السبت 23 نوفمبر 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

جدلية الأدب والواقع: على أي نحو يعكس «الأول» «الثاني»؟ وظيفة التعبير...

جدلية الأدب والواقع: على أي نحو يعكس «الأول» «الثاني»؟ وظيفة التعبير...
20 يونيو 2019 01:44

د. سعيد توفيق

لا شك أن الأدب من بين الفنون جميعاً هو أكثرها التصاقاً بالواقع: ذلك أن الأدب يتعامل بالكلمة، والكلمة هي أكثر الوسائط الفنية قدرةً على تصوير وتشخيص واقع الإنسان، بها يحيا ويتعامل مع مفردات الحياة اليومية، بل مع أمانيه وتطلعاته وأحلامه: إنها ـ باختصار ـ تشكل عالم الإنسان ومجمل وجوده. وهنا لا بد أن نتساءل: ما المقصود بالواقع؟ وعلى أي نحو يعبر الأدب عن الواقع؟ إن كلمة «الواقع» إنما تُقَال على أنحاء شتى: فهل المقصود بالواقع هنا الواقع الاقتصادي أم الاجتماعي أم السياسي، أم مجموع ذلك كله؟
فرضت العلاقة بين الأدب والواقع ذاتها بقوة على الفكر الجمالي الحديث، وخاصة لدى الفيلسوف الألماني الكبير هيجل: فلقد رأى هيجل الفن باعتباره «التجلي المحسوس» للفكرة أو الروح، وهذا يعني أن الفن (بما في ذلك الأدب) هو تجسد واقعي للفكر أو الوعي، أي للروح الكلي الذي يسري في الوجود. ولكننا نعلم أن الروح الكلي - وفقاً لهيجل نفسه- لا يتخذ صورةً واحدة، وإنما هو يتطور ويتخذ صوراً مختلفة عبر مسيرته الزمنية؛ وبذلك تصبح الأشكال الفنية والأدبية، على تنوعها، بمثابة الصور التي يتجلى فيها الروح أو الوعي في الواقع. هذه الصور هي ما يسميه هيجل بـ«الأرواح القومية»؛ فكل حالة من حالات تحقق أو تجسد الروح في الواقع في مرحلة تاريخية ما، هي بمثابة «الروح القومي» أو «روح الشعب» الذي هو بمثابة طابع خاص يتمثل في حياة الأمة الأخلاقية وحكومتها أو نظامها السياسي والاقتصادي: فالروح هنا يتم التعبير عنه من خلال التنظيم السياسي، مثلما يتم التعبير عنه من خلال الفن والدين. ولذلك، فإذا كانت دور العبادة -كالكاتدرائيات على سبيل المثال- تتخذ أشكالاً فنية مختلفة عبر العصور، فما ذلك سوى لأنها تعبر عن صور مختلفة من الوعي بالألوهية، أي أنها تجسيد لإحساس شعب ما بالألوهية اضطلع به فنان ما، كما سيقول هيدجر لنا فيما بعد. كذلك، فإن كان الشعر يحمل طابعاً إنسانياً عاماً عبر العصور باعتباره يعبر عن الكلي، فإنه -كما يخبرنا هيجل- يعبر أيضاً، من خلال الأفكار وأساليب رؤية الأشياء، عن طابع قومي خاص بواقع شعب ما، بل إن هذا التنوع والاختلاف في شعر القوميات يمكن أن يحدث في شعر القومية الواحدة تبعاً لاختلاف الفترات التاريخية؛ لأن كل عصر له أسلوبه الخاص في الشعور ورؤية العالم.

