بقلم: فيليب غيتون
ترجمة: أحمد حميدة
من فصوص النصوص التي لم ينقض سحرها عبر تاريخنا المديد، تلك التي تكون قد لامست في العمق البعد الكوني للوجود الإنساني. وأسطورة أهل الكهف لأفلاطون، التي كانت وتظل درة فريدة في تاريخ الفلسفة، هي بلا شك من أبلغ تلك النصوص وأكثرها أصالةً.. وأشدها عمقاً
وردت أسطورة الكهف، في الكتاب السابع من «جمهورية» أفلاطون، وجاءت لتمنحنا تصوراً استعارياً لطبيعة الإنسان وحظوظه من معرفة الحقيقة، تصور تأسس على محاولة تحديد وجهة لوجوده، ولبحثه الدائب من أجل فك لغز كينونته. وقد حاول أفلاطون في هذا السياق وضع ذلك اللغز على محك العقل، واعتبر أنه ينبغي لنا، متى أردنا الخروج من حالة الجهالة، أن ندرك أننا في وضعية وسيطة، وأن حالنا يشبه بالنهاية «حال إنسان يتوهم، وجسده منغمر إلى النصف في عمق البحر، أنه يقيم على سطح الماء، وفيما هو يشاهد الشمس والكواكب الأخرى عبر هذا الماء، يتوهم أن ذلك البحر هو السماء».
عالمان متضادان
إنا لنتوهم بأننا طلقاء، فيما نحن مأسورون في كثافتنا، متخبطون وذاهلون عن حقيقة أنفسنا. فكم نحن بحاجة حينئذ إلى تغيير وجهة نظرنا، والتخفف من عبء بثقل الرصاص، يرهق كاهلنا ويحملنا على طأطأة رؤوسنا. فيما أن نفس تلك القوة التي تجتذبنا إلى الأسفل يمكن أن تنعكس، فتستحيل توقاً إلى العلم الذي قد يزعجنا إلى أعلى مراتب الرفعة والسناء. على أن ذلك التوق لا يغدو ممكناً إلا متى حملنا بين أضلعنا محبة غامرة، تجعلنا أقدر على تحمل ما يفترضه علينا ذلك التغيّر من أعباء، أي أن نفنى عن الأوهام التي تكبلنا، فنستكشف جوهر حقيقة كينونتنا التي لا نزال نجهلها.
حينها، سوف يتملكنا الخوف من أن نضطر إلى وضع كل آراءنا وعقائدنا وأوهامنـا على محك السؤال. وينذرنا أفلاطون هنا بالهلاك الذي قد يطالنا متى تشبثنا بظنوننا وأوهامنا، فيؤكد على أن الخروج من تلك الحالة لا يتم إلا متى سعينا إلى تغيير عاداتنا، وعملنا على غربلة يقينياتنا؛ لذا لا بد لنا من أن نفني عن تلك العادات واليقينيات، وأن ننشأ نشأة أخرى، أي أن نفنى عن واقع معلوم ومحدد، وننبعث لنفتح أعيننا على واقع آخر جديد، ونتعلم في الأثناء كيف ننتقل من الواحد إلى المتعدد، ومن المتعدد إلى الوحدة الكاملة. والحال أن حركة نزول الروح في المادة، كما حركة صعودها نحو موطنها الأصلي، كانت من الأفكار المتجذرة في خيال معاصري أفلاطون ومعيشهم اليومي. وفي تلك الحركة الثنائية تحديداً يتم التصالح بين المرئي واللامرئي، بين الروح الخالدة وجوهرها الأرضي؛ وبفضل تلك الحركة أيضاً، يمكن أن يتم اقتران الروح الأبدية بكياننا الفيزيائي.
فأي أداة تمتلكها الروح كيما تحقق التواصل بين هذين المتضادين؟ من بين تلك الأدوات يشير أفلاطون إلى التناظر، ويعتمد في توضيح دوره على صورة مستقيم، مقسّم إلى مقطعين غير متساويين، يجسد تنامي التناظر بين العالم الحسي الذي تطاله الحواس، والعالم المعقول الذي يستوعبه الفكر. وحين يصعد الفكر وينزل وفق ذلك الخط، يصبح بإمكانه دمج المتضادات دون التغافل عنها. وفي أسطورة الكهف تناول أفلاطون صورة ذلك الخط وبث فيها الحياة.
