إذا كان هناك ما يتعارف عليه بالناطق باسم دولة ما أو حزب ما، فإن أبا صبحي التناوي هو الرسام باسم دمشق··· باسم أبوابها وشبابيكها ومؤذنيها ومغنيها، باسم نساجيها وملوني قماشها الأغاباني ومطرزي مناديلها وذارفي دموعها وضاربي دفوفها في ليلة عامرة بالتواشيح المحمدية··· باسم قبضاياتها ومن يلوذوا بحمايتهم وعطاريها ومن يلوذوا باعشابهم··· باسم صاقلي سيوفها وخبازي خبزها وبائعي نرجسها وياسمينها على ملتقى الأزقة المؤدية إلى أزقتها·
أبوصبحي التناوي جمع كل هولاء··· وبريشة صنعها من ذيول الماعز وغمسها بلون مصنوع من أحزان أهل الشام وافراحهم ثم رسم ما رسم، ومضى الى قبره وحيداً ليترك عالماً مندهشاً بما صنعته ريشة من شعر خشن وصفيح، وشاهدة حملت اسمين: هنا يرقد محمد حرب (أبوصبحي التناوي)·
قال أبوصبحي: من أعطاني عظمة عظمني فأعطوه العظمة وأخذوا لوحاته مجاناً!
تقول السجلات العثمانية إنه ولد عام ،1888 لكن أهل حي القيمرية الذي ولد فيه أبوصبحي، يقولون إنه ولد قبل هذا التاريخ (اعتماداً على التاريخ الشفاهي الاكثر اعتماداً لدى الدمشقيين من التاريخ المكتوب)· في شهوره الأولى، مات الأب تاركاً الأم المنقسمة ما بين طفلها الرضيع ومواجهة الفقر المقيم في غرف المنزل الموحش وممراته·
خيارات الأرملة لم تكن كثيرة، فكيف ولها طفل يرضع؟ تزوجت من رجل توفيت زوجته وتركت له ثلاثة أولاد، تربى معهم أبوصبحي وعمل في محل أبيهم في سوق العصرونية، فأصبح رابع الأخوة، حاملاً كما الاشقاء الثلاثة لقب أبيهم (التناوي) بعد أن نسي الجميع أن هذا الأخ ليس من هذا الأب!
بعد أن حمل كنية زوج أمه، اشتهر (أبوصبحي التناوي) وتوارى اسمه الاصلي (محمد حرب)، وبعد أن كاد أن ينمحي، استيقظ من غفوته الطويلة ليغادر زقاقا قديما في القميرية ويحط على شاهدة من الحجر الابيض حفر عليها: هنا يرقد المرحوم محمد حرب (المعروف بأبي صبحي التناوي)·
عام ،1973 توفى أبوصبحي التناوي بعد أن أصيب بهرم الشيخوخة الذي لم يوقفه عن الرسم حتى آخر لحظة في حياته فأسلم الروح وبيده ريشته الاثيرة، حدث ذلك يوم المولد النبوي، بعد أذان الظهر تحديداً·
حكواتية وبطولات
لا أعتقد أن من الذكاء أو من الحصافة على الأقل، الاقدام على محاولة (تصنيف) رجل مثل أبوصبحي التناوي واختصاره بكلمة متداولة وهي (الفنان الفطري)، فهي تحمل بين طياتها اختصاراً لأمر لا يختصر، ولأن الوصف غير مفهوم بدقة، استخدمه البعض تعالياً كان ينبغي أن يحس به التناوي وليس مطلقي المصطلح، فالمخيلة المنبسطة كالحقول المترامية والتي تسرح وتمرح فيها طيور الشام واشجارها، غيومها وأمطارها، انحناءات قبابها وتوريقات اعمدتها وتعشيقات زجاجها وتزهير فضتها··· يليق بصاحبها أن يتعالى فيحلق على الشام مثل غيمة تنظر إلى الحياة من بعيد فتحتويها وتأنف عن صغائرها وهكذا كان أبوصبحي·
ابتدأ حياته مثل كل الشوام في بداية القرن، كلهم آذان تصغي لحكواتييهم الذي يصولون ويجولون محتلين الليالي كلها لحساب عنترة والزير الذين تربعوا في قلوب الناس وعقولهم، ابطالاً في خيالات خصبة يكفيها القليل لتضيف من عندها عوالم وحيوات وتحوله إلى كون الاصوات والألوان، وهكذا فعل أبوصبحي·