الوعي والوجود
غير أن هذا الموقف بعينه كان مثار نقد الماركسيين لمذهب هيجل هنا: فليس وعي الناس هو الذي يحدد وجودهم، بل إن وجودهم الاجتماعي هو الذي يحدد وعيهم (مع الأخذ في الاعتبار بأن الوجود الاجتماعي عند ماركس يتحدد بشكل أساسي من خلال الواقع المادي، أي من خلال قوى الإنتاج وعلاقات الملكية في المجتمع). وعلى هذا يقوم موقف الماركسيين من علاقة الفن عموماً (والأدب خصوصاً) بالواقع. حقاً إن الماركسيين لا يتخذون موقفاً واحداً دائماً، ولكنهم -في معظمهم على الأقل- ينظرون إلى السياق الاجتماعي الذي يمثل الموقف الطبقي للفنان والجمهور في عصر ما. ولكن المعضلة هنا تكمن في تبرير كون أن بعض الأعمال الفنية والأدبية تتجاوز سياقها التاريخي ووضعها الاجتماعي الطبقي الذي صاحبها. وهذه المعضلة فطن لها ماركس نفسه: إذ لاحظ أن الملحمة، بل الفن عموماً عند الإغريق، يرتبط ببعض الأشكال الاجتماعية التي كانت سائدة في عصرهم، ومع ذلك فإنه يرى أننا نجد صعوبة في أن نفسر لماذا لا تزال تلك الأعمال الفنية تقدم لنا متعةً ونماذجَ لا تُضَاهى. هذه المعضلة أدركها ماركس، ولكنه لم يوفق هو وأتباعه في حلها أبدًا؛ فحكمه الأدبي فيما يتعلق بالمعاصرين -على سبيل المثال- يحدده موقفهم السياسي، حتى إنه لَيقدِّر تقديراً خاصاً شعراء من الطبقة الثانية، باعتبارهم يناضلون في سبيل الحرية.
ذلك هو الخطأ الأكبر الذي تقع فيه النظرية الماركسية. حقّاً إننا لا يمكن أن ننظر إلى الماركسيين جميعاً على أنهم يتبنون موقفاً واحداً من علاقة الأدب بالواقع، ومع ذلك فإنهم جميعاً ينظرون إلى وظيفة الأدب -والفن عموماً- في علاقته بالواقع باعتبارها وظيفة سياسية واجتماعية في المقام الأول. ولقد رأى بعض منهم أنه إذا كان الفن -بوجه عام- يعكس الواقع الاجتماعي، فإنه يكون قادراً في الوقت ذاته على تجاوز أصوله الطبقية، والتحرر من الواقع والتمرد عليه، وهذا معنى ثورية الفن وقدرته على التغيير.
إن الفن عند أتباع مدرسة فرانكفورت من أمثال: هوركهايمر وأدورنو وماركيوز -من نقاد الماركسية الأرثوذوكسية- ليس مجرد انعكاس لمجمل علاقات الإنتاج في المجتمع، أو تمثيل لمصالح طبقية خاصة، ولكنه -مع ذلك- يظل وظيفة سياسية واجتماعية من خلال قدرته على الثورة والتمرد الاجتماعي عبر الشكل الجمالي الذي يتبدى في الحركات الفنية الثورية. إن «ماركيوز» يعد هنا مثالاً جيداً على هذا الموقف المزدوج لدى كثير من الماركسيين من نقاد الماركسية الأرثوذوكسية: فماركيوز Marcuse يرفض النظر للعمل الفني الإبداعي على أنه تعبير عن واقع طبقي معين أو بِنى اقتصادية معينة، «بل هو نتاج وعي أفراد يوحدهم شعورهم بالحاجة العامة إلى التحرر، بصرف النظر عن وضعهم الطبقي».

