السبت 19 يوليو 2025 أبوظبي الإمارات 34 °C
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
الأخبار العالمية

صور من سياسات التبشير والتنصير في الجنوب العراقي

27 نوفمبر 2005

د· رسول محمَّد رسول:
يعتقد الكثير من الذين يراقبون المشهد العراقي بعد نيسان عام 2003 بأن الوجود الأميركي في العراق هو ابن اللحظة أو هو من بنات أفكار إدارة الرئيس بوش الإبن! وإذا كان القليل من المتخصصين في السياسات الأميركية بالمنطقة يعتقدون بأن واشنطن وضعت أقدامها بالعراق منذ ثورة تموز عام ،1958 وتطوَّر تدخلها أكثر منذ استيلاء حزب البعث العربي الاشتراكي على السلطة عام 1968 عندما دعمت الأنظمة الجمهورية التي مرَّت على العراق بعد أن كانت واشنطن قد تقاسمت الوصاية على العراق الملكي بالاتفاق أو بالتراضي مع بريطانيا، فإنَّ جذور الوجود الأميركي بالعراق إنما تعود إلى نهاية القرن التاسع عشر، وقبل أن يفكِّر الإنكليز عملياً في احتلال العراق ابتداء من عام ·1914
وكان التدخل الأميركي بالعراق يومها قد استندَ إلى أسلوب ورثه الأميركيون عن الطريقة الاستعمارية الأوروبية التي كانت قد توسَّلت الاستعمار الثقافي والفكري والديني قبل المادي أو الحضاري عن طريق إنشاء الإرساليات التبشيرية والتنصيرية إلى الشرق الإسلامي والعربي·
ومؤخراً، نشر الكاتب البحريني خالد البسَّام كتابه الوثائقي (ثرثرة فوق دجلة: حكايات التبشير المسيحي في العراق 1900 ـ 1935)· تضمَّن الكتاب مجموعة من الوثائق النادرة التي يعود تاريخها إلى بدايات القرن العشرين، وذلك عندما اجتمع عدد من المسيحيين في إحدى كنائس ولاية نيوجرسي الأميركية لتأسيس منظمة تدعى بـ (الإرسالية العربية الأميركية) تهدف إلى تحويل أهالي الخليج والجزيرة العربية إلى المسيحية· أما اختيار الاسم فكان قد هدفَ إلى إزالة أية شكوك من العرب نحو أنشطة التبشير·
كان الدكتور لانسنج، وهو طبيب، قد رأس المجموعة التي تألفت من جيمس كانتين، وصموئيل زويمر، وفيليب فيلبس، لم يأت هؤلاء إلى العراق مباشرة إنما ذهب أحدهم (جيمس كانتين) إلى الشام، ومن ثم إلى مصر ولبنان الذي مكث فيه لبضعة أشهر لكي يتحصَّل على معلومات عن العراق، وليتعرَّف على تجارب الإرساليات التبشيرية والتنصيرية السابقة في المنطقة، خصوصاً في البلدان العربية المذكورة· ومن ثم ذهبت المجموعة إلى بغداد في طريقها إلى البصرة بعد أن أيقنت أن البصرة منطقة هشة وفقيرة يمكن السيطرة عليها، كما أنها بوابة حيوية من الناحية الجغرافية لمد مشروع التنصير إلى دول الخليج العربي·
بدأ الفريق جولاته في البصرة نحو عام ،1891 وشرعوا بالتوافر على تأسيس البنية التحتية لعملهم؛ فبنوا مدرسة ومسكنا ومكتبة ومستوصفا طبيا في مدينة العشَّار، لكنهم في عام 1908 افتتحوا أول مدرسة للإرسالية بالبصرة هي مدرسة الرجاء العالي، وبعد عام افتتحوا مستشفى لانسنج، ومن ثمَّ توسَّعوا في بناء مدرسة بالاسم ذاته للأولاد·
