السبت 23 نوفمبر 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
اقتصاد

الموازنة الأميركية تتحدى المفاهيم الشائعة لمخاطر الدين العام والعجز

الموازنة الأميركية تتحدى المفاهيم الشائعة لمخاطر الدين العام والعجز
19 يونيو 2019 00:18

يشكل الدين العام وعجز الموازنة أكبر مصادر الخطر شيوعاً على اقتصاد أي دولة، وهذه مدرسة. وهناك مدرسة اقتصادية أخرى تقلل مخاطرهما طالما دار دولاب الاقتصاد المحلي بكل قوة، وتراجعت معدلات التضخم إلى مستويات مقبولة.
وبالنسبة للحالة الأميركية، فمن الملاحظ تآكل التأييد السياسي المنشود لجهود احتواء الدين العام الفيدرالي، بينما يبحث خبراء الإدارة حالياً أكثر السبل أماناً للحصول على مزيد من القروض لتغطية بنود الموازنة وتطلعاتها. فهل حان الوقت لدق ناقوس الخطر، أم أن للاقتصاد الأميركي خصائص فريدة لم تدرج أكاديمياً بعد؟
فقد دأب خبراء الاقتصاد وأساتذة المالية العامة على الدعوة إلى ضرورة «ضبط الدفاتر» بين وقت وآخر عندما يتعلق الأمر بوضع الموازنة العامة للدولة، عاماً وراء عام. وأيد هذا المبدأ بكل قوة وليام هوجلاند خبير الموازنة المتمرس على مدار نحو 40 عاماً مضت، وأحد المعاونين الجمهوريين البارزين في الكونجرس الأميركي. ويقر هوجلاند بأن جهده في هذا الصدد قد ضاع هباء. فلم تعد الإدارة الأميركية، ولا أسواق المال في «وول ستريت»، ولا حتى الأوساط الجامعية الرصينة، تعبأ كثيراً بمشكلتي الدين العام، وعجز الموازنة كما كان الحال من قبل. فهل تغيرت النظريات الاقتصادية السائدة إلى هذا الحد؟ ومن اللافت للأنظار تبدد التأييد السياسي في أوساط الحزب الجمهوري لقضية السيطرة على عجز الموازنة، مقابل الفوز بخفض الشرائح الضريبية. أما الديمقراطيون فيطلقون الوعود بالعمل على زيادة الإنفاق العام مع اقتراب موسم الحملات الانتخابية في 2020. كما حل الطلب العالمي المتزايد على أذون الخزانة الأميركية محل عقلية الترصد لأسواق السندات التي سادت عقد التسعينيات وأثارت فزع واشنطن آنذاك.
وفي ظل هذه الأوضاع المستحدثة، اندلع ما يمكن وصفه بثورة محدودة النطاق في صفوف الخبراء والأكاديميين، فغيروا آراءهم الراسخة وبدؤوا في قبول الدين العام الفدرالي الضخم، والعجز المتتالي في الموازنة العامة. أما الناخبون فلم تعد هذه القضية بشقيها تتصدر انشغالاتهم كما كان الحال من قبل. بل إن «صقور العجز» السابقين، ومنهم وليام هوجلاند نفسه، باتوا يقرون بأن الدين قد لا يشكل ذلك الخطر المخيف كما كانوا يعتقدون! ويمكن القول إن مربط الفرس الآن بات تقييم قدرة الولايات المتحدة على الاستمرار في الاقتراض من الأسواق، رغم التوسع القياسي للاقتصاد الأميركي القائم منذ قرابة 10 أعوام. وعلينا أن نتوقف هنا: لقد تضاعف الدين العام الفدرالي خلال العقد الماضي، مقارنة بالناتج العام الاقتصادي للبلاد، بل وتخطى هذه الحدود، وتقلص العجز فعلياً خلال الأعوام الستة الأولى من فترة التوسع التي نحن بصددها، ولكنه عاد إلى الارتفاع ليصل إلى حوالي تريليون دولار سنوياً! ومن الناحية النظرية، فإن زيادة المعروض من السندات الحكومية سيزيد بلا شك من كلفة الاقتراض على الحكومة. (تباع السندات لجمع الأموال عندما تتخطى أوجه الإنفاق مصادر الإيرادات). وتقول الكتب هنا إن تضخم العجز سيتسبب في مزاحمة أنشطة الأعمال على التمويل فترتفع أعباء الاقتراض على القطاع الخاص أيضاً.

