الجمعة 22 نوفمبر 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

الاستشراق المعكوس

الاستشراق المعكوس
4 يوليو 2019 00:28

يبدو أن الأكاديمية العربية ليس لديها أدنى استعداد لاستعجال النقاشات المفاهيمية حول فكرة أدب المَهَاجِر في عصر تجاوز، بقسوة، فكرة الانتقال في المكان. صحيح أن الفكرة لم يتبق منها سوى القيمة التاريخية بعد أن أصبح عصر الإلكترونيات الجديدة، بتعبير إدوارد سعيد، يمثل ما هو أخطر من الحقبة الكولونيالية وصراعاتها ضد الثقافات المستقبـِـلة، ما يؤذن بتصاعد التناقضات المركّبة بين المراكز والأطراف.

لا أظن أن ثمة تصوراً طرحته أدبياتنا الحديثة حول الَمهاجر باعتبارها استشراقاً معكوساً، وإن كان يعاني كل أمراض الثقافات التابعة. فكما لم يكن الاستشراق خيراً كله لم يكن أدب المهاجر خيراً كله، وهذا بطبيعة الحال لا ينفي امتيازات هذا الصراع في المعرفة غير النمطية التي أعادت بناء صورة الآخر عقب ما يزيد على أربعة قرون من الحروب الدينية. على أن تلك المعرفة، بكل أسف، تمت عبر الأنساق المعرفية التي كُتب لها الانتصار، ربما لأننا لم نعترف في أية لحظة، أننا بحاجة إلى لغة تقنية تجاوز اللغة التي ارتبطت بالمدونة الفقهية. ويمكن للمرء أن يستلقى يلاحظ ذلك إذا ما طالع المرادفات التي اضطر الشيخ رفاعة الطهطاوي (1801- 1873) إلى استخدامها عندما تصدى لأول ترجمة للدستور الفرنسي، حيث كان مضطراً لمرادفة كلمة الدستور بكلمة الشريعة، ووزارة المالية ببيت المال، ومصلحة الضرائب بالمحتسب، كما كان مضطراً لاستعارة قاموس العلوم العربية القديمة ليرادفها بالعلوم الحديثة، فيرادف الميكانيكا بالحِيَل، والتاريخ الطبيعي بعلم التولُّدات، والفلك والرياضيات بعلم الهيئة.

وفي المقابل لم يكن أحد أهم كتّاب وشعراء النهضة العربية أحمد فارس الشدياق (1804-1887) بعد عودته إلى مصر، أكثر من «سلفي صغير»! حسب تعبير لويس عوض، لاسيما في دفاعه المستمر عن الخلافة العثمانية، في الوقت الذي أصدر فيه جريدة «الجوائب» عام 1862 لتأييد سياسة الباب العالي، ولم يكن مدهشاً بعد ذلك أن يقف في الخندق المعادي للثورة العرابية وينحاز إلى جانب الخديوي توفيق، ويظل، بمعنى ما، أحد أكبر مناهضي الحرية.

«المشيخية» الزائفة
ويمكن للمرء أيضاً، بعد ما يقارب مئتي عام على تعاظم تلك «المشيخية» الزائفة التي أُطلق عليها أدب المهاجر، أن يعتد بتأثيرات أسماء لم يحتسبها التاريخ ضمن هذه التلفيقية، بينما كان تأثيرها أكثر جذرية على الأدب والفكر العربيين. وربما لم يتعرض فكر النهضة العربية بأي معنى، للأسقف المعرفية التي سمحت بها الثقافة الغازية، ولعل استعراض قطاع تاريخي عابر لتلك العلاقة يكشف لنا تلك الأسقف الواطئة التي عمل تحت سطوتها أدب المهاجر في مقابل المعرفة الغائرة التي استطاع الاستشراق أن يحصلها في الشرق، ولعل أبرز نماذجها أنتج لنا مؤلفات مؤثرة حتى أيامنا مثل تلك الأعمال التي قدمها: أرنست رينان، جولد تسيهر، توماس إدوارد لورنس، جيرترود بل، عبدالله فيليبي، جون باجوت جلوب وغيرهم، بغض النظر عن مواقف بعضهم المعادية أو المداجية للحضارة العربية.