مكان الولادة.. الرمزي
الكهف، هو حينئذ المعبر بين اللامرئي والمرئي، بين الأبدي وما يكـون ملازماً بصورة حتمية للزمن التاريخي. أما الجدار داخل الكهف، فهو وسيلة حفظ ووقاية، أو متراس يفصل بين حيز داخلي وآخر خارجي؛ ولكنه أيضاً الباب أو معبرُ الاختبار الذي يقود إلى الضياء الخارجي. أسطورة الكهف هي، تبعاً لذلك، تلك الحكاية التي تنبئنا عن أصولنا. ولا يتأتى إدراك سر أبدية الروح إلا متى أقدمنا على تغيير اتجاه أفكارنا وتصوراتنا المكتسبة. فما يكون أساسياً هو ليس ما نكون قد عرفناه، وإنما هو مدى قدرتنا على مغالبة توجساتنا وارتياباتنا، والتخلص من حالة الاختلال التي تترافق دوماً مع اضمحلال فكرة أو معتقد ما، لتصبح لنا رؤية أخرى لذواتنا وللوجود من حولنا. والسعي حتى الآخر داخل وخارج الكهف، هي حركة الذهاب والإياب الثابتة والمتكررة بين عالم العلل أو عالم الجواهر من ناحية، وعالم الحس الذي يغدو فيه بالإمكان تطبيق المعرفة المكتسبة في عالم العلل من ناحية ثانية. وتكون الغاية من ذلك هي إنارة حياتنا وحياة الآخرين على ضوء تلك المعرفة، والتصرف بحكمة، والإقبال على الأعمال الخيّرة التي تمكث وتبقى. وإن نزول الروح الخالدة في عالم الحس هو الذي يجعلها أسيرة في قاع الكهف، ولا تحتفظ بأي ذكرى واعية لطبيعتها الحقيقية وأصلها الرباني. وتتم تلك الولادة الجديدة حسب أفلاطون عبر مراحل أربع.
عن الاعتراف
المرحلة الأولى: التأمل: هكذا تحدث سقراط إلى غلوكون:
سقراط: انظر إلى هؤلاء الناس، الذين اتخذوا من كهف تحت الأرض مقاماً لهم. إنها تلك المغارة ذات المدخل الطويل، التي ينسرب داخلها ضوء النهار. لقد أقام هؤلاء الناس هناك مذ كانوا صغاراً، وكانت أرجلهم وأعناقهم أسيرة أغلال اضطرتهم إلى البقاء ثابتين في نفس المكان، والنظر فحسب إلى ما كان يقع أمامهم، إذ كانت تلك الأغلال تشل حركاتهم وتمنعهم حتى من إدارة رؤوسهم. وقد ظلوا لزمن طويل على تلك الحال لا تصلهم في عزلتهم، غير إضاءة باهتة ترسلها نار محترقة في البعيد تقع وراءهم. وبينهم وتلك النار، طريق ترتفع باتجاه الخارج، أقيم فيه جدار، يشبه الستارة التي يقيمها فنانو الدمى المتحركة بينهم وجمهور المتفرجين، أشبه ما يكون بحجاب يخفي أسرار أعاجيبهم. غلوكون: لكأني أرى ذلك المشهد بوضوح شديد أيها المعلم..
سقراط: لتتأمل أيضاً إلى جانب الجدار، أولئك الناس المارون، الذين يحملون على كواهلهم أشياء مختلفة تتجاوز في ارتفاعها ارتفاع الجدار، ولتمعن النظر في تلك التماثيل البشرية التي يحملون، والتي قدّت من خشب أو من حجارة؛ وكم يبدو من الطبيعي أن نرى بعض هؤلاء الحمالين يمضي متحدثاً، فيما يمضي البعض الآخر صامتاً..
غلوكون: غريبة هي هذه الصورة التي أنت بصدد وصفها.. وغريبون هم هؤلاء الأسرى..
سقراط: إنهم لأشباهنا يا غلوكون. فهل كان بوسع هؤلاء الناس رؤية شيء آخر غير أنفسهم، والظلال التي تعكسها النار، التي من ورائهم على سطح الجدار الواقع قبالتهم؟ وأي شيء آخر كان بوسعهم فعله، وهم المقيدون والملزمون طيلة حياتهم بالإبقاء على رؤوسهم ثابتة؟ أو لا يكون الأمر كذلك بالنسبة للأشياء التي كان ينقلها الحمالون؟
غلوكون: بلى.. إن الأمر لكذلك..
سقراط: ثم.. لو كان بإمكانهم التحدث إلى بعضهم البعض، ألا ترى أنهم سيقرّون بأن ما كانوا يرونه أمامهم هو الحقيقة؟
غلوكون: لا شك في ذلك أيها المعلم..