لم يختر أبوصبحي التناوي أن يفعل ما فعله الدمشقيون المنقسمون ما بين عنترة وعماره، بأن يلوح بالبيضة ويفتل العضلات مهدداً جماعة (المعارضة)، بل اختار طريقاً آخر تماماً، فقرر أن يكرم أبا الفوارس عنتر بطريقة لم يألفها أحد·· قرر أن يرسمه، وبالألوان·
فرشاة المخيلة
كانت دمشق يومها تعرف كل شيء، إزميل الحجار وميناء الذهب وإبرة الحرير وقصبة الخطاط وملقط الصداف، لكنها لم تكن تعرف فرشاة الرسام فهذا لم يكن جزءاً من موروثها الذي تباهي به العالم··· أبوصبحي قرر أن يصنع فرشاة مخيلته·
استوقف راعياً وقال له: 'بعد أمرك شوية شعر'، ثم مد سكينه واقتطع من ذيل معزى 'كمشة' شعر وابتعد بها شاكراً الراعي المستغرب بعد أن شذب حزمة الشعر وجمعها في حزمة، ثم انصرف إلى عمل ذراع من قطعة صفيح (كان يعبىء فيها السمن آنذاك) دورها حول مسمار طويل وحشر فيها الحزمة ثم دقها حول طرف حزمة الشعر الداخل في الأنبوبة، فكان الذراع وكانت الفرشاة·
الألوان لم يكن أمرها بصعوبة الفرشاة فأحجار الألوان المستخدمة في صناعة النسيج متوفرة ولم يكن على أبي صبحي غير تحويلها إلى ألوان سائلة بغليها مع الماء، أما اللمسة الخاصة بالتناوي فكانت اضافته السكر إلى السائل المغلي من أجل ثبات اللون الذي اصبح بعد تحليته غير قابل للزوال مهما طالت الأيام·
مواله من رأسه
منذ ذلك اليوم (أقدم لوحة مؤرخة لأبي صبحي التناوي تعود إلى عام 1902)، تفرغ تماماً لتحويل عنترة وعبلة إلى صحائف من ألوان وزخارف طائرة في سماء لوحته الفريدة التي سعت على أقدام مصنوعة من مخيلة نقية (موالها من رأسها)، لتمشي في شوارع الشام وتطير إلى العالم الذي تلقاها باندهاش من باريس إلى طوكيو ··· فانشغل بأبي صبحي الذي لم ينشغل الا بصعوبة الحصول على ذيل معزى ليقتطع منه فرشاة، بعد أن زحف الحجر على الشجر وضاقت الشام بالرعاة وقطعانهم·
سعَّر التيناوي لوحته بخمس ليرات بقي عليها غير آبه بالغلاء أو صعود العملة أو نزولها، ولم يكتف بذلك، بل كان يثور على غير عادته حين يحاول أحدهم أن يخل بالتسعيرة ويعطيه أكثر من الليرات الخمس!
ذات يوم اشترت منه سائحة فرنسية لوحة من لوحاته ولم تكن تملك أصغر من قطعة عشر ليرات، وحين قال لها إنه ليس لديه خمس ليرات ليعطيها، قالت له، لا يهم فأنا لا أريد باقي المبلغ، ثار أبوصبحي وهاج على غير عادته وسحب اللوحة من يدي السائحة الفرنسية المستغربة، رافضاً بيعها، ولم ينته الأمر إلا بتدخل المحيطين بأبي صبحي واقناعه بأنها لم تقصد الاساءة، لتنتهي المشكلة بالاعتذار من أبي صبحي مع إعادة خمس ليرات له ليسلم اللوحة إلى الفرنسية التي يبدو أنها لم تصادف موقفاً مشابهاً من قبل·
يقول ابنه يوسف حرب ان ابيه ناداه ذات يوم ليسأله، (تعال شوف شو عطتني هالأجنبية) ولما أجابه بأنها أعطته (عشر جنيهات استرلينية) سأله مرة أخرى (يعني قديش يطلعوا بمصارينا) فأجابه (يعني مئة ليرة)·
أيامها كانت المائة ليرة عبارة عن ثروة (الكلام ما زال لأبنه)، لكن التيناوي غير معني الا بالليرات الخمس، سعر لوحته الذي لا يحيد عنه، هب واقفاً ملوحاً بيديه (روح جيب هالست من تحت الأرض)· يقول ابنه أنه هرع إلى التاجر جورج عبيد صديق التيناوي ومحل ثقته، طالباً منه المساعدة في العثور على الشارية، فاصطحبه إلى فندق سميرامس الذي كان يومها مركز السياح الأجانب تركا للسائحة التي عرفها جورج عبيد رسالة لتنتظرهما في استعلامات الفندق لأمر هام·