في غضون ذلك لم يكن عملهم مقتصرا على البصرة بل كانوا يطمحون بالوصول إلى العمارة والناصرية، وهذا ما حدث بالفعل، فبين عامي 1895 ـ 1897 أخذوا يتواجدون في هاتين المحافظتين، ويوزِّعون (الكتاب المقدَّس)· ولما كان الأتراك هم حكّام العراق الفعليون؛ فإن عمل هذه الإرسالية اصطدم بالحكومة التركية في بغداد وبقية المحافظات، إلا أن الأتراك يبدو أنهم انثنوا عن الاعتراض ربما لأنهم يعرفون أن مشروع هذه الإرسالية هو مشروع فاشل في ظل الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية المتردية التي كان عليها العراق يومها، بينما كانت الإرسالية تراهن على هذا الفقر بوصفه طريقاً معبَّداً لسياسات تنصير الجنوب العراقي، ومع ذلك ذكر المبشِّر الأميركي هاري وريزم في تقريره الذي نشره في (مجلة الإرسالية الأميركية) بأنه عندما دخل محافظة العمارة عن طريق نهر الفرات صادر الأتراك تسع نسخ من الكتاب المقدَّس·
حنان ··والكتاب المقدَّس
في تقريره الذي رفعه إلى إدارته، وصف المبشِّر (بارني) الأوضاع بالبصرة، لكنه تحدَّث عن تجربة امرأة عراقية تدعى (حنان)، وهي والدة بائع الكتب المسيحي بالبصرة ويسمى (ميشا)··وهي المرأة التي أخذت توزع الكتاب المقدَّس بين الأسر والأفراد، واستنتجت جرّاء عملها هذا بأن أي ناشط في مجال التبشير والتنصير يجد ثلاث درجات من الناس، فهم إما عدائيون، أو غير مبالين، أو مرحبون بوجودها وعملها هذا·
ونقل بارني صورة عن عمل حنان ترتبط أشد ارتباط بطبيعة تلقي المجتمع العراقي في مدن الجنوب لعملها، قال في هذا المجال: كم يبدو العمل بين النساء غريبا عند الناس، فكم مرة قدَّم البعض لـ (حنان) بعض المال بعد مناقشة وقراءة الكتاب المقدَّس، متصورين أنها تقوم بهذا العمل من أجل الحصول على مقابل مادي! هؤلاء الناس الفقراء الطيبون لا يعرفون، بالطبع، أي شيء عن سعادة أرواحهم وخيرها، ولم يكونوا يدركون كيف تأتي امرأة إليهم وتتحدَّث عن الله وكتابه المقدَّس، فقد ظن المساكين أن هذه المرأة لا يمكن أن تأتي إليهم إلا مقابل المال فقط·
بدا وجود هؤلاء المبشِّرين مقلقاً للفقهاء المسلمين في الجنوب العراقي، وبدا أنهم يتابعون وجود المبشِّرين عن كثب ويحثون الناس على عدم الاستجابة لدعوات التنصير والتبشير التي يحملها المبشِّرون الأميركيون إلى العراقيين المسلمين ،وقد ذكر المبشِّر الأميركي (هاري وريزم) الذي نقل مشاهداته عن رحلته إلى الجنوب العراقي عام 1901 نتيجة ضغوط الفقهاء على المسلمين العراقيين بضرورة العمل على رفض دعوات التبشير والتنصير، بل وتمزيق الكتاب المقدَّس عندما يتم الشروع بتوزيعه على الناس·
فعند وصول وريزم إلى مدينة الكوت والشطرة عن طريق نهر الفرات قام نفر من الناس بتمزيق الكتاب المقدَّس ونثر أوراقه في الهواء الطلق، والأكثر من ذلك قال أحد العراقيين مخاطباً وريزم متسائلاً: لماذا تأتون إلى هنا ومعكم كتبكم؟ نحن لا نريدها، ومحاولتكم المستمرة تشبه منْ يحاول سحب حجر البئر بواسطة الحبل!! لكن بارني ذكر في تقريره الذي رفعه إلى إدارته في أكتوبر 1901 بأن الإرسالية كانت قد باعت نسخاً من الكتاب المقدَّس بعدد فاق ما باعته في العام الماضي بنسبة 17 % حتى وصل عدد المبيعات خلال ثلاث سنوات نحو 1740 نسخة منذ بداية عمل الإرسالية في العراق·
مبشِّرات أيضا··
