26 ابريل 2012
في طبعة جميلة، أصدر المركز الثقافي العربي، الترجمة العربية لأحدث كتاب للكاتب التشيكي العالمي، ميلان كونديرا “لقاء”، بترجمة للكاتب المغربي محمد بنعبود الذي ترجم سابقا مجموعة من الأعمال الأدبية من بينها: روايتا جيلبرت سينويه “المصرية” و”ابنة النيل” وكتاب “شعر وفلسفة عرب ما قبل الاسلام” لمؤلفه الباحث العماني سلام كندي، و”حكايات إفريقية” للكاتب المالي الفولاني أمادو همباطي با.
يتكون كتاب “لقاء” من تسعة فصول هي: (الحركة العنيفة للرّسام: حول فرانسيس بيكون، روايات: سابِرات وجودية، واللوائح السّوداء أو متتاليّة مقاطعَ تكريماً لأناتول فرانس، وحلم الإرث الكامل، وجميل مثل لقاء متعدّد، وفي مكان آخر، وحبّي الأول، ونسيان شونبرغ، و”الجلد” رواية ـ نموذج). ويمكن اعتبار هذا الكتاب امتداداً لكتبه النّقدية الشهيرة (فنّ الرّواية، الوصايا المغدورة، السّتارة).
ويحاول ميلان كونديرا مرافقة قارئه في رحلة سياحية ثقافية في مراتع مختلف الفنون التي يحبّ دائماً أن يقترب من قطوفها الدّانية، مبدياً فيها آراءه التي يعرب قرّاؤه باستمرار عن إعجابهم بها.
وهكذا نجده يتحدّث، عن الرّواية، لكن دون أن ينسى القيّام بجولته المعتادة على مختلف الفنون: يخصّص للرّواية فصلين من الكتاب (فصل روايات، سابِرات للوجود، وفصل “الجلد”)، يتحدّث في الأوّل عن عمل روائي واحد لكلّ من دوستويفسكي وسيلين وفليب روت وغودبيرغر بيرغسون وبيينزيك وخوان غوتيسولو وغابرييل غارثيا ماركيز. والجميل في تحليلاته لروايات هؤلاء أنّه يتناول منها جوانب لا يخطر على بال نقّاد آخرين الانتباه إليها؛ فهو يعنون، مثلاً، حديثه عن “مائة عام من العزلة” لماركيز، بالآتي “الرّواية والإنجاب”، ليلاحظ أن غالبية شخوص الرّوايات الأوربية العالمية الشّهيرة، ليس لها أبناء، في حين أن رواية ماركيز تعج بهم. لذلك يخلص إلى أنّ لديه انطباعاً “بأنّ هذه الرّواية التي تعدّ قمّة في تألّق الفنّ الرّوائي هي في الآن نفسه وداع موجّه لحقبة الرّواية الأوربّية”. أمّا فصل (“الجلد” رواية ـ نموذج )، فقد خصّصه للحديث عمّا يعتبره اكتشافه الخاصّ؛ كتاب لمالابارته، عنوانه “الجلد”؛ إذ يلتقط حكماً وارداً في مقدّمة هذا الكتاب يصفه بالرّواية؛ فيبني عليه هذا الفصل كي يدلّل بالفعل على أن الكتاب رواية: “أجل أنا أوافق رغم أنّني أعلم أنّ شكل الجلد لا يشبه ما يعتبره غالبيّة القرّاء رواية. لكن هذه الحالة ليست نادرة الوقوع؛ فثمّة روايات عظيمة كثيرة لم تكن تشبه، عندما كتبت، ما كان يعتبر فكرة مشتركة عن الرّواية...”.
وفضلاً عن معشوقته الرّواية، التّي لا يفوّت أيّة فرصة، في باقي الفصول كي يشير إليها، يتطرّق إلى مختلف الفنون؛ يتحدّث عن السّينما، معبّراً عن امتعاضه ممّا آل إليه اكتشاف الأخوين لوميير: “تقنيّة ضبط الصّورة في حركتها وزمنها الحقيقيين” إذْ أصبح الآن “يوظّف في الدّعاية والإشهار وفي المسلسلات التّبليدية، أكثر ممّا بقى مخلصاً لما اكتشف من أجله؛ أي أن يكون فنّاً حداثياً يقدّم للمشاهد معرفة معمّقة بالنّاس وبالحياة”. لذلك نجده يصرّح صراحة أنه لا يشارك العالَم احتفاله بمرور مائة سنة على اكتشاف السينما: “مائة سنة من السّينما؟ نعم. لكن الحفل ليس حفلي”.
