محمود إسماعيل بدر (عمّان)
بعد ثمانية قرون من الميلاد، ما زالت أسطورة «الألياذة» التي وضعها الشاعر الأغريقي الكفيف «هوميروس» الملحمة الشعرية القصصية الأغلى والأهم في كلاسيكيات الأدب العالمي، عن الحب والحرب والشرف والبطولة الخارقة والكرامة الإنسانية والشجاعة، والطبائع والتقاليد والفلسفة الدينية، نسجت جميعها في قصة كانت سببا وراء حصار طروادة بعد اختطاف الملكة الأغريقية «هيلين» بواسطة الطروادي «باريس» ورغبة الأغريق في الانتقام.
آخر الاهتمامات النوعية بـ«الإلياذة» التي صاغها هوميروس في 16 ألف بيت و24 فصلا، جاءت من (ناشرون بيروت) التي أعادت تعريبها في نسخة أنيقة للترجمة التي قام بها الأديب اللبناني سليم البستاني (1848 1884) لتخرج في نفس القالب العمودي للشعر العربي المتعارف عليه، وأصدرتها دار الهلال المصرية عام 1904. وهنا يجدر القول إنّ ترجمة البستاني لنص «الإلياذة» لا تكتسب قيمها من إنجازها ذاته، وإن كان هامّاً وضخماً، بقدر ما تكتسبها من كونها الأنموذج لتحوّل حاسم في مفهوم الترجمة وممارستها في اللّغة العربية، وفي صلات الثقافة العربية بالثقافات الأجنبية قديمها وحديثها. وهي لم تكن أبداً عملاً معزولاً عن عصرها ولا عن القضايا العسيرة الّتي طرحها ذلك العصر على الأدب العربي ولغته. إنّها عمل فريد لا نظير له من تاريخ الترجمة الأدبية في الثقافة العربية على مدى تاريخها. أهم ما في «الإلياذة» هو جماليات السرد القصصي بالشعر للحرب الضروس التي دارت رحاها في بلاد الإغريق في الفترة من 1280 إلى 1183 قبل الميلاد، وخدعة (حصان طروادة الخشبي) التي حققت للمحاربين الأشداء من الإغريق الذين اختبأوا بداخله الانتصار الساحق على مدينة طروادة بعد اقتحامها حيث يمجدّ هوميروس بلغة ومفردات لم يسبقه إليها أحد في زمانه الأمة الإغريقية في شعر ونص ملحمي، يشتمل الأناشيد والأغاني والنظرة الفلسفية والدراما والكثير من جماليات الشعر الذي ما زال مثار إعجاب العالم حتى اليوم، فأمام أسلوب هوميروس في رائعته «الإلياذة» لا يملك المرء إلا التعبير عن دهشته وإعجابه بحس هذا الكاتب ووعيه بدقائق النفس البشرية، ووضوح رؤيته وسعة افقه في الإنسان والطبيعة.
وقد كرس «هوميروس» (الميلاد القرن 9 ق.م، والوفاة القرن 8 ق.م) من خلال هذه الملحمة مفهوم (الشخصية الوطنية) على نحو ما فعل شكسبير (1564 1616) في مسرحيته الكلاسيكية «روميو وجولييت» (كتبت بين 1593 و1596) نحو فكرة التضحية من أجل الوطن والأمة.