لقد دفعت الإرسالية الأميركية إلى العراق مبشِّرات وليس مبشِّرين أيضاً، ومن ذلك المبشِّرة (وورال) التي عملت في مستوصف البصرة، والتي كشفت في تقريرها بأن عددا من النساء البصريات أخذن يستمعن إلى الكتاب المقدَّس والى المواعظ التي تتحدث عنها وورال أمامهن وزميلتها ميلر، بيد أن وورال أشارت كثيرا بأن الجهل هو سيد الموقف بين النساء البصريات والجنوبيات في العراق، وان المرأة الوحيدة التي كانت تقرأ هي من تسمى بـ (المُلاية)، وهي امرأة تحفظ بعض الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، وسيرة آل الرسول الكريم (ص)، وبعض أناشيد النعي على الموتى المعروفة في العراق، في حين تمكن العنصر النسوي في الإرسالية من جمع عدد من النساء المسيحيات والمسلمات المتنصرات في محاضرات يومية وصلوات أسبوعية لكن العناصر الذكورية من المسلمين كانوا يعيقون تواصلهن معنا·
لقد كان العنصر التبشيري النسوي في الإرسالية قد تواصل في تطوّر ملحوظ حتى وصل الأمر إلى أن ترأست بعض المبشِّرات الأميركيات إدارة المدارس، والمدارس هي مؤسسات تعليمية لها أثرها الكبير في تعليم النشء· وفي هذا السياق، كتبت المبشِّرة الأميركية (سوانتينا دي يونغ) مقالا بمجلة الإرسالية الأميركية في نيسان (ابريل) 1929 شكت فيه من المعارضة القوية التي تبديها الحكومة العراقية (الحكومة الملكية) لفتح أية مدرسة إرسالية، يوم كانت يونغ مديرة (مدرسة البصرة للبنات) التابعة للإرسالية الأميركية في العراق، وفرضت تدريس الإنجيل في المناهج بمقدار نصف ساعة يوميا· إلى جانب ذلك كتبت المبشِّرة الأميركية (دبري توماس) التي كانت مديرة مدرسة الإرسالية الأميركية للبنات في بغداد عام 1934 تقريرا عن عملها في تلك المدرسة قائلة: لعلَّ من المثير للاهتمام رؤية تفاعل المعلمين الجدد في المدرسة؛ فلدينا الآن مجموعة معلمين سوريين وهم مسيحيون بالطبع، وعندما جاء هؤلاء لأول مرَّة فوجئوا كثيراً عندما وجدوا أن ثلث تلميذاتنا في المدرسة هنَّ من عوائل غير مسيحية، إلا أنهنَّ متفاعلات جداً مع الرسالة النصرانية والتعاليم المسيحية· كما يستغرب الكثير من المعلمين الجُدد من تجاوب الطالبات، غير العادي، مع دروس الكتاب المقدَّس وغيره·
المقاهي··وحوار الأديان
ثمة صعوبات عديدة كان المبشِّرون المسيحيون الأميركيون يواجهونها، ففي عام 1903 كتب المبشِّر (جيمس موردياك) قائلا: بين جميع الذين كنا ندخل في مناقشات معهم بمحافظة الناصرية في المسائل الدينية كان الموظفون هم الأكثر تثبيطا للهمة، والأكثر إحباطاً لنا؛ فهم مثلاً لا يعترفون بأن دروس المسيح الموجودة في الكتاب المقدَّس على أنها الحقيقة الوحيدة! ولكن موردياك كشف عن مشهد الجذب الذي يمارسه التبشير في الناصرية فقال: في شهر يونيو زار محلنا في الناصرية 29 مسيحيا و 387 مسلما و193 يهوديا و19 صابئيا، ودارت معهم جميعا مناقشات وأسئلة وأجوبة حول المسيحية وقضاياها·
وعن التبشير في بغداد كشف المبشِّر (مارتين) في رسالة له كتبها عام 1911 عن أن التبشير كان قد بدأ منذ قرابة ثلاثين عاما، لكن تلك البعثة تعاني اليوم من موت وتقاعد المبشِّرين الذين جاؤوا إليها·
