26 نوفمبر 2009 00:01
الهند بلاد الأسرار والتنوع والدهشة.. بلاد الرؤى المتعددة والحكايات التي لا تسعها قصة واحدة.. الهند عالم الإنسان الذي تماهى مع الطبيعة المقدسة والشغف بالألوان.. الهند موطن السلالات المتنوعة والزخارف والمنمنمات.. الهند الفن الذي لا يقف عند حدود الجمال الآسر.. الرقصات التي تهتز فيها الخلاخيل فتصدر صوتاً من الألم والفرح في الآن نفسه.
كل ذلك تجسد في “رؤى من الهند” المعرض الفني الهندي الحديث الذي حفل بابداعات 85 فناناً هندياً والذي يقام الآن في قصر الإمارات بأبوظبي ليؤرخ للفن الهندي من عام 1947 حتى الوقت الحاضر وتشمل المعروضات الرسومات والمنحوتات والتركيبات الفنية والصور الفوتوغرافية والعروض الإعلامية الجديدة والفيديو.
تعود هذه الأعمال لفنانين رسموا مسارات جديدة عبر تجريب لغة فنية تقليدية وتطوير مفردات جديدة في آن معاً وبهذا نجد فعلاً أن الفن الهندي لا يزال بالرغم من حداثته يعنى بالموروث، إذ الموروث لديهم ثقافة تحمل كل مفرداتهم التي تختبئ في الزخارف والمنمنمات التي تعزز اللغة التصويرية الخاصة بهم.
سبيكترام 2009
كانت تسمية المعرض “رؤى من الهند” (سبيكترام 2009) دقيقة فعلاً لأن الرؤى باختلافها وتعددها كمفهوم تنطبق تماماً على ما عرض من أعمال في هذا المعرض من تنوع لرواد الفن الحديث في الهند تجسدت في 112 أثراً فنياً قدمت أساليب هؤلاء الـ 85 فناناً. والتي يمكن إجمالها في: أولاً التمهيد إلى جماليات جديدة وهو خطوة رائدة لفن الهند المستقلة يضم الفنانين الذين يعتبرون رواد فنون الهند المستقلة الذين خالفوا التقاليد والأعراف السائدة في الفترة الاستعمارية فلقبوا بالجُدد حيث سعوا لأجل الأممية في الفنون، كما بشرتهم أعمالهم بمرحلة جديدة في الفن الهندي.
والقسم الثاني هو “إعداد نماذج جديدة” يضم جيلاً لاحقاً من الفنانين الذين أخذ اهتمامهم مسلكاً جديداً، حيث كانوا أذكياء جداً في اختيار أعمالهم واستلهموا التعابير الأدبية والجمالية لإثراء وتحسين أساليبهم الشخصية.
والقسم الثالث يضم الفنانين الذين يعملون اليوم في مواد مختلفة هي التي يحفل بجزء كبير منها معرض “رؤى من الهند” الرسومات والمنحوتات والتركيبات الفنية والصور الفوتوغرافية والعروض الإعلامية والتي تلخص بل ترسم ملامح المجتمع الهندي الذي يعد من المجتمعات الغريبة في تغيرها السريع، المفاجئ، بالرغم من احتفاظها بملامح الموروث بكل شفافية وعمق. فالهويات تمتزج في الهند والثقافات متلاحقة.
أما القسم الرابع فهو تحديد أسلوب شخصي والذي يضم الفنانين الذين يمتلكون لغة تعبيرية خاصة بهم فقط، رغم أنهم من أجيال مختلفة ولكنهم لا يتقيدون بأي عقيدة أو حركة فنية فهم يعملون بما تمليه عليهم أفكارهم.
ولهذا فإن مجمل الفنانين الـ 85 الذين اشتركوا في هذا المعرض يمكن أن نذكر منهم (اجاي دي واكبر بادامسي وانجولي ايلامينون وانجو دوديا وارفانا كاور واشودوش ابني واتول بهالا واتول دوديا وبـ قرابها وبايجو بارتان وبهارتي خير وبوس كريشناما شاري وسي. جاغديش وشينتان اوبادياي وديباك شيندي ودروفا ميستري واف. ان. سوزا وفرهاد حسين.. وآخرون).
بيكاسو الهند
تطالعنا في البدء حين نتجول في “رؤى الهند” لوحات مقبول فداء حسين الذي يعتبر أحد أشهر فناني الهند حيث أطلق عليه “بيكاسو الهند” لشدة غرابته وتمثله السريع للمدارس الأدبية. اشتغل رسام اعلانات وفي عام 1947 انضم إلى جماعة الفنانين التقدميين التي تميزت بالنزعة العالمية عن الطبيعة الأكاديمية واستوحت من الفن الأوروبي الانطباعية وما بعد الانطباعية والتعبيرية والتكعيبية والمدرسة الوحشية وخير دليل على ذلك لوحته المعروضة والمعنونة بالموسيقيين 109*81سم من الزيت على الجمفاص. حيث استخدم حسين العديد من التقاليد الأصيلة في فنه كالرمزية وتسطح المساحة من اللوحات المصغرة إلا أنه لم يتخلص من الفن الشعبي ولأنه شاعر فانه يحمل فرشاته الذهبية أينما ذهب. فهو الرسام الشاعر الذي صوّر الأساطير والآلهة والأماكن الريفية. اشتهر برسم الخيول التي استلها من أساطير “اشواميدها” وحصان الحسين بن علي في التاريخ الإسلامي في معركة “كربلاء” إذ يكرر هذا الموضوع في عديد من لوحاته التي عرضت في “رؤى من الهند” وبالرغم من أنه تجاوز الرابعة والتسعين الآن فهو لا يزال نشيطاً ومتقلب المزاج حتى أن ريشته النشيطة مثله قد اكتملت في تشكيل ملامحها منه فهي أيضاً ريشة متقلبة المزاج مثله.
في لوحته “السيدة والحصان” و”بلا عنوان” 91*61سم اكرليك على الجمفاص ترى الأحمر الفاقع الدموي والحصان الرقيق الحالم، الباكي، المحب، الخجول وهو في علاقة حب عميقة مع السيدة أما الجسد فهو المكعب والمستطيل والانحناءة الحادة. في الوقت الذي نقرأ فيه لغة تدور بين السيدة وحصانها.
النزعة الفنية
في لوحة “منظر طبيعي وكنيستان” للفنان فرانسيس نيوتن سوزا الذي ولد لعائلة كاثوليكية رومانية في مستعمرة جوا البرتغالية وفي عام 1942 غيّر اسمه العائلي ليصبح “سوزا” المتمرد، المتحمس، الذي أسس “جماعة الفنانين التقدميين” التي دعت إلى النزعة الفنية الحديثة شكل هذا الفنان نبراساً للجماعة كونه من أشهر الفنانين الهنود.
وعلى غرار لوحاته الفنية تتسم كتابات سوزا كونه كاتباً، ناثراً جميلاً أيضاً بالتحدي بينما تتضمن لوحاته التي يصور فيها الكنيسة الكاثوليكية الكثير من السخرية، أما وصفه للمرأة التي غالباً ما تكون لوحات لنساء عاريات، بطابع الجدة والتعاطف والاحساس العميق بالقهر. في لوحته منظر طبيعي وكنيستين 91*152سم من الماكس ميديا على الجمفاص نجد الاخضرار الشاسع والازرقاق السماوي والتنافر والصراع بين الكنيستين اللتين احتلتا زاويتين بعيدتين في فضاء اللوحة، تلك هي حكاية سوزا مع تجسيداته للصراع الأزلي.
انتقل سوزا إلى لندن في 1949 ومن ثم إلى نيويورك وفي كاليفورنيا رسم لوحته “منظر طبيعي وكنيستين” وهو لريف جوان بكنائسه الطويلة، وهي من لوحته الأقرب إلى التجريد على الاطلاق.
ويصور كريشناجي هولاجي آرا الملقب بـ “ك. هـ. آرا” الذي كان منظفاً للسيارات منذ طفولته في مومباي، الطبيعة الصامتة Still Life في لوحته 74*53سم من الماكس ميديا على الورق. كان آرا فنان عصامي لم ينل أي تدريب رسمي، وتعلم أصول الفن على يد خبراء الفن أمثال رودي فوق ليدن والبروفيسور دبليو لانجهامر.
بدأ حياته من البيئة بصور تذكرنا برسومات المدينة القديمة ثم اتجهت أعماله إلى تكريس الأساليب الهندية والأوروبية المتنوعة. في لوحته “الطبيعة الصامتة” تجانس لوني جذاب وحزن عميق يكشف عن السواد الطاغي وذبول هائل في الأشياء المبعثرة والمتساقطة من الورد.
التنويعات الكبرى
وفي لوحة أكبر بادامسي المعنونة “وجه رجل بلحية” 107*71 سم من الزيت على الجمفاص نجد التنويعات الكبرى على اللون الواحد وتدرجاته الآسرة حيث التوتر الذي ينتج عن مقابلة الخط والشكل والظل واللون، باستخدام الألوان الأساسية والألوان الثلاثية.
تنتقل مواضيع بادامسي بين جسد الإنسان والمنظر الطبيعي اللذين يكونان نقطة انطلاق تتيح له الإبحار باستفساراته عن عالم الجمال لتقوده إلى الاستنتاجات الناجمة من خلال عدد من الوسائل من بينها الرسم بالحبر والتصوير والنحت.
ابتكر بادامسي أسلوبه الخاص في تكوين أعماله ووضع ألوانه فلوحته هذه تشع بنور داخلي حيث أضفت دراسته للأدب السنسكريتي على فنه المزيد من العمق والدراية.
نقرأ في معرض “رؤى من الهند” عمل رام كومار الذي أسماه “بلا عنوان” 44*58سم من الاكرليك على الورق حيث الطبيعة والمناظر المدهشة، الفقراء لديه يتكلمون، إنه الأكثر تعاطفاً لونياً ووجودياً ومفهومياً مع الفقراء والمحتاجين في العالم، ألوانه الجريئة ووجهات نظره المتعددة ولمسات ريشته الواضحة، إنه المتأمل، الحالم، المتفرس بالعالم والحياة في انصهار نموذجي بين الداخل الفكري والخارج العملي.
وتسحرنا “موسم البطيخ” 183*122سم من الزيت على الجمفاص للفنان الهندي كريشين خانا الذي درس الرسم والتصوير في لاهور وأقام في مومباي حيث كان على اتصال مع جماعة الفنانين التقدميين.
كانت أعماله تدور حول الكتاب المقدس في محاولة لتبسيط الشكل والمضمون ومن حيث الأسلوب استطاع فنه أن ينضم إلى صفوف الحداثة الغربية.
في أعماله نجد التعبيرية والتجريد معاً، إذ يرى الكثير من النقاد أن التجريد قد سيطر عليه بسبب دراسته للخط الصيني والبوذي وفي عام 1964 عاد كريشين إلى اللوحات التصويرية وركز على العمل والأفراد المهمشين.
وفي “موسم البطيخ” حيث الصيف الحار يصور كريشين مشهداً مألوفاً في الشارع الهندي باستخدام الألوان الزاهية حيث يبث كريشين خانا البهجة في اللوحة عبر لونين رئيسيين فقط وهما الأحمر والأزرق.
الفنان المعاق
استطاع ساتيش جوجرال الفنان المتعدد المواهب أن يتغلب على اعاقته وهي ضعف السمع فاتجه إلى الرسم كونه مجالاً بصرياً. إن الموهبة تضطرم في أعماقه فرسم التكوينات المتأملة ونحت الحصان المذهل وتجاوب مع الألوان العميقة الإحساس، هذه المرحلة يمثلها جيها بخير سابافالا في لوحته “ضوء القمر” 76*127سم من الزيت والاكرليك على الجمفاص وك. ك هيبار في لوحته “نساء القرية” 70*102سم من الزيت على الجمفاص حيث التعبيرية الاجتماعية والذي اتجه أخيراً إلى الفن التجريدي كوسيلة للتعبير عن تأملاته الفلسفية. و”ساكتي بورمان” في لوحته “الملهمة” 122*91سم من الزيت على الجمفاص حيث عالم الملائكة والمهرجين والطيور الناعمة والحيوانات الأليفة والبشر وأشياء ليست بينها صلة ما. ساكتي رسام متأثر بالأساليب الأوروبية في الفن الهندي حيث يستمد الهامة من الجداريات الأوروبية في القرون الوسطى بصفة خاصة، حيث اللوحة داخل اللوحة، كما الحكاية داخل الحكاية، إذ تعتبر هذه اللوحة “الملهمة” سيرة ذاتية للفنان بورمان نفسه، كونه يظهر فيها متجسداً بوضوح.
وقبل أن ننتقل لقراءة أهم الأعمال نقرأ لبي برايها عملها الجميل “الأم وابنها” 75*62سم من الزيت على الجمفاص وهذه الفنانة الموسيقية التي تأثرت بالفنانة امريتا شيرجيل صورت نساء الريف الهندي حيث بائعات الخضر والذهاب إلى سوق القرية والأشجار وقت الاستراحة والنساء وهن يلاعبن أطفالهن.
أما انجولي إلا مينون الفنانة الرائعة بأسلوبها المدهش الحساس المفتتنة بالفن المسيحي القديم وبالمدرسة التكعيبية والمدرسة الوحشية حيث “الايقونية” في لوحتها “الراعي الصالح” 122*61سم من الزيت على الجمفاص والتي رسمتها في عام 2004 وهي التي تقول: أنا قلما أرسم، أنا أفكر في اللون”.
حساسية الأسلوب
أما سانخو شودوري النحات الأسطوري الذي أسس مدرسة بارودا والذي مازج بين جمالية الخشب والنحاس والتراكوتا والحجر والبرونز والمعادن الملحومة والجص فهو واحد من الفنانين الهنود والنحاتين النادرين التي أظهرت أعماله مرونة وقدرة نادرة على الاستجابة للحياة في جميع أشكالها. ويمثل المصور الفوتوغرافي راجو راي فن التصوير الضوئي، حيث المناظر البانورامية المتسعة الزاوية والحساسية الشاعرية لديه فهو جزء من التكوين الإنساني الخلاق، حيث يستخدم راجو راي الكاميرا ببراعة المحترف، بتعامله مع الأسود والأبيض، إذ أن عينه الثاقبة بارعة في التقاط الفروق الدقيقة في الموقف من خلال صوره الفوتوغرافية حيث أصبحت فصاحة أعماله علامة مميزة له، في لوحته “بيت العائلة” 51*119سم تجسيد حي للبانورامية المذهلة.
في القسم الثاني إعداد نماذج مختلفة من معرض “رؤى من الهند” نجد جايا شري تشاكرافاري وجوغين تشودري يجسدان عالمهما بدقة أما سودير باتوردان ففي لوحته “رجلان” 50*65سم من القلم الرصاص على الورق نجد التكوين المذهل بين الأسود وظلاله الباهتة. فرسوماته هي شروحات فورية عن الأشياء وفي لوحته “بلا عنوان” 117*96.5سم حيث بيوت المدينة المتراكمة تثير الدهشة باستخدام الازرقاق الخفيف وهو يناغي الضوء. فيفان سوندارام وغلام محمد شيخ نجدهما هناك في “رؤى من الهند” وكذلك رام رحمان في كوليجاته الجميلة في الجمع بين الغريب والأليف.
تصوير العنف
في القسم الثالث من “رؤى من الهند” المعنون بتحدي الحدود القائمة نجد “سوبود غوبتا” الذي طرق كل أشكال التعبير الفني مثل الرسم بالتصوير الواقعي والنحت والمجسمات الضخمة فان أعماله تسعى للموازنة بين المحلية والعالمية. كما نجد “آتول دوديبا” في محاولته لاكتشاف ثقافة الشارع وتزايد معدلات العنف في المدن من خلال أعماله “الشنق” 76*56سم التي رسمها في 2007. أما انجو دوديبا فهو واحد من رواد الفن المعاصر في الهند الذي مازج الأسطورة بالتاريخ، كذلك “تي في سانتوش” و”بهارتي خير”. وعندما نقف في “رؤى من الهند” نتطلع إلى منحوتة “الرأس” لرافيز ريدي 111.8*111.8*57سم وهو التمثال المنحوت من الجص المصبوب في قالب من الفايبر جلاس والملون بالأحمر الحار والأزرق والذهبي والمزين بخصلات الشعر والحلي والقلائد بالأزهار.
كذلك جيتيش كالات في عمله النحتي “الدراجة البخارية” 193*69*193سم الذي يروي من خلاله سيرة ذاتية لفرد ما. وفي عمل فالاي شيند بلا عنوان والذي تعمل فيه الاضطرابات من خلال المنمنمات الصغيرة التي يجسدها المنحوت.
أعمال أخرى كثيرة.. لا مجال هنا لتعدادها ولتناولها.. إنها تحف فنية راقية حفل بها “رؤى من الهند” في قصر الإمارات في أبوظبي.