سقراط: وما الذي قد يحدث لو انبعث من داخل ذلك السجن صدى صوت من الجدار الذي يقع أمامهم؟ والحال أن المارون خلف الجدار كانوا، وهم يتحركون يحدثون أصواتاً كثيرة، فهل سيعتقد أولئك الأسرى أن تلك الأصوات صادرة عن شيء آخر غير تلك الظلال التي كانت تقع قبالتهم؟
غلوكون: كلا.. وعزة روس يا سيدي.. أنا لا أعتقد ذلك..
سقراط: لذلك، سوف يرى مثل هؤلاء الناس أن ما هو حقيقي، لا يعدو كونه ظلال للأشياء التي يحملها أولئك المارون وراء الجدار..
غلوكون: حتماً، سيكون الأمر كذلك يا سيدي..
حينئذ، يكون إدراكنا الأول للحقيقة رهين الظروف التي تحيط بنا. ولن نتحدث عن مقولة «اعرف نفسك بنفسك»، إلا متى أدركنا أننا أسـارى تلك الظروف، ورفضنا القبول بذاك الأسر. وأن نعترف بأننا أسارى أفكارنا وتصوراتنا المكتسبة، فذلك أمر ضروري كيما تزهر بداخلنا محبة الحكمة ونسعى إلى اكتسابها.
ولكهف أفلاطون قاعٌ، وهو بالتالي ليس نفقاً و لا مغارةً تغوص بلا حد في عمـق الأرض. كما أن للكهف جدران داخلية.. متى أحكم غلق مدخلها، أرجعت الصدى. وكما أن كـل تقدم يفترض وجود نقطة بداية، فلا بد من أن يترافق البحث عن الحقيقة مع تعلق شديد بالمعرفة، و بالحـــرية التي قد توفرها لنا. ثم إن وصف أفلاطون لما يقع داخل الكهف، وللأغلال الثقيلة التي كانت تعطل حركات أولئك الأسرى، جاءت لتولد فينا إحساساً بالفقد. حينئذ.. ليست المعرفة هي تلك التي تجعلنـــا نتقدم،
وإنما هي التي تولد لدينا الإحســـاس بالعجــــز، أمام الحاجة الملحة إلى الحركة.
عن المواجهة
المرحلة الثانية: نزال مع النفس
سقراط: لنتخيل الآن، ماذا يمكن أن تكون ردود فعل أولئك الأسرى، لو قمنا بفك أغلالهم وتخليصهم من أضلولتهم. ففي كل مرة سيتم فيها تخليص أحدهم، سيجد هذا الأخير نفسه مرغماً على الوقوف، ليدير رأسه، ويمشي متأملاً في النور الذي من حوله، ولا شك في أنه سيشعر مع كل حركة، يقوم بها بألم شديد ومنهك. كما سينبهر بالنور المنتشر من حوله، فيغدو غير قادر على تمييز الأشياء، التي كان يراها قبل ذلك مجرد ظلال. فما عساه سيجيب لو أخبرناه، أنه كان قبل ذلك لا يرى سوى صوراً وهمية، وأنه قد غدا بعد أن استدار أدنى مما هو موجودٌ حقيقة، وأنه بات يرمق الأشياء على نحو أدق، خصوصاً إذا ما حملناه على تمييز الأشياء التي بات يراها وألزمناه بالإجابة عن هذا السؤال؟ ألا تعتقد بأنه سيصاب بالشرود، ويعتبر أن ما كان يراه قبل أن يدير رأسه.. أكثر واقعية من الأشياء التي تعرض عليه كيما يميزها؟
غلوكون: بلى.. بلى..
سقراط: ثم، ماذا لو حملناه على إدارة رأسه نحو النور المنسرب من الخارج، ألا ترى أنه سيشعر بألم في عينيه، فيسارع بالاستدارة نحو الكهف ليرمق من جديد الأشياء، التي كان قادراً على تمييزها، فيجدها أكثر دقة من تلك التي كانت تعرض عليه؟
غلوكون: بلى.. إن الأمر لكذلك يا سيدي..
سقراط: وماذا لو قمنا بنقلة عنوة من هناك، وجعلناه يصعد المنحدر الصخري الوعر، فلا نتركه قبل أن نكون قد سحبناه تماماً إلى الخارج، حيث نور الشمس الساطع؟ ألا ترى معي أنه سيتأذى من ذلك، وأنه سيبدي ردود فعل ساخطة؟ وحين ستغمره الشمس، وتمتلئ عيناه ببريق نورها الباهر، فهل سيكون بإمكانه، ولو للحظة، رؤية الأشياء التي نراها نحن حقيقية؟
غلوكون: كلا يا سيدي.. لن يكون بوسعه ذلك، على الأقل في اللحظات الأولى..