كما يخصّص فصلاً كاملاً للفنّ التّشكيلي، يتحدّث فيه عن الرّسام العالمي الشّهير فرانسيس بيكون، محلّلاً طريقته في رسم البورتريهات ثلاثيّة الأجزاء، مقارناً عمله بأعمال بيكاسو في مرحلة من حياته الفنّية الزّاخرة، ويلخّص جهد بيكون في هذه الجملة: “توضع كفّ الرّسام الغاصبة، بحركة عنيفة، على وجوه موديلاته ليعثر في مكان ما من أعماقها على (أناها) مخْبُوءةً”.
أمّا الموسيقى، فيحتفل بها في أكثر من فصل: يتحدّث عن بيتهوفن وعن إيانيس كسيناكيس في فصل “حلم الإرث الكامل”، وعن شونبيرغ في فصل “نسيان شونبيرغ”؛ لكنّه يخصّص فصلاً مستقلاًّ كاملاً هو فصل “حبّي الأوّل” للمؤلّف الموسيقي التشيكي جناسيك؛ فهو، على غرار ما فعله في باقي كتبه، يخصّ ابن بلده جناسيك بإعجاب خاصّ لأنّه استطاع أن يفرض نفسه بوصفه مؤلّفاً موسيقياً حداثياً بنفس قيمة كبار المؤلّفين الموسيقيين العالمين، رغم أنّه عاش في وسط لم يجد فيه من يساعده على إبراز موهبته المتفرّدة وإذاعتها في النّاس؛ ممّا جعل شهرته تتأجّل إلى آخر حياته. ومن إعجابه بفنّه يخصّ عمله الأوبرالي (جينوفا) بتحليل دقيق أبرز من خلاله الطّابع المتميّز لتأليفات جناسيك، ممّا أهّله لأن يكون في مصافّ كبار المؤلّفين الموسيقيين العالميين.
والحقيقة أن من الصّعب الإحاطة بكلّ القضايا التي أثارها كونديرا في كتابه هذا؛ فهو يتحيّن الفرصة، في كلّ لحظة، كي يبدي رأيه في قضايا كثيرةٍ شديدةِ الحساسيّة: سارتر ورفضه للفنّ الرّوائي، السوريالية والحداثة، رابليه في مواجهة كارِهي الفن، الأدب والفن في المارتنيك، المنفى والكتّاب المنفيّون، كتّاب المونوغرافيات وجنايتهم على كبار المؤلّفين العالميين، مراسلته لكارلوس فوينتيس واتفاق آرائهما في الحياة وفي الرّواية... غير أن تشاؤم كونديرا من مستقبل الأدب والفلسفة والفنّ، بأوروبا خاصّة، يبرز في هذا الكتاب في أكثر من موضع؛ ومن ذلك قوله مثلاً:
“سنة 1999، نشرت أسبوعية باريسية (إحدى الأسبوعيات الأكثر جدية) ملفاً حول “عباقرة القرن”. كانت اللائحة تضم ثمانية عشر عبقرياً: كوكو شانيل، وماريا كالاس، وسيغموند فرويد، وماري كوري، وإيف سانت لوران، ولكوربوزيي، وألكسندر فليمينغ، وروبيرت أبنهايمر، وروكفيلر، وستانلي كوبريك، وبيل غايت، وبابلو بيكاسو، وفورد، وألبرت إينشتاين، وروبيرت نويس، وإدوارد تيلر، وتوماس إديسون، ومورغان. إذن: لا يوجد روائي واحد ولا شاعر ولا كاتب مسرحي ولا فيلسوف؛ ثمة مهندس واحد ورسام واحد، لكن هناك خياطيْن؛ لا وجود لأي ملحن، وثمة مغنية؛ وسينمائي واحد. فضل صحافيو باريس كوبريك على ايزنستاين وشابلين وبيرغمان. هذه اللائحة لم يُعدّها جاهلون، وهي تعلن، بوضوح كامل، عن تغيير حقيقي: هي تعلن عن العلاقة الجديدة التي أصبحت تقيمها أوربا مع الأدب والفلسفة والفن... تمّت تنحيّة عباقرة الثّقافة دون أي ندم، وبارتيّاح كامل تمّ تفضيل الخيّاط كوكو شانيل عليهم... أوروبا ما عادت محبوبة؛ ما عادت أوروبّا تحبّ نفسها”.