالجانب الثقافي الحضاري وليس بالتطور التقني الذي أحدثه الغرب بالتأكيد إنما بإسهام من ما أنجزت الحضارة العربية وسواها في أفق التجربة البشرية ككل، وتحديداً ما قام بإنجازه العالم القديم مجتمِعاً وليس أوروبا وحدها. وأخيرا، وفي المسعى إلى أن يكتشف المرء معنى ما لهذا الكتاب ونشره بالعربية، التي هي لغته الأم، فيمكن القول إن بريس دافين، بعبقريته اللافتة للانتباه، يؤسس، ربما، لحقل معرفي نقدي وجمالي يدرس “الفن العربي” وفقاً لما هو عليه وتبعاً لما أنجزه في أعمال تنتمي إلى حقول الفنون التشكيلية، في الوقت نفسه الذي لا يهدر السياق التاريخي لطبيعة التداخلات والتأثيرات الثقافية التي تسربت إلى هنا أو هناك بفعل عوامل حضارية شهدتها المنطقة العربية بحكم وجودها في الزمان والمكان دون تشدد أو عصبوية أو مغالاة في انتماء أعمى بل بانفتاح على كل ما يهب على المعرفة الجمالية من أفكار وتيارات وخيالات أيضاً.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©