يُعد ابن حزم بلا منازع أهم كاتب في الأدب النثري العربي بالقرن الخامس الهجري، ومن أبرز أعلام الأدب في الأندلس، وقد أهله عمله وسعة أفقه وتطويره للمذهب الظاهري لكي يتبوأ بحق مكانة المجدد في المئوية الرابعة للهجرة ، على حد قول عبد المتعال الصعيدي في كتابه '' المجددون في الإسلام''· فهو أديب الفقهاء الذي ألف اشهر كتب عن الحب : ''طوق الحمامة''
ولم يعرف تاريخ الفقه من قبله رجلاً تعددت مواهبه إلى الحد الذي كانت أشعاره ونثره تفيض عذوبة ورقة وصراحة، وفي الوقت نفسه كان يجادل فقهاء عصره بمثل هذه الحّدة في العنف والصرامة!
اجتمعت فيه صفات متناقضة كما يقول الذهبي في ''سيرة أعلام النبلاء''، ومنها لين الطبع، وسعة الأفق، وعذوبة النفس، مع التشدد والتضييق وسرعة الانفعال والتعصب لكل ما يعتقد أنه حق، ورفض ما عداه· فهو يناقش كل وجوه النظر في المسائل حتى إذا اطمأن إلى رأي· أدان كل مخالفيه بلا رحمة، وسخر منهم وكال لهم الاتهامات لا يراعي لهم فضلاً ولا وقاراً!· ومن أجل ذلك أحبه بعض الناس وتحديداً البسطاء منهم حتى تحدوا به حكام عصره، وكرهه آخرون حتى أهدروا فيه تعاليم الدين ومبادئ الأخلاق إذ أغروا به السلطان فدخل السجن أكثر من مرة·
عاش ابن حزم في عهد تدهور الحكم الإسلامي بالأندلس، وتراجع العقل المسلم، فبعد أن أبدع العديد من المنارات الفكرية، هجر تقاليده الإسلامية في البحث والمغامرة واكتشاف المجهول، وإغناء الحياة بالإضافات، ليسقط في الجمود والتقليد!· وخلال هذا التحول كانت الفضائل تتهاوى وقيم الإسلام تترنح والباطل يغشي وجه الحياة!·
ويروي عبد المتعال الصعيدي، وفي هذا الجو ولد ابن حزم عام 384 هجرية، وكان أبوه وزيراً للحاجب المنصور، وكان هو نفسه وزيراً للخليفة الأموي عبد الرحمن الخامس، وقد تفتحت عينا الصبي على مجال الترف ومسارح المتاع ومغاني الجمال مما أثر عليه التأثير الكبير في بداية حياته التي شغلها بالأدب والعمل بالسياسة·
بدأ حياته الأدبية شاعراً ثم تحول إلى النثر فكتب في الحب والتاريخ والدين المقارن والفقه·
أما شعره ومعظمه في الغزل فقد أثر تأثيراً عميقاً في أناشيد التروبادور البروفنساليين وأغاني الحرمان الغرامية بالأندلس، وقد أورد الكثير من قصائده في كتابه النثري ''طوق الحمامة'' والذي هو أحب كتب التراث العربي إلى الغربيين، ولا يكاد يفوقه شعبية عندهم سوى كتاب ''ألف ليلة وليلة ''·
وقد ترسم ابن حزم في كتابه هذا الذي يحل فيه عاطفة الحب خطا ابن داود في كتابه '' الزهرة '' وإن فاقه فوقاً عظيماً·
وثمة حقيقة يؤكد عليها الإمام شمس الدين الذهبي في ''سير أعلام النبلاء''، هي إن كان ابن داود قد أورد عدداً من الملاحظات النفسية عن الحب والمحبين، فإن تحليله للهوى ضحل وغير عميق وغير مرتب· أما ابن حزم، فيعالج الموضوع بطريقة منهجية منظمة، إذ يذكر أسباب نشوء العاطفة، ثم يستطرد إلى ذكر صفقاتها الحميدة والذميمة فتحليل السلوك النفسي للعاشقين ثم الآفات التي تطرأ على العاطفة ونكبات الحب·
يقول الصعيدي، إنه من الغريب حقاً أن يكون صاحب هذا الكتاب في العشق، هو نفسه ذلك الفقيه العالم الذي ينتسب إلى مذهب من أشد المذاهب الفقهية الإسلامية تعصباً وهو المذهب '' الظاهري '' والذي كرس معظم نشاطه الأدبي للهجوم الشديد على مناوئيه من الفقهاء·
وقد كان من بين ما ألفه في الشطر الثاني من حياته كتاب عن الأديان المقارنة لم يسبق إلى مثله أحد في البيئتين العربية والأجنبية في عصره، وهو·· '' كتاب الفصل في الملل والأهواء والنحل '' والذي عرض فيه لمختلف الفرق الإسلامية، وللديانتين اليهودية والمسيحية وغيرهما· وقد سهل على ابن حزم إعداد دراسته الدقيقة على تلك الديانات الأخرى مما عرف عن العرب الفاتحين من حلم وتسامح·
غير أن كتاب ابن حزم بمثابة أول مؤلف نقدي منظم عن ديانات البشر ومختلف طوائفهم ومذاهبهم· فإن كان يعيبه التعصب وبعض الحّدة واتسام الهدف والأسلوب الجدلي الذي قد تخرج أحياناً عن الموضوعية، فقد ألهم الكتاب مؤلفات بعده في الموضوع ذاته أشهرها كتاب '' الملّل والنّحل '' للشهرستاني الذي عاش في أواخر القرن السادس الهجري·