حين عادا اليها وجداها وقد تملكها الرعب من أنها قد أخطأت وأعطت أباصبحي مبلغاً قليلاً وتصور انها حاولت خداعه، أخرجت أوراقاً من محفظتها وقالت لهم: خذوا ما تريدون أنا لم أقصد خداعه·
بعد أن أفهموها المشكلة طلبوا منها أن تأتي معهم لأن أباصبحي لن يصدق أنهم أعادوا اليها المال، وحين عادوا وجدوه واقفاً في باب دكانه، قلقاً متوتراً، لكنه حين رآها أمامه لم تسعه فرحته فدخل إلى الدكان وخرج حاملاً لوحة ثانية ليهديها إلى السائحة، قائلاً بشاميته المميزة (لا تواخدينا على ما بدر منا)!
العارفون بخصوصية الشخصية الشامية العتيقة لا يستغربون اصرار أبي صبحي التيناوي على الليرات الخمس، فالاستغلال ليس من طبيعة البائع الشامي أيام كان للسوق تقاليده، بل هو على العكس تماماً إذ أن المغالاة في الأسعار تصنف على أنها حماقة إذا ما كانت متعلقة بسلع يمكن للناس الاستغناء عنها، وحينها لن يجد أبوصبحي التيناوي زبائن حتى ولا بالليرات الخمس التي أصر عليها، من جهة أخرى كان الرسم بالنسبة للتيناوي حاجة شخصية لا يريد لها أن تفسد بعرض السوق وطلبه فيخرج عنترة من (قفا) يد أبي صبحي لا من وجهها، وهذا ما لم يكن يرضاه، لا لنفسه ولا لعنترة·
سماحة فنية
الحديث عن هذه (السماحة الفنية) للتناوي له جانب آخر غير الذي تحدثنا عنه، وهو الجانب المؤلم من حياة أبي صبحي ونقصد به استغلاله من قبل الآخرين·
أخذ هذا الاستغلال أوجها عديدة، فبعد أن اشتهر ووصل اسمه إلى فرنسا تحديداً، توجه له العديد من تجار الأنتيك اللبنانيين، وأصبحوا يشترون منه أكثر من ثلاثين لوحة ليقيم معرضاً في باريس دون أن يعلم رسامها والذي وصله الخبر عن التاجر الذي باع لوحاته في الخمسينات بمئات آلاف الليرات فقال (الله يرزقوا··· أنا قبضت حقهن)· كان لأبي صبحي امثال يرددها، وكان من بينها (من يعطيني عظمة··· يعظمني)، تلاقف المستغلون هذا القول وتسارعوا اليه، هذا يحمل حذاءً، وذاك جوارب شغل حلب، ولانه كريم النفس، كانوا يعودون من زيارته، وكل منهم لوحته تحت ابطه ليبيعها بآلاف الليرات مقابل الجوارب والأحذية التي حملوها له!
لم تكن اللوحة باطارها الخشبي، هي نهاية حدود أبي صبحي، فخياله طير والشام سمائه، كل ما حوله يصلح لأن يقول فيه كلمته، فذيل المعزى (شغال) وابطال الاساطير يحلقون بخيولهم وزهورهم وينامون تحت قبة قلبه·
كان دكانه هو مرسمه، وتحديداً كانت هناك خشبة بطول متر ونصف وبعرض نصف متر هي المساحة التي اقتطعها من تجارته ليرسم عليها لوحاته اثناء عمله العادي في بيع وشراء اغراض العصرونية·
بعد أن يغلق دكانه يتوقف عن الرسم ويتوجه إلى مقاهي الحكواتيه ليستمع إلى عنترة والزير وألف ليلة وليلة التي يرويها هؤلاء الحكواتيه للمرة الألف ولكن كل مرة بوصف مختلف وانفعال مختلف·
'تشويم' أبطال خيال الظل
انتبه أبو صبحي ذات يوم إلى أن شخوص خيال الظل المستوردين من تركيا ليسوا إلا (أتراكا) فانصرف إلى دكانه ليعود في اليوم التالي بشخصيتي (كركوز وعيواظ) اللتان اهداهما إلى علي الكركوزاتي الذي دهش بالشروال والطربوش الشامين اللذين حلا محل جبة الاتراك وعمامتهم·
لم يتوقف أبوصبحي عند (تشويم) أبطال خيال الظل، بل نجح في تلوين الظل، بعد أن استبدل الشاشة السميكة بشاشة من جلد الماعز الرقيق جداً والتي تستخدم لصناعة الطبول، لتشف الالوان ويستمتع النظارة بأول خيالات ملونه!