صراع النظريات
والمدهش هنا أن عكس هذا تماماً قد حدث. فقد تضخم الدين العام الحكومي بعد فترة الأزمة المالية 2007-2009 ولكن عائد أذون الخزانة أجل 10 أعوام انخفض إلى نحو 2% فقط، مقابل أكثر من 5% في عام 2006. ويعني هذا تقلص مدفوعات الفوائد مستحقة الأداء على الحكومة. وارتفعت ديون الأنشطة الاقتصادية إلى 15 تريليون دولار في عام 2018 مقابل 9 تريليونات في عام 2006. ويقول أوليفيه بلانشار كبير الخبراء الاقتصاديين السابق في صندوق النقد الدولي: «ليس الدين أمراً كارثياً، إذا ما كنت ستحسن استخدامه وتوظيفه».
ومن الملاحظ أن كلفة الاقتراض على الحكومة الأميركية منذ الحرب العالمية الثانية، وصلت إلى أقل من معدل النمو السنوي للاقتصاد الأميركي. ويعني هذا أن بوسع الحكومة الاستمرار في الاقتراض لتغطية أعبائها، طالما واصل الاقتصاد اتجاهه الصعودي. ففي العام الماضي، على سبيل المثال، ارتفع الناتج الاقتصادي الأميركي بنسبة 5.2% (قبل احتساب التضخم)، بينما وصل العائد على أذون الخزانة أجل 10 أعوام إلى 3.25% كحد أقصى.
ولخص بلانشار هذه الحقائق العملية بقوله إن عليه أن يعيد كتابة فصل السياسة المالية بالكامل في كتابه المرجعي الخاص بسياسات الاقتصاد الكلي.
أما فاليري ريمي، خبير السياسة المالية في جامعة كاليفورنيا، فتطعن في آراء بلانشار بالكامل وترى أن لكل شيء ثمنه، وهذه حقيقة. وتعد فاليري واحدة من أصوات قليلة متبقية تدق ناقوس الخطر من تهديدات مقبلة. وتقول: «لا يعلم أحد إلى متى ستبقى أسعار الفائدة عند هذا المستوى المنخفض. وإذا ما بدأت في الارتفاع فجأة، فستجد الولايات المتحدة نفسها في موقف لا تحسد عليه، لضخامة الدين الذي سيتعين عليها تمويله ساعتها».
ويتوقع مكتب الموازنة في الكونجرس أن يرتفع متوسط سعر الفائدة على الدين العام إلى 3.5% خلال الأعوام العشرة المقبلة، مقابل 2.3% فقط حالياً. ويرى أنه في هذه الحالة، وبحلول عام 2020، ستنفق الحكومة على الفوائد مستحقة الأداء أكثر مما تخصصه للرعاية الطبية. وفي عام 2025، ستتخطى هذه المستحقات ما تنفقه على موازنة الدفاع.

شبح الركود
ويشكل الركود المحك الحقيقي لقدرة أي حكومة على مواصلة الاقتراض. ففي العادة، يرتفع الإنفاق على برامج شبكات الأمان الاجتماعي كإعانات البطالة في خلال فترات الركود، في حين تتراجع حصيلة الضرائب. ويتعين على واضعي السياسات في مثل هذه الظروف أن يقروا زيادات في الإنفاق العام، أو تخفيضات ضريبية لتنشيط النمو. وبمعنى آخر، فعندما يميل منحنى الأداء الاقتصادي إلى الهبوط، ستتضخم قيمة العجز الهائل بالفعل. ويوضح ديفيد رومر وكريستينا رومر، عالما الاقتصاد في جامعة كاليفورنيا، أن الدول ذات المديونية العالية تخرج من فترات الركود بشق الأنفس، نظراً لتخوف واضعي السياسات عادة من إقرار برامج للانتعاش الاقتصادي المنشود وبالسرعة اللازمة. إذ أنهم يتحسبون من تضخم الديون القائمة أكثر مما هي عليه!