كما يؤكد الصعيدي أن ابن حزم ظل يدرس العلوم الدينية واللغوية والعلوم الإنسانية، كما درس الكتب المترجمة في الفلسفة والأدب والتاريخ والخطابة والفلك وقد درس العلوم الدينية على مذهب الإمام مالك، وكان هو المذهب الرسمي للدولة فقد كان الأمويون لا يعينون قضاة أو يسمحون لفقيه أوعالم بالفتيا أو إلقاء الدروس إن لم يكن من أتباع الإمام مالك· ولم يسمحوا لمذهب غيره بالتواجد في الأندلس كما فرض العباسيون بالمشرق مذهب الإمام أبي حنيفة· ولذا قال ابن حزم·· '' مذهبان انتشرا بقوة السلطان، مذهب أبي حنيفة النعمان بالمشرق، ومذهب مالك بالمغرب ''·
ونظراً لشيوع حالة الاضطراب في الأندلس، التي أذنت لبدء مرحلة التدهور والانهيار السريع للحكم الإسلامي فيه فيما بعد، فقد عكف ابن حزم على دراسة كل ما بين يديه من آثار في الدين والفكر، وكل معطيات العقل الإنساني·
يلفت الصعيدي الانتباه، إلى أنه وأثناء انقطاعه لدراسة الفقه، أعجب بمذهب الشافعي، فمال إليه ولكنه لم يتقيد به، فقد أعجبه فيه تمسكه بالنصوص من القرآن والسُنّة وعزوفه عن تقليد من سبقه، واستنباط الأحكام من النصوص، واعتباره الفقه هو النص أو الحمل على النص· '' استخراج الحكم من النص أو القياس عليه ''·
غير أنه لم يلبث أن هجر القياس ووجد ما قاله الشافعي في رفض الاستحسان يصلح حجة لرفض القياس، وأنه لا حكم فيما تضمنته نصوص القرآن والسُنّة وإجماع الصحابة إجماعاً لا يتخلف عليه واحد منهم رضي الله عنهم أجمعين· وقد عاتبه بعض الأصدقاء في موقفه المتحامل على المذهب المالكي، فقال لهم إن الإخلاص للإسلام هو الذي دفعه إلى أن يترك المذهب·
وما يبالي هو ما يكون من أمر ما دام الإخلاص للإسلام هو رائده فيما يأخذ وما يدع من الأمور· وروي لهم أن النبي عيسى سأله أحد حوارييه ما هو الإخلاص ومن المخلص فقال عليه السلام·· '' المخلص من إذا عمل خيراً لا يهمه أن يحمده الناس ''·
ويضيف الصعيدي· لذا نراه سريعاً ما ينقلب على الشافعي، لصالح المذهب الظاهري الذي كان قد نادي به من قبل في بغداد داود الأصبهاني، وهو القائل في تفسيره لمذهبه· '' إن الشريعة لا رأي فيها ولا اجتهاد، فهي نصوص، ولا علم في الإسلام إلا من نص ''·
وكان لتلك المقولة الأثر الكبير في نفس ابن حزم، واتفق معه وخالف هو الآخر الشافعي، وأعلن خلافه هذا على الملأ، لما قيل له خالفت الشافعي بعدما أحببته وأعجبت به، فاستشهد بقول الشافعي نفسه حينما عوتب على خلافه مع الإمام مالك وهو شيخه ومعلمه بقوله·· '' أقول في هذا ما قاله أرسطو حين خالف أفلاطون: أفلاطون أستاذي وأنا أحبه ولكن الحقيقة أحب إلّي من أفلاطون ''·
ولذا عكف على تطوير المذهب الظاهري الذي تضمن منهجه في الاعتماد على النصوص من القرآن والسُنّة وإجماع الصحابة في استنباط الأحكام والتجديد الفقهي· وقد وجد في عصره بعض المتعصبين من اليهود والمسيحيين الذين يطعنون في الإسلام مستغلين الضمور الفكري والفقهي، شيوع التقليد وتجمد العقل، فانبرى لهم ابن حزم يجادلهم ويسفه آراءهم في حّدة وعنف، مؤكداً أن ما اعترى الحياة الإسلامية من فساد وبلادة وما يشيع فيها من جمود فكري وتقليد أعمى للسلف ليس من الإسلام ولكنه محنة الإسلام·
يؤكد الصعيدي، إلى أن ابن حزم حدد ملامح فقه الجديد في كتابه '' المُحلّي'' وفيه تنكر للاجتهاد والقياس بأكثر مما تنكر له الحنابلة أنفسهم، ولم يأخذ بغير النص من القرآن والسُنّة النبوية، متخذاُ موقفاً عدائياً بالغ الحّدة من الباطنية، وضد الصوفية وتقديس الأولياء وضد تعنت الأشاعرة وضد تأويل الباطنية للقرآن والسُنّة·
باستثناء العديد من آرائه الفقهية التي اتسمت بالتناقض الشديد مع ما كان يدعو في مذهبه من ظاهرية، فإن آراءه الفقهية في تنظيم العمليات الاقتصادية مثل المزارعة على سبيل المثال كانت ثورية لحد بعيد، واتهم بالسعي لتثوير المجتمع ضد الأعيان ورجال الإقطاع، وكان نهجه هنا مماثلاً لنهج أحد أعظم الأئمة هو الليث بن سعد، الذي خالف أئمة عصره جميعاً في تلك المسألة تحديداً·
ولذا كانت آراؤه جسورة بمعايير الزمن الذي عاش فيه، وكان لها تأثيرها في التجديد لما أتى من بعده·
ينشر بترتيب مع وكالة الأهرام للصحافة