صندوق الدنيا هو الآخر كان أحد ملاعب الخيال للتيناوي، فالقصة التي انتشرت في الشام ابطالها ايطاليون جاءوا مع الصندوق من بلادهم التي صنعته·
فتح الصندوق واخرجهم واحداً واحداً،رجالاً ونساء، واستبدلهم بعنترة وجماعته بعد أن لصق الصورة بعد الاخرى بصمغ (السراس) المستخدم للأحذية آنذاك، ليعيدهم بعد ذلك إلى الصندوق بشريط زاخر بأبطال أبي صبحي الذين طردوا الطليان وجلسوا محلهم·
بعد كل هذا، هل كان ثمة حد، أو فاصل بين أبي صبحي التيناوي ولوحته؟
من خلال العودة إلى تفاصيل حياته، نصل وبوضوح إلى أن حياته ساحت على ألوان لوحته فاعطتها حياة وساحت الألوان على حياته، فلونتها·
المارون من أمام دكانه، تعودوه وهو يرتدي قميصاً قطع من كميه نصفيهما حتى كوعه لأنه يرى في الاردان اعاقة له عن الرسم بحرية، اما شرواله وخفيه فقد كان يمسح فيهما كل نقطة لون زائدة علقت بفرشاته·
كان عندما يتنقل بين دكانه والجامع، يبدو تحت شمس الظهيرة مثل قوس قزح متحركا·
كانت النساء بالنسبة له عبله التي لا ترقى إليها امرأة بالنسبة له، الا يكفي انها تركت الدنيا وتزوجت عنترة؟
العالم المشغول بأبي صبحي لم يكن يعنيه، لقد كان له عالمه الذي حدده سلفاً وترك لروحه أن تحلق فيه كما تحب وتشتهي، أما عوالم الآخرين، (والآخرون هنا هم كل من هم خارج الشام) فلم تكن تشغله·
حين وصلت بعثة التلفزيون الفرنسي لتصور فيلماً وثائقياً عنه، دخلت إلى سوق باب سريجة دخولاً (مظفراً) مصحوباً بالشرطة والسيارات التي تحمل كاميرات بأرجل وأخرى من غيرها، هذه المسيرة تضخمت بفعل مصاحبة عشرات الفضوليين لها وهي في الطريق إلى محل أبي صبحي· حين وصلوا كان أبوصبحي في عز قيلولته التي كان يعتبرها زمراً غير قابل للمساس من أي كان·
كان أبوصبحي يمدد رجليه إلى الرف المقابل بينما توسد نعليه ماضياً في اغفاءته العميقة، حتى اقتربت المسيرة باصواتها الشامية التي اجبرته على ان يفتح عينيه محتجاً ليفاجأ بأن هذا الحشد قادم اليه··· دقائق وفهم انهم جاؤوا من فرنسا من أجله·
امتعض واحتج على قطع قيلولته فلوح بيديه صارخاً (حلّو عني) وتوجه إلى الحمام المجاور لدكانه معلناً رفضه المقابلة وعصيانه داخل الحمام، ولما حاول موظفو وزارة الإعلام اقناعه صرخ:
- ما بصوّر والسما الزرقا··· وإذا بدهم (مصاري منشان يحلّو عني··· بعطيهم)!
لم يكن أبوصبحي يبيع لوحاته لكل من يرغب، فالبعض الذين كان يصفهم بـ (الغلاظ) يقف أمامهم مردداً بالعناد الشامي المعروف:
- خي ما بدي ابيعك··· ما عجبتني!
حين وصل إلى الخامