20 ابريل 2011 19:47
قد لا يكون لمنجز إبداعي آخر غير السينما القدرة على اختزان وتوليف الطاقة التفاعلية التي تملكها، حتى تقدم للمتعاطي معها كل هذا الكرم البصري وكل هذا السخاء الريؤيوي المشتمل على نوايا فنية نقية، وعلى قيمة جمالية خالصة، لأنها تقدم صورة الذات المنعكسة على الشاشة، كما أنها تقدم الجرح والأمل، والموت والميلاد، والهمود والنشوة، وكل متناقضات الحياة على غلالة بيضاء تشبه الغيمة السارحة فوق صحراء.
القيمة الجمالية التي نتحدث عنها هنا تستقي من لون وصوت ورائحة المكان ما يمكن أن يختصر المسافة بين الذاكرة والمستقبل بمعالجة مكثفة وخاطفة، ومن غير شروحات فائضة أو استرسال متدفق مثل نهر أعمى.
في الدورة الرابعة من مهرجان الخليج السينمائي الذي أقيم في دبي برعاية هيئة دبي للثقافة والفنون والذي اختتمت فعالياته مساء أمس كانت الأفلام الروائية القصيرة الثمانية والثلاثين الداخلة في مسابقة المهرجان هي عصب وقوام ورهان المهرجان نفسه، رهان كان عليه ومنذ انطلاقة الحدث قبل أربعة أعوام أن يخلق مناخه التنافسي المستقل وسط الأفلام الوثائقية والروائية الطويلة وأفلام الطلبة، وقد يعود سبب هيمنة الأفلام القصيرة على المهرجان إلى وفرتها وإلى تعدد المخرجين المنتمين لهواها وأسلوبها، ولكن “الوفرة” هنا لا تعني أن تنفيذ هذا النمط من الأفلام هو أمر سهل ومتاح ويحقق شروط الإتقان لجل المشتغلين بالسينما في الخليج.
جدل متواصل
ويلحظ المراقب والمتتبع لمسار الأفلام القصيرة في المهرجان منذ بدايته أن هناك ثمة جاذب خفي يغري الفنانين في الحقول الإبداعية الأخرى مثل المسرح والتشكيل والقصة والشعر والرواية إلى اقتحام عالم الإخراج السينمائي، وهذه الظاهرة تؤكد على أن الفيلم ككتلة بصرية مكتنزة تستطيع أيضا أن تستوعب الاتجاهات التعبيرية المختلفة وأن تتعامل مع المقولات المتعددة والتأويلات المتفاوتة خصوصا مع التحولات المثيرة التي باتت تنحت في الوعي الداخلي للفنان، وباتت تمنح ضوءا مغايرا لصورة الخارج أيضا.
وتميزت مسابقة الأفلام القصيرة في الدورة الحالية بعودة العافية والعنفوان للفيلم الإماراتي، بعد هبوط ملحوظ في كم ونوعية المشاركة خلال العامين الماضيين، هذه المشاركة القوية والواثقة جاءت من خلال 16 فيلما، مع سبعة أفلام لكل من العراق والكويت، وثلاثة أفلام للسعودية، وفيلمين لكل من عمان والبحرين، مع مشاركة وحيدة لقطر، وأفصحت هذه الأرقام أيضا عن احتفاظ المشاركة العراقية بزخمها وتنوعها، وجاءت المفاجأة هذا العام من الكويت التي حققت قفزة جيدة سواء من ناحية المواضيع المطروحة أو من حيث تقنيات الإخراج كالتصوير والمونتاج والمكساج التي كانت مشاكلها واضحة في السنوات السابقة، وكان تراجع المشاركة السعودية مفاجئا أيضا، خصوصا وأنه في السنتين الأخيرتين كانت الأفلام السعودية هي المتسيدة والحاصدة لأغلب جوائز المهرجان.