مزايا الفوائض وغرائب السياسة
عانت الميزانيات الأميركية من ظاهرة العجز طيلة الـ 50 عاماً الماضية، باستثناء 4 أعوام فقط. ففي خلال فترتي حكم جورج بوش وبيل كلينتون، زادت الضرائب على الأميركيين الأعلى دخلاً، مع خفض الإنفاق العام، وتبني سياسات محفزة للنمو. وأدى هذا إلى تسجيل فوائض في الميزانية في عام 1998 وللمرة الأولى منذ 1969. وعلينا أن نأخذ بعين الاعتبار هنا أن انخفاض العجز يعني تراجع أسعار الفائدة، مما يزيد من الإنفاق والاستثمار.
فقد انخفض عائد أذون الخزانة أجل 10 أعوام من 9% في عام 1990 إلى أقل من 5% بحلول عام 1998. وتوقع مكتب الموازنة في الكونجرس آنذاك تسجيل فوائض سنوية طيلة الأعوام العشرة التالية.
وفي عام 2001، دخل الاقتصاد الأميركي مرحلة الركود. وقرر الجمهوريون خفض الضرائب، بينما أنفقت الإدارة بسخاء على المجهود الحربي في أفغانستان والعراق. ثم حدثت الأزمة المالية، ودخل الاقتصاد مرحلة الركود اعتباراً من عام 2007، ما استلزم وضع خطط لإنقاذ البنوك وإقالتها من عثرتها، وزيادة الإنفاق على شبكات الأمان الاجتماعي، وتخصيص مئات المليارات من الدولارات لتنشيط النمو.
وتسبب هذا في تضخم الدين العام إلى 76% من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2016 مقابل 32% فقط في عام 2001. وشهدت واشنطن حركة سياسية نشطة بهدف تحجيم العجز والسيطرة عليه. ولكنها سرعان ما تبددت بسبب إصرار الجمهوريين من أعضاء ما يعرف بحزب الشاي في عام 2010 على التنديد بتضخم الدين العام. ومارس هؤلاء ضغوطاً على إدارة الرئيس السابق أوباما لخفض الإنفاق العام. وأجبر الرئيس السابق باراك أوباما الجمهوريين على قبول زيادة الشرائح الضريبية الأعلى. وبالفعل بدأت المديونية في الانحسار، ولكن الطرفين عجزا عن التوصل إلى اتفاق متكامل يضمن خفض الدين العام على الأجل الطويل.
وفي عام 2016، وعد الرئيس الحالي دونالد ترمب، خلال حملته الانتخابية، بالقضاء على الدين العام الفدرالي خلال 8 أعوام بعد أن بلغ 19 تريليون دولار، غير أنه تبنى سياسات لخفض الضرائب وزيادة الإنفاق الدفاعي، وتعهد بعدم خفض مخصصات برامج الرعاية الاجتماعية. وبالتالي واصل الدين العام اتجاهه الصعودي تحت رئاسته، وفي ظل سيطرة الجمهوريين على الكونجرس.
ويمكن القول إن الإرادة السياسية تبخرت مع غياب أي جهد حقيقي فيما يتعلق بأذون الخزانة. وكان العائد على أذون الخزانة أجل 10 أعوام قد ارتفع، فيما نادراً، إلى أكثر قليلا من 3% في ظل فترة التوسع الاقتصادي الأميركي. وتشير النظريات الاقتصادية السائدة إلى أن التضخم لا بد أن يرتفع بتوسع الحكومة في الاقتراض، إلا أن ما حدث هو العكس.. فقد انخفض معدل التضخم. ورداً على هذا، أصبح بنك الاحتياط الفدرالي أحد أكبر اللاعبين في السوق، فاشترى ما قيمته تريليوني دولار تقريباً من أذون الخزانة طويلة الأجل.
كما أقبل المستثمرون الأجانب على شراء أذون الخزانة الأميركية كأداة استثمارية آمنة مقارنة بغيرها من الأدوات. ومن ثم، ارتفعت قيمة ما يحوزه الأجانب من هذه الأدوات إلى أكثر من 6 تريليونات دولار في عام 2018 مقابل تريليون واحد فقط في ديسمبر عام 2000.

الصورة الوردية
تقلصت الخلافات بين الجمهوريين والديمقراطيين فيما يتعلق بحتمية خفض الدين العام الفدرالي. وكان الجمهوريون قد خفضوا الضرائب في عام 2017 واتفقوا مع الديمقراطيين في 2018 على زيادة الإنفاق الدفاعي بما يصل إلى 300 مليار دولار فوق مستوى الحد الأقصى للمخصصات العسكرية والمحلية الذي أقره الطرفان خلال معارك خفض العجز في 2011. بل ويبحث الحزبان حالياً إمكانية تخطي هذا الحد مجدداً العام الحالي. ومن اللافت للنظر عدم تحسس الأسواق لأدنى قلق إزاء تضخم العجز الفدرالي. إذ أن هذا القلق يعكسه ارتفاع في أسعار الفائدة، وهو ما لم يحدث حتى الآن!

دواعي القلق
أجرى مركز بيو للأبحاث مسحاً في يناير أظهر أن 48% من الأميركيين (54% من الجمهوريين و44% من الديمقراطيين) يعتبرون خفض العجز قضية تستحق الأولوية في المواجهة والعلاج. وبلغت النسبة صاحبة الرأي ذاته 73% في عام 2013 أي في بداية الولاية الثانية للرئيس السابق باراك أوباما.
ولخص النائب الديمقراطي جون يارموث عن ولاية كنتاكي، وهو رئيس لجنة الموازنة في مجلس النواب، الصورة كالتالي: «نادراً ما أسمع من الناخبين تعبيرهم عن القلق إزاء ارتفاع عجز الموازنة والدين العام، فليس ثمة عواقب مخيفة للمشكلة، فلماذا نقلق إذن؟».
في المقابل، حذرت وكالة موديز للتصنيف الائتماني من أنه برغم استمرار تصنيف الولايات المتحدة عند مستوى Aaa فإن الضغوط قد تتزايد مستقبلاً في غياب أي تغيير في السياسة المالية، لضمان خفض أوجه الاختلال في الموازنات الأميركية مع الحد من الدين العام. وتتوقع موديز التهام مدفوعات الفوائد لنسبة 20% على الأقل من الإيرادات الفيدرالية، وهو ما يتخطى النسبة المتعارف عليها في الدول المتقدمة الأخرى، بل وفي الولايات المتحدة ذاتها خلال عقدي الثمانينيات والتسعينيات.

بقلم: كيت دافيدسون، وجون هيلسنراث

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©