ويذكر روبرت كابلان صاحب كتاب «الحملة الأميركية/‏‏ مستعربون وسفراء ورحالة» أن الخارجية الأميركية عاقبت سفيرها في اليمن بالطرد في خمسينيات القرن الماضي بسبب تصريحه، ذات سهرة دبلوماسية، بأن حياة المسلمين وحضارتهم ستكون قوة ذات شأن في القرن القادم. وينقل كابلان عن فرانسيس فوكوياما، أحد أهم مخططي السياسة الأميركية، موقفه المعادي للاستشراق الذي اقترب إيجابياً من الشرق، حيث يقول إن المستعربين يشكلون ظاهرة سوسيولوجية، وقد ظلوا نخبة داخل النخبة «المخطئة» على طول الخط، ذلك لأنهم لم يتبنوا قضية العرب فحسب، بل وتبنوا أيضاً نزوع العرب إلى خداع الذات!
ولعل التعليق الساخر الذي أطلقه الروائي النيجيري «تشينو أتشيبي» يكون دالاً على تلك المفارقة التي تعزز إقصاء كل أدب يتم إنتاجه خارج المراكز المهيمنة، حيث يقول: إن النقد الغربي يتهم الأدب الأفريقي بأنه يفتقر إلى الكونية كأنه خارج نطاق الكوكب، وهنا يتساءل إدوارد سعيد في استرسال أكثر سخرية: وهل خطر ببال أحد هؤلاء الكونيين أن يجرب لعبة تغيير الأسماء في رواية أميركية لـ«فيليب روث» مثلاً أو جون أبدايك، ثم إقحام أسماء أفريقية بديلاً عنها لمجرد أن نرى كيف تكون النتيجة؟!
وعندما حاول الدكتور عبدالرحمن بدوي تقديم تفسير لرفض الشاعر النمساوي راينر ماريا ريلكه (1875- 1926) زيارة اليونان مفضلاً عليها زيارة مصر عام 1911، سنكتشف أن النقد الألماني لم يعر الأمر كله أي انتباه، فقط، لأن ريلكه لم يمض على رِسْلِ جوته أو هولدرلين ولم يكن مفتوناً، بحال، بالأبنية البرهانية التي ضجت بها الحضارة اليونانية، فريلكه، فيما يبدو، لابد أن يُعاقَب لأنه لم يكن باستطاعته أن يقيم الصلاة عند الأكروبول وعند سفح الهرم في آن، على حد تعبيره. وإذا كان ريلكه لم يخضع لسلطان أكثر الرموز سطوة ومهابة في تاريخ الحضارة الآثينية العتيقة، مقابل خضوعه لسحرية الشرق التي لم تزل مختومة بالأسئلة، فلم يكن يعني ذلك، عكس ما يرى بدوي، إلا نوعاً من استعراض القوة التي عقدها رعاة الاستشراق على رسائل ريلكه من مصر.

والمعنى هنا أن خضوع ريلكه لم يكن لنسق معرفي بقدر ما كان خضوعاً لنمط غرائبي. وثمة تجاهل، يصل حد التعمد، للوجه الآخر لريلكه الذي قال في إحدى رسائله لزوجته كلارا: إن «آلهة» مصر تتكاثر ويتضاءل سلطانها، والحضارة حينما تبدأ في الذبول تستكثر من الآلهة، ومن ثم تستكثر من الحكام، وهو ما يراه الدكتور بدوي من أجلَىَ علامات الذبول والانحلال، رغم أنه أيضاً من أجلى آيات التعدد الذي لم تعرفه «الآلهة» الغربية في أية لحظة من تاريخها. فالآلهة الغربية عرفت التعاقب، لكنها لم تعرف التناظر كما حدث في الشرق. ورغم نجاعة الملاحظة التي أبداها ريلكه، فإنها تعكس تصورات المركزية الأوروبية عن الشرق الذي لم يكن يعني لدى الغرب سوى تلك الغرائبية التي مثلت، فيما بعد، أهم المسارح لاستعراض القوة.