وهنا، يبدأ نزال مرير مع النفس: فهل نكون مستعدين حقيقة للقبول بالتخلي عن أوهامنا؟ فهذه المرحلة الثانية هي المرحلة التي قد نفقد فيها كل علاماتنا، نفقد ما كنا نعرف وكان يملأنا طمأنينة، ونحن في جوف الكهف. وحين سيبهرنا نور الشمس، تكون تلك هي لحظة الاختبار الكبرى. إن وعينا وسرنا الباطن وحده، هو الذي سوف يسعفنا بالسلاح، ويجعلنا نخرج منتصرين من ذلك النزال. وإن تملَكنا الخوف، فسوف يغذي فينا ذلك رغبة العودة إلى حيث كنا. وحتى لا تنتابنا تلك الرغبة، ينبغي لنا القبول بذلك الاختبار الصعب، والنظر إليه على أنه عبور وولادة جديدة تمنحنا قدر أكبر من الحرية. وبغض النظر عن الإحساس بالبهجة أو بالألم، ينبغي أن نعيش تلك المواجهة كحالة تحرر وانفتاح على حقيقة أكثر إشراقاً وأقرب إلى الحقيقة.
ينبغي لنا حينئذ أن نُقبل على ما هو غامض وملتبس، أي على ما لم نعد نتحكم فيه بعد. وإذا كانت هويتنا مؤسسة على شبه يقينيات أو على حاجتنا الملحة إلى أن نكون على صواب، فإن تحسب العواقب سيجعلنا نرتد إلى الوراء ويمنعنا من المجازفة في تلك الطريق الغفل. ولا بد لنا أثناء ذلك العبور من تقبّل عيوبنا وهشاشتنا، فتكون تلك هي اللحظة التي يتم فيها استدعاء الروح الخالدة، حتى تتحرر من الأسر وتصبح مرشدنا ودليلنا في البحث عن أنوار الحقيقة.
عن الحقيقة
المرحلة الثالثة: ميزان الحقيقة
سقراط: أي نعم، إني لأعتقد أنه سيكون بحاجة إلى أن يتعود على ذلك كيما يرى الأشياء من الأعلى. ففي البداية، تكون الظلال هي التي سيراها بأكثر سهولة؛ بعدها على سطح الماء، سوف يرى صور الناس والأشياء الأخرى المنعكسة فيه، وبعد ذلك سوف يرى تلك الأشياء بعينها. وفي ما بعد قد يغدو أقدر على التأمل ليلاً الأشياء المنتشرة في السماء، ثم السماء ذاتها، ثم وهو يدير عينيه، قد يرى الضياء المنبعث من القمر والكواكب، أكثر من قدرته على رؤية الضياء الساطع للشمس نهاراً..
غلوكون: بالضرورة..
سقراط: بالنتيجة، أعتقد أنه سوف يصبح بعد ذلك أقدر على تمييز الشمس، لا فحسب خيالها المنعكس في الماء، وإنما الشمس ذاتها..
غلوكون: لا شك في ذلك..
سقراط: حينها سيخلُصُ، بعد التفكر في مسألة الشمس، إلى أن الشمس هي التي تنتج الفصول والسنوات، وتؤثِر في كل ما ينتمي إلى العالم المرئي، والذي يكون بشكل ما سبباً في رؤية ما يكون قد شاهده هناك..
غلوكون: إنه لمن الواضح أنه سيعود بعد ذلك إلى هناك..
سقراط: ولكن قل لي يا غلوكون.. ألا تعتقد أنه عند تذكره لمُقامه الأول ولرفاقه في الأسر سيكون سعيداً بذاك التغيّر الطارئ على حياته، فيما قد يبدي أولئك الرفاق تذمرهم من وضعهم الجديد ذاك؟
غلوكون: أي نعم.. لا شك في ذلك..
في طور التسامي.. يكون من الضروري المرور بمراحل من التعوّد، حتى تستأنس العين شيئاً فشيئاً بالضياء. وكما الغواص الذي يتم غوصه في ماء البحر على مراحل، فإن المتشوّف إلى الحكمة يمر بأربع حقائق متتالية، عبرها تتبلور صورة الشمس التي لا تطال، والتي لا يمكن رؤيتها مباشرة، وإلا أصيب الناظر إليها بالعماء. فثمة حينئذ ميزان للحقيقة، خط يصل الكائن بالظاهر، وظل الظل بمصدر النور؛ والفيلسوف هو ذلك المحب للمعرفة المتطلع إلى الحكمة، ولكنه في كل الأحـوال لن يظفر بها تماماً. ثم إن الحقيقة لا يمكن أن نمتلكها كما نمتلك متاعاً دنيوياً، كما أن متسلق الجبال لا يمتلك قمة الجبل الذي يكون قد يتسلقه.
عن التعلّم
المرحلة الرابعة: التربية
سقراط: تكون التربية حينئذ، هي ذلك الفن الذي يساعدنا على تغيير وجهة رؤيتنا للأشياء، ويطلعنا على طريقة إحداث ذلك التغيير على نحو يسير وفعّال؛ فلا تكون غايته بالتالي أن يضاعف لدينا القدرة على الإبصار دون الحرص على تغيير زاوية رؤيتنا للأشياء، فنتعلم بذلك كيف ننظر إلى حيث ينبغي لنا أن ننظر..
غلوكون: كم وجيه هو هذا التصور.. يا معلمي الجليل..
سقراط: لذا.. فإن الفضائل الأخرى التي ندعوها بفضائل الروح، قد تصبح قريبة من تلك التي تكون للجسد، لأنها في الحقيقة لا تكون حاضرة قبل ذلك، فنستحدثها لاحقاً بعادات وتدريبات مختلفة، فيما أن ملكة التفكير على ما يبدو هي ملكة أكثر ربانية، لا تفقد سطوتها أبداً، وقد تغدو حسب تغيّر وجهتها، إما نافعة ومفيدة، أو عقيمة وضارّة. ألم تفكر قبل اليوم في أولئك الذين ينظر إليهم على أنهم أشرار، ألم تلاحظ إلى أي مدى تكون أنفسهم الخسيسة قادرة على تصويب رؤية ثاقبة على الأشياء، إذ هي لا تشكو من قصر النظر، ولكنها تظل مدفوعة إلى ارتكاب أعمال الشر، على نحو يجعلها، كلما غدت رؤيتها إلى الأشياء متقدة، زاد ميلها إلى ارتكاب أعمال الشر.
غلوكون: بلى يا سيدي.. إن الأمر لكما تصف..
سقراط: ومع ذلك، فإن النفس تدفعها طبيعتها الخسيسة إلى حالات الافراط والإقبال على المتع الحسية الزائلة، فتغدو مثقلة بهواجسها، مشدودةً بقوة إلى السفليات؛ فلو تعهدناها بالصقل في وقت مبكر وخلّصناها من أدرانها التي تثقلها، والتفتت نحو ما هو حقيقي، فإن ملكة الإبصار فينا، سوف تغدو أكثر حدة وتوقداً.
يمتلك الإنسان قدرة مدهشة على التعلم، وما من أحد إلا ويمسك بأداة إدراك حسي، تمكنه من التحرر من قيود الجهل المركب فيه. والتعلم هو الذي يطلق الإنسان من سجنه، ويسمح له بإدارة بصره نحو ما هو يقيني. وفي تردد الروح ما بين ظلام الجهل ونور الحكمة، يظل تغيير اتجاه الرؤية أمراً ضرورياً وحتمياً. وذلك الذي يكون قد تخلص من بعض قيوده ومعوقاته، ينبغي له أن يتحمل مسؤولية مرافقة الآخرين وتعليمهم. فنحن لم ننشأ من عدم، وجميعنا تعلم بفضل آبائه وأسلافه. وهذا ما جعل أفلاطون، وهو يترقى في مدارج الحقيقة، يرى أن الظفر بالحقيقة يستلزم دائماً النزول إلى أسفل السلم، مرافقة الآخرين.. ثم الصعود ثانيةً.. وهكذا.. إنه تردد ثابت من القاع إلى القمة، ومن القمة إلى القاع.
إن الوعي بأبدية الروح ليُكتسب عبر تلك الرقصة الحلزونية، التي تتم من الأطراف نحو المركز، ومن أسفل إلى فوق. والوعي بالحقيقة هو أيضاً الوعي بضرورة التكافل بين البشر، وبعمق اللحمة التي تشدهم إلى بعضهم البعض. لذا لا يمكن أن يكون ذلك الوعي نتاج بحث فردي، وإنما حصيلة تشابكٍ لمعيشٍ مشترك، يسمح لكل منا بالتوق إلى ما يكون أمثلَ وأسنَى شيء فيه.