أما عن الموصل فقد أكد مارتين على أن عمل الإرسالية فيها تم استئنافه قبل إحدى عشرة سنة بعد رحيل أعضاء الكنائس الحرة الأميركية عنها، ويشمل عمل الإرسالية اليوم بعثة طبية ومدارس للأولاد والبنات ،ومن جهته كشف المبشِّر أدوين كاليفري أثناء تواجده في محافظة العمارة عن وجود 600 شخص من الكاثوليك الكلدانيين والأميركان واللاتين· وذكر أن الوجود التبشيري الاستطلاعي في العمارة كان قد بدأ عام ،1892 وفي عام 1895 تم إنشاء مكتبة في المدينة، وبعد عام غادر موزع الكتب فيها بسبب القبض عليه أثناء الصلاة، وفي عام 1903 تم إحراق المكتبة ودمرت بالكامل، وكانت يومها تحتوي على 400 نسخة من الكتاب المقدَّس· وكشف كاليفري عن أن أحد المتنصرين العراقيين في العمارة تم طرده من المدينة مع عائلته التي اضطرت للسفر والعيش كلاجئين عند الإرسالية في البحرين، وهناك تم تعميد الأطفال وعاشوا في البحرين كمعتنقين للمسيحية حتى وفاتهم· بينما كان أحد العراقيين المتنصرين قد تعرض إلى الضرب والاتهام بالكفر لأنه اعتنق المسيحية·
من جهته، كشف المبشِّر (آلبرت أدوارس)، الذي كان ناشطا في مدينة الحلة وسط العراق عام ،1926 عن تجربته في التبشير، فبرغم مضايقة فقهاء الدين لمشروعه كان يبيع الكتاب المقدَّس وبعض الكراسات الدينية على الناس في شوارع الحلة، لكنه تنبه إلى أهمية المقاهي في حياة العراقيين، فهو، وعلى حدِّ تعبيره، يعتقد أن المقهى يؤدي وظيفة هامة في حياة العرب، وخصوصا في العراق· وذكر أدوارس أنه من بين الكثير من المقاهي التي زرناها في المدينة لم يتم رفض جلوسنا سوى في مقهىً واحد فقط· وتساءل أدوارس عن النتائج التي حصلنا عليها من هذا النوع من العمل؟ وأجاب بأن البذور قد نمت في جميع أنحاء مدينة الحلة· كما أن أكثر من عشرين ألف كتاب وكراسة تم توزيعها، والكثيرون عرفوا عن دعوة السيد المسيح، وماذا يريد من الناس أن يفعلوا في حياتهم·
ومن جهته أيضا قال المبشِّر (ج· سي· غليسييز) في عام 1931 أنه خلال شهر آذار (مارس) من العام ذاته قد أغلقت مكتبة التبشيريين في كركوك ما أدى إلى رحيله وزملائه إلى مناطق كردية بحثا عن أجواء يمكن لهم التبشير فيها· ووجدوا في مدن الشمال العراقي بعض المناطق ذات التعصب الديني بينما وجدوا بعض الناس منفتحين على الرسالة التبشيرية رغم أن قسما غالبا من الأكراد لم يسمعوا من ذي قبل عن السيد المسيح· وإذا كان عدد من المبشِّرين قد تحدَّث عن وجود سوريين مسيحيين شاركوا في برامج التبشير في العراق فإن المبشِّر (جون بادو) ذكر في عام 1935 حادثة كان فيها أحد السوريين الذين ظهروا في البصرة فجأة قد تسبب في مشكلة لأحد بائعي الكتب الإنجيلية وهو (قد هوري) والذي اتهم بالكفر وازدراء الدين الإسلامي، وذكر بادو أن القاضي في تلك المشكلة كان الشاعر الليبرالي العراقي (جميل صدقي الزهاوي) الذي تسلَّم (القضاء) في البصرة خلال تلك الفترة، ولأنه صاحب ثقافة ليبرالية فإنه أغلق القضية برمتها·
المصدر: 0
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2025©
نحن نستخدم "ملفات تعريف الارتباط" لنمنحك افضل تجربة مستخدم ممكنة. "انقر هنا" لمعرفة المزيد حول كيفية استخدامها
قبول رفض