أطياف شبحية
فكيف أصبح العقل الأوروأميركي مهْجراً ملائماً؟! ومتى كان المنتج المهجري محط اهتمام الثقافة التي أُنتج في ظلالها؟ وما هي حدود التلاقح التي حدثت بين هذا المنتج ونظيره من أدب الموطن؟
أغلب الظن أننا نتحدث عن أطياف شبحية لأسئلة تبدو محرمة. فالمؤكد أن هذا المهجر لم يكن هو التركة الوحيدة التي أصابها الأدب العربي من تلك المركزية، وأظن أن الإسراف الذي نسمعه عن منجز شعراء المهاجر يحتاج إلى الكثير من إعادة النظر، ولاسيما أن بعض مبعوثي الثقافة العربية كانوا أكثر تأثيراً ممن أقاموا لعشرات السنين في مهاجر لم يصيبوا منها إلا الركاكة وأخطاء اللغة. ولو أعدنا النظر فيما يمثله منجز رفاعة الطهاوي، وأحمد فارس الشدياق، اللذين اقتصرت مهاجرهما على سنوات معدودة، سنجد أن تأثيرهما دفع الثقافة العربية كلها لإعادة النظر في مواقعها.
ولعل أقسى تلك التعبيرات صدرت عن المفكر محمد أركون الذي قضى جل حياته في الغرب، لاسيما عبر إشارته في كتاب «تاريخية الفكر الإسلامي» عندما يقول إن منح شهادات الدكتوراه بسهولة لبعض الطلاب العرب في فرنسا وفي غيرها من بلدان الغرب، يتخذ طابعاً احتقارياً لهؤلاء الطلاب ولبلدانهم بالذات، ويرى أن المعنى العميق للأمر كله هو رسالة مفادها «ألا تحاولوا أن تفهموا شيئاً مُهماً، فالقليل يكفيكم ويكفي بلدانكم المتخلفة»!
صحيح أن العدائية التي شنها مفكرون قوميون بشكل ما ضد المركزية الغربية لم تكن كلها صائبة على ما رأينا لدى أنور عبدالملك وإدوارد سعيد وهشام جعيط، ولكنها في النهاية كانت تحمل تصويباً لتصورات مترهّلة تواترت مع ما سمي بأدب المهاجر، خلاصتها أن السبق الذي أحرزه المهاجرون المتأدبون ارتبط بالضرورة بمعارفهم في الحضارات التي عاشوا في كنفها، وهو أمر لم يقم عليه أدنى دليل. الدليل الوحيد كتبه مبعوثون اهتموا بالنسق المعرفي جملة. فالإبداع عموماً يمثل أجلى التعبيرات الروحية عن فكرة الحرية التي هي بدورها جزء من مشروع نهضوي جذري. وقد أشار جورج صيدح المهاجر لثلاثين عاماً، في كتابه «أدباؤنا في المهاجر الأميركية» الصادر في القاهرة عام 1956 أن «أدب المهاجرين رسالة عربية لم يلصق بها الغرب إلا طابع البريد، وأنه ليس ثمرة الانتقال إلى المحيط الأميركي ولا هو وليد أدب الغرب لأن أكثر هؤلاء المهاجرين لم يقرأه، بل تأثروا بأدب موطنهم الوافد عبر العديد من المجلات». ويختتم صيدح كلامه بأن هؤلاء لو كانوا قد عاشوا في مواطنهم لأنتجوا أدباً أروع مما أنتجوه في المهجر الأميركي.