تجاوز الشروط
ذلك أن أبطال العمل الأدبي -كما يقول ماركيوز- يتجاوزون الشروط الاجتماعية التي يوجدون فيها: فبؤساء هيوجو، وأذلَّاء دوستويفسكي ومهانوه لا يعانون جور طبقة اجتماعية خاصة، بل هم ضحايا اللاإنسانية في كل عصر وآن؛ ففي كل أدب عظيم شيء يتجاوز الأوضاع الاجتماعية في عصره. وعلى هذا يرى أن مصدر استقلالية الأدب -والفن عموماً- يكمن في الشكل الجمالي الذي يقوم بتحويل الوقائع التاريخية أو الاجتماعية أو الشخصية إلى واقع آخر حالم يتجاوز الواقع الفج في مباشرته وسذاجته. فالمسرحية أو الرواية تصبح عملاً أدبيّاً بفضل الشكل الجمالي الذي يقوم بتصعيد المادة وتحوير المضمون، من خلال نوع من المقاومة والرفض للواقع.
وبذلك يمكن القول بأن ماركيوز قد أبقى على مفهوم الجمال الذي رفضته الماركسية الأرثوذوكسية، مدعيةً أنه مفهوم برجوازي (على أساس أنه لا حاجة للحديث عن الجمال حينما تكون هناك حاجة للكفاح، ولا حاجة إلى الاستماع إلى سوناتات بيتهوفن في ظل جحيم كريه يعيشه الناس). يرفض ماركيوز هذا التصور الساذج الرافض لمفهوم الجمال، ويُبقِى على هذا المفهوم من خلال مقولاته عن الشكل الجمالي؛ لأنه يمثل نوعاً من الاحتجاج على ثقافة العقل الجمعي، والتمرد على الثقافة القمعية السائدة. ومع ذلك، فإنه يظل واقعاً في شراك التصور الماركسي الذي ينظر إلى وظيفة الأدب -والفن عموماً- باعتبارها وظيفة سياسية واجتماعية في المقام الأول. حقاً إن العمل الإبداعي لابد أن يعبر عن الواقع من خلال البعد السياسي أو الاجتماعي أو الميتافيزيقي أو الديني أو الأخلاقي، ولكن أي بعد من هذه الأبعاد لا قيمة له في الفن أو الأدب ما لم يكن معبراً عنه من خلال البعد الجمالي ذاته، ممثلاً في الشكل الجمالي الذي لا يقبل الاختزال إلى أي من هذه الأبعاد. وبهذا المعنى وحده يمكننا التأكيد على استقلالية الفن، ومن ثم الشكل الجمالي: فهو لا يلتزم في تعبيره عن الواقع إلا بمنطق الرؤية الفنية المتحررة من أية شروط سوى الشروط الجمالية.