وهنا قراءة وعرض لبعض هذه المشاركات والتي جاء معظمها موازيا للخط التصاعدي المطلوب بعد أربع سنوات من التواصل والاحتكاك والجدل والنقاش الذي صنعه مهرجان الخليج السينمائي كي يضيف إلى جانب الخبرة والوعي لدى السينمائيين الشبان، جانبا آخر مهما وهو الاستمرارية، هذه الاستمرارية التي يراها البعض صعبة ولكن المهرجان يصر عليها ويبحث في كل دورة عن آليات جديدة لتكريسها كإيمان وكفعل أيضا.
ملامسات الحلم
المخرجة الإماراتية الشابة رواية عبدالله قدمت في فيلمها “اللون المفقود” معالجة بصرية مكثفة وموفقة أيضا لقصة الفتاة الصغيرة (شذى) التي تعيش حالة من الانعزال الداخلي الذي يفصلها عن زميلاتها في المدرسة ومن خلال لغة بصرية رشيقة وغير متكلفة نكتشف أن الفتاة تعيش وضعا متأزما شارك في صنعه الخلاف الصارخ بين والديها في المنزل، ما يجعل الفتاة تلجأ للرسم كمتنفس وكحلم يقظة ملموس ومترجم على الورق، وفي إحدى المساءات الصاخبة التي تشهد صراعا عنيفا بين الأب والأم تهرب (شذى) من المنزل وتهيم على وجهها، ويستغل أحد الأسيويين الذي يعملون في المحلات القريبة من المنزل وضع الفتاة ويغريها بحقيبة مدرسية زاهية كي يقودها معه إلى جهة مجهولة ومحفوفة بالنوايا الداكنة، ينتهي الفيلم على هذا المشهد الذي يخبئ في مضمونه الخفي إشارات مأساوية متعددة، تمس أسر عديدة وتشير لمكامن خلل وثغرات لابد من سدها قبل أن تتحول الحالات الطارئة في المكان إلى ظواهر مستشرية يصعب التنبؤ بنتائجها الكارثية.
وفي فيلم “موت بطيء” للمخرج وكاتب السيناريو الإماراتي المعروف جمال سالم، تبرز مشكلة التركيبة السكانية أيضا، ولكن بمعالجة مختلفة مزجت بين الحس الكوميدي الظاهري وبين المغزى التراجيدي العميق، حيث يتناول الفيلم قصة حفار القبور الآسيوي “بشير” الذي يفاجأ بانتهاء إقامته في البلد بعد ثلاثين عاما من العيش وسط الموتى، والتعامل اليومي مع طقوس الدفن، يرفض بشير الوضع الجديد لأنه لا يملك شيئا ولا يعرف أحدا في بلده الأم، ويتمني أن يموت في هذه الأرض ويجاور الموتى الذين دفنهم سابقا، تميز الفيلم بكادراته البصرية المعبرة عن عذابات الشخصية وحيرتها، ولكن إشكالية الفيلم جاءت من خلال السيناريو الذي كان تائها بين الانتصار لوجهة نظر بشير وبين إدانته لوجهة النظر ذاتها، كما أن النقلة المفاجئة التي طرأت على شخصية العامل الآسيوي من النقيض إلى النقيض بعد حصوله على تعويض مالي عال نظير سنوات خدمته، وضعت أسئلة استفهام كبيرة على قدرة شخص خبر الحياة الداكنة والفجائعية أن يتحول فجأة إلى شخص لعوب يطارد شهواته الدنيوية دون خوف من فكرة الموت المنغرسة فيه.