منابع التأثير
وهذا هو المعنى الذي يؤكده مثقف ومبدع كبير من بينهم هو ميخائيل نعيمة عندما يقول: «إن أدباء المهجر، بما فيهم أعضاء الرابطة القلمية، لم يكونوا من ذوي الثقافات العميقة، ولم تهيئهم المدارس في وطنهم للمركز الممتاز الذي شغلوه في عالم الأدب، ولا البيئة الأجنبية أثرت فيهم ذلك التأثير الذي يتوهمه المقيمون».
ومن هنا ظلت بعض الأسماء التي أنتجت ضمن أدب الموطن أكثر أهمية من أسماء شغلت الدنيا ولم يكن منجزها أكثر من أثر رومانسي باهت، بينما لم تصب منها الثقافة العربية سوى الركاكة والأخطاء الإملائية والمزيد من الانسحاق أمام الثقافة المنتصرة. فقد عاش كثير من هؤلاء في منافيهم الاختيارية لا يعرفون إلا النزر اليسير من الثقافات التي عاشوا في كنفها. ومن هنا نستطيع القول إن تأثير علي محمود طه، وإبراهيم ناجي، وبدر الديب، وتوفيق صايغ، وأنسي الحاج، وأدونيس، وشوقي أبي شقرا على الشعر العربي كان أكثر جذرية من تأثيرات أدب المهاجر، كما كانت روايات مثل «قنديل أم هاشم» ليحيى حقي، و«عصفور من الشرق» لتوفيق الحكيم، و«موسم الهجرة إلى الشمال» للطيب صالح، كاشفة كلها لتناقضات الصراع المركزي مع الثقافة المهيمنة، وهو صراع لم يكن قيد الإدراك لدى رعيل من متأدبي المهاجر الذين خرجوا بحثاً عن حياة أكثر رغداً أو هرباً من تأثيرات الصراعات الإثنية والمذهبية.

أدب الَمهاجر ومسارب الاستشراق
ولعل المقدمة التي كتبها العقاد وتصدرت كتاب «الغربال» لميخائل نعيمة تكشف عن تلك العلاقة التي ربطت بين نعيمة ومدرسة الديوان، حيث كان مؤازراً لثورة المازني والعقاد على إمارة الشعر التي مثلها آنذاك أحمد شوقي، وقد عبر نعيمة عن ذلك في كتابه قائلاً: «ألا بارك الله في مصر، فما كل ما تنثره ثرثرة، ولا كل ما تنظمه بهرجة. وقد كنت أحسبها وثنية تعبد زخرف الكلام وتؤله رصف القوافي، فكم زمرت لبهلوان وطبلت لمشعوذ وطيبت لسكران غير أني عرفت اليوم بالحس ما كنت أعرفه بالرجاء».
إن المتأمل لصورة أدب المهاجر وتجلياته في الأدب العربي، مقارنة بالمسارب التي اقتحمها الاستشراق، سيتأكد من الفوارق الجوهرية بين العقلين العربي والغربي، ويكفينا أن نعيد على أنفسنا سؤالاً محرجاً رغم تكراريته: لمَ إذن وقف الاستشراق خلف الكشف عن أهم المخطوطات العربية؟ بما فيها المدونة العربية الأهم «ألف ليلة وليلة»؟ فماهي إذن الكشوفات التي عكف عليها أدب المهاجر؟!
إن هذا النوع من الأسئلة ربما بدا نوعاً من الترمل الذي لم تعرفه سوى الإمبراطوريات المندثرة، رغم أننا إذا ما تأملنا تاريخ الأدب في الحضارتين العباسية والأموية، امتداداً إلى النهضة العربية في القرن العشرين، سنجد أنه خلّف لنا تراثاً يقف على قدم المساواة، إلى جانب دانتي وشكسبير وتشارلز ديكنز، والأمر نفسه ينطبق على المعرفة العربية التي أحصاها عبدالرحمن بدوي في كتابه «دور العرب في تكوين الفكر الأوروبي». فإلى أي حد ساهم أدب المهاجر في هذه التحولات النوعية؟!

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©