الشكل الجمالي
ولقد كان لسارتر موقف خاص في فهمه للشكل الجمالي (ممثلاً عنده في الموضوع الجمالي) من حيث علاقته بالواقع. فالواقعي في الفن والأدب عند سارتر، إنما هو الموضوع الفيزيقي، كالألوان والخطوط في اللوحة، والآلات في العمل الموسيقي والأصوات الصادرة عنها. أما الموضوع الجمالي عنده (كما يتجلى في الفنون الجميلة التي تشمل الشعر والرواية والدراما من بين فنون الأدب)، فهو الموضوع الخيالي، أي الموضوع كما يتحقق ويُدرَك في الخبرة على مستوى الخيال. فالشاعر عند سارتر يستخدم الكلمات، مثلما يستخدم المصور الألوان؛ فالكلمات هنا ليست بمثابة أدوات تُستخدَم لتشير إلى شيء خارجها، بل لها حضور كحضور الأشياء: إنها تشبه العشب والأشجار. وكذلك فإن أحداث الدراما وشخوصها هي موضوعات تحيا على مستوى الخيال، وهذا يفسر لنا الخطأ الذي يقع فيه بعض النقاد حينما يبحثون عن أحداث واقعية مناظرة لتلك الأحداث التي ترد في سياق الرواية، وهو نفس الخطأ الذي يقع فيه بعض مؤرخي الفن حينما يلقون الضوء على حياة النماذج التي يصورها الفنان أو الأديب، بدعوى أن هذا يؤدي إلى استنارة الجمهور، كما هو الحال حينما يلقون الضوء على شخصية هاملت كما لو كانت شخصية واقعية: فالحقيقة أن الشخصية المصورة في العمل تظل تحيا على مستوى الوجود التخيلي، حتى إذا كان هناك وجود لشخصية هاملت بالفعل من الناحية التاريخية؛ والممثل المسرحي بدوره يجسد شخصية هاملت كما صورها شكسبير. ومثل هذه الاستخدام للكلمات لتصوير موضوع جمالي متخيل، يختلف تماماً -فيما يرى سارتر- عن لغة النثر الخالصة التي يستخدم فيها الكاتب الكلمات ليشير إلى واقع ما يكون ملتزماً به. وتفرقة سارتر في هذا الصدد معروفة في كثير من كتاباته الجمالية، وخاصة «ما هو الأدب؟».الواقع بالمعنى الواسع
وعلى الرغم من أننا نقر -مع سارتر- بأن الموضوع الجمالي (في الفن والأدب على السواء) هو موضوع خيالي بالضرورة، فإن ما لا يمكننا أن نقبله إنما هو القول بأن الموضوع الجمالي المتخيل يكون منفصلاً تماماً عن الواقعي؛ لأننا بذلك نتصور علاقة الموضوع الجمالي الأدبي بالواقع على أنها علاقة انفصال. والرأي عندنا أن الأدب لا يستغني عن الواقع، فهو يبدأ منه ليخصبه برؤية جديدة مغايرة، تعيده إلينا وقد تحرر من تفاهاته وتخلص من سطحيته ومباشرته، وهذا هو ما أقصده بالعلاقة الجدلية بين الأدب والواقع، وإيضاحه يحتاج إلى شيء من التفصيل:
إننا نفهم الواقع بالمعنى الواسع الذي لا ينحصر في الواقع السياسي أو الاجتماعي أو الاقتصادي، وإنما يشمل العالم الذي يعيش فيه المرء، ولاشك أن اللغة هي جزء أساسي من هذا العالم الذي يعيش فيه الإنسان، يُضفي عليه طابعاً من الخصوصية والألفة. ولكن عالم الإنسان أيضاً يتماس مع عوالم أخرى أكثر اتساعاً، تحيط به في شكل دوائر تتسع وتتباعد باستمرار، والإنسان يكون مبدعاً بقدر ما يكون قادراً على تصوير عالمه الخاص على نحو يمكِّنه في الوقت ذاته من الانفتاح على هذه العوالم الأخرى، بحيث يصبح ما هو خاص (أعني ما يكون مرتبطاً بواقع ما) قابلاً للتلقي لدى البشر الآخرين الذين يحيون في تلك العوالم، وتلك هي المهمة التي يضطلع بها المبدع والفنان عموماً، وهذا أيضاً هو ما أقصده من مفهوم «عالمية الفن»:
كل فنان يحمل بلاشك هموم واقعه أو عالمه الخاص، وتزداد الصلة بين المبدع وواقعه في حالة الأدب، وذلك بفضل اللغة كما نوهنا من قبل. والأديب -ومثله الفنان عموماً- يلتقط شيئاً من الواقع المحيط به، ويتعامل معه بالأدوات المتاحة في عالمه، محملاً بموروثه الحضاري أو الثقافي، ولكنه في النهاية لا ينقل لنا الواقع الغفل أو الخام كما يقدم ذاته له، وإنما يجرى عليه تعديلات لا حصر لها، بحيث يبدو كما لو كان خلقاً جديداً. حقاً إنه ليس خلقاً من العدم، ولكنه خلق للواقع في صورة جديدة، بحيث يصبح واقعاً فنيّاً جاء لنا مُفلتراً بعد أن تخلص من شوائبه وأعراضه. غير أن هذه العملية في التحول والانتقال لا تتم لحساب أية أيديولوجية أو رؤية محددة سلفاً، وإنما تحكمها الضرورات الجمالية أو منطق التشكيل الفني والجمالي.

 

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©