طفولة ناقصة
ومن الأعمال المميزة التي شاهدناها في المسابقة الفيلم العراقي: “أرض الأبطال” للمخرج ساهم عمر خليفة والذي استند على عنوان تهكمي كي يشرع تدريجيا في بث رسائله المؤلمة حول الأطفال الذين تلتهمهم الحرب داخليا وتأكل من رصيد البراءة التي لم يعد لها أي مخزون أثناء تعاملهم اليومي مع عائلاتهم وأصدقائهم ومع الحياة عموما، يعود بنا الفيلم إلى العام 1988 عندما يكون النزاع بين إيران والعراق في أطواره الأخيرة، وتتحول يوميات عائلة كردية مكونة من أم وطفل وفتاة إلى يوميات عبثية تتحول فيها الأسلحة إلى وسائل للترفيه، ويتحول التلفزيون إلى شاشة حرب أبدية لا نشاهد فيها سوى الدبابات والجنود والقادة العسكريين، حتى أن الوقت المخصص لعرض رسوم الأطفال يصبح مهددا بالقطع في أي لحظة لبث خبر الانتصارات الوهمية والمبالغ بها، وعندما تزور أحدى القريبات هذه العائلة المنعزلة وسط الجبال والسهوب، يتحول اللقاء بين الأطفال إلى مواجهة تعذيبية بكل المقاييس، ويروي لنا المخرج بكاميرته المتحركة والقلقة كيف أن الأطفال في زمن الحروب يمكن أن يتحولوا إلى مشاريع لشخوص معتوهة وإجرامية وذات حس اعتقالي ودموي طاغ في مستقبل حياتهم وفي مستقبل البلد الذي يتشربون بؤسه ومراراته كل يوم.
المخرج العماني الواعد عامر الرواس قدم في فيلمه “بهارات” أربع قصص تقع في لحظة واحدة وفي أماكن مختلفة، فمن بيئة قديمة تبدو أقرب إلى الخيال الشعبي، ومرورا بقلعة مهدمة يتفيأ تحت ظلالها شيخ مسن، ووصولا إلى المدينة الهادرة بالصخب وفتاة صغيرة تبحث عن تغيير الإيقاع الرتيب لحياتها، ترتحل كاميرا الرواس وتتقاطع مع هذه الحالات والأخيلة والأمزجة والمرجعيات المختلفة، كي يقول لنا في النهاية أن هذه الاختلافات هي أشبه بالبهارات تلون حياتنا بأذواق ومشاهد وتفاسير لا تقف عند حاجز واحد وسميك ولكنها تنسل تحت هذا الحاجز وتقفز فوقه وتناوشه وترتطم به، لأن الثبات في النهاية هو جزء من حركة لا يعيها الثابت نفسه.
أما المخرجة الإماراتية منى آل علي فقدمت فيلما بعنوان “إعادة” استند على تقنية الاسترجاع المشهدي أو الارتداد الزمني من خلال سيرة حكائية لفتاة تكثف من حالة الخلود المؤقت للأمكنة والتفاصيل، وهو عمل أقرب للهاجس التشكيلي الذي يلخص رحلة الحياة بكل ذكرياتها وتفاصيلها المنسية والحاضرة، كما أنه يحمل في داخله تساؤلا صعبا حول مدي قدرتنا على تغيير الظروف المحيطة بنا، من خلال إعادة التفكير في ماضينا، ومن خلال الإضاءات الداخلية التي نسلطها على زمن مضى ولكنه يتجدد فينا، وباستطاعتنا أن نبتكر صياغات جديدة له تتجاوز وتقفز فوق المرارات التي خلفها وكدسها هذا الماضي، يقدم فيلم منى آل علي أيضا صورة الشخص الذي يمثل طفولتنا جميعا، هذه الطفولة التي تحولت في أذهاننا وفي أحلام يقظتنا إلى طيف تجريدي يقدم تفسيرات ورؤى متعددة حول الرغبة الإنسانية في تجميد الزمن في وقت ومكان محددين، حسب قيمة وصفاء وبراءة هذه اللحظة النادرة والمكثفة التي فقدناها.
في الفيلم الكويتي “الجعدة” وهي لفظة عامية تعني الأخ الأصغر، تتجلى تقنيات المعالجة المدهشة للقطات المدروسة والمكونة لمفاصل وتفاصيل الفيلم، حيث استطاع المخرج داوود شعيل أن يستعيد صورة الخديعة والعنف والتسلط من خلال حكاية شعبية تقترب من عوالم الواقعية السحرية التي تنبثق من ماض قديم ولكنها تحاكي الحاضر وتحاوره وتدينه أيضا دون أن تستعين بثرثرة فائضة في الحوارات، لأن الصمت وفي أغلب الأحيان يبدو أكثر بلاغة من أي خطاب علني وصارخ وزائد على حاجة الصورة السينمائية.