27 سبتمبر 2008 00:22
كان من حديث قيس بن الخطيم أن جده عدي بن عمرو قتله رجل من بني عمرو بن عامر يقال له: مالك، وقتل أباه الخطيم بن عدي رجل من عبد قيس ممن يسكن هجر، وكان قيس يوم قُتل أبوه صبياً صغيراً، وقُتل الخطيم قبل أن يثأر بأبيه عدي، فخشيت أم قيس على ابنها أن يخرج فيطلب بثأر أبيه وجده فيهلك·
فعمدت إلى كومة من تراب عند باب الدار، فوضعت عليها أحجاراً وجعلت تقول لقيس: هذا قبر أبيك وجدك، فكان قيس لا يشك في ذلك·
ونشأ شديد الساعدين، فنازع يوماً فتى من فتيان بن ظفر، فقال له ذلك الفتى: والله لو جعلت شدة ساعديك على قاتل أبيك وجدك لكان خيراً لك من أن تُخرجها عليّ، فقال: ومن قاتل أبي وجدي؟ قال: سل أمك تخبرك·
فأخذ السيف ووضع قائمه على الأرض، وذُبابة بين ثدييه، وقال لأمه: أخبريني من قتل أبي وجدي؟ قالت: ماتا كما يموت الناس، وهذان قبراهما بالفِناء، فقال: والله لتُخبرينني من قتلهما، أو لأتحاملن على هذا السيف حتى يخرج من ظهري! فقالت: أما جدك فقتله رجل من بني عمرو بن عامر بن ربيعة يقال له مالك، وأما أبوك فقتله رجل من عبد قيس ممن يسكن هجر·
فقال: والله لا أنتهي حتى أقتل قاتل أبي وجدي، فقالت: يا بني إن مالكاً قاتل جدك من قوم خِداش بن زهير، ولأبيك عند خِداش نعمة هو لها شاكر، فأته فاستشره في أمرك واستعنه يُعينك·
فخرج قيس من ساعته حتى أتى ناصحه وهو يسقي نخلة، فضرب الجرير بالسيف فقطعه، فسقط الدلو في البئر، وأخذ برأس الجمل فحمل عليه غِرارتين من تمر، وقال: من يكفيني أمر هذه العجوز؟ يعني أمه - فإن مت أنفق عليها من هذا الحائط حتى تموت ثم هُوَ له، وإن عشت فما لي عائد إلي وله منه ما شاء أن يأكل من ثمره؟ فقال رجل من قومه: أنا له، فأعطاه الحائط·
ثم خرج يسأل عن خداش بن زهير حتى دُل عليه بمر الظهران، فسار إلى خبائه فلم يجده، فنزل تحت شجرة يكون تحتها أضيافه، ثم نادى امرأة خِداش: هل من طعام؟ فأطلعت اليه، فإعجبها جمالُه، وكان من أحسن الناس وجهاً، فقالت: والله ما عندنا من نُزلٍ نراضه لك إلا تمراً، فقال: لا أبالي، فأخرجي ما عندك، فأرسلت إليه بقُباع فيه تمر، فأخذ منه تمرة فأكل شِقّها وردّ شِقّها الباقي في القُباع، ثم أمر بالقباع فأدخل على امرأة خداش بن زهير، ثم ذهب لبعض حاجاته·
ورجع خداش فأخبرته امرأته خبر قيس، فقال: هذا رجل مُتحرم وأقبل قيس راجعاً· فلما رأى خداش رجله وهو على بعيره قال لامرأته: هذا ضيفك؟ قالت: نعم، قال: كأن قدمه الخطيم صديقي اليثربي، فلما دنا منه قرع حبل البيت بسنان رمحه، واستأذن، فأذن له خِداش، فدخل إليه، فنسبه فانتسب، وأخبره بالذي جاء له، وسأله أن يُعينه، وأن يشير عليه في أمره، فرحب به خداش، وذكر نعمة أبيه عنده، وقال: إن هذا الأمر ما زلت أتوقعه منذ حين، فأما قاتل جدك فهو ابن عم لي وأنا أعينك عليه، فإذا اجتمعنا في نادينا جلست إلى جانبه وتحدثت معه، فإذا ضربت فخذه فثِب إليه فاقتله·
قال قيس: فأقبلت معه نحوه حتى قمت على رأسه لما جالسه خداش، فحين ضرب فخذه ضربت رأسه بسيف يقال له ذو الخرصين، فثار إلى القوم ليقتلوني، فحال خداش بينهم وبين، وقال: دعوه فإنه والله ما قتل إلا قاتل جده·
ثم دعا خداش بجمل من إبله فركبه، وانطلق مع قيس إلى العبدي الذي قتل أباه، حتى إذا كانا قريباً من هجر، أشار عليه خداش أن ينطلق حتى يسأل عن قاتل أبيه، فإذا دُل عليه قال له: إن لصاً من لصوص قومك عارضني فأخذ مني متاعاً لي· فسألت: من سيد قومه؟ فدُللت عليك، فانطلق حتى تأخذ متاعي منه، فإن اتبعك وحده فستنال ما تريده منه، وإن خرج معك غيره فاضحك، فإن سألك مِمَّ ضحكت؟ فقل: إن الشريف عندنا لا يصنعُ كما صنعت إذا دُعي إلى اللص من قومه، إنما يخرج وحده بسوطه دون سيف، فإذا رآه اللص أعطى كل شيء أخذه، هيبة له، فإن أمر أصحابه بالرجوع فذلك خير لك، وإن أبى إلا أن يمضوا معه فائتني به، فإني أرجو أن تقتله وتقتل أصحابه·
ونزل خِداش تحت ظل شجرة، وخرج قيس حتى أتى العبدي، فقال له: ما أمره خداش فاحفظه، فأمر أصحابه فرجعوا ومضى مع قيس، فلما طلع على خداش، قال له: اختر يا قيس، إما أن أُعينك وإما أن أكفيك، قال: لا أريد واحدة منهما، ولكن إن قتلتني فلا يُفلتنك، ثم ثار إليه فطعنه قيس بالحربة في خاصرته فأنفذها من الجانب الآخر، فمات مكانه·
فلما فرغ منه قال له خِداش: إنا إن قررنا الآن طلبنا قومه، ولكن ادخل بنا مكاناً قريباً من مقتله، فإن قومه لا يظنون أنك قتلته، وأقمت قريباً منه، ولكنهم إذا افتقدوه اقتفوا أثره، فإذا وجدوه خرجوا في طلبنا في كل وجه، فإذا يئسوا رجعوا·
قال: فدخلا دارات من رمال هناك، وفقد العبدي قومه فاقتفوا أثره فوجدوه قتيلاً، فخرجوا يطلبونها في كل وجه ثم رجعوا، فكان من أمرهم ما قال خداش، وأقاما مكانهما أياماً ثم خرجا، حتى أتيا منزل خداش ففارقه عنده قيس بن الخطيم ورجع إلى أهله، ففي ذلك يقول قيس:
تذكر ليلى حسنها وصفاءها
وبانت فما إن يستطيع لقاءها
ومثلك قد أصبيت ليست بكنة
ولا جارة أفضت إليّ خباءها
إذا ما اصطبحت أربعاً خط مئزري
واتبعت دلوي في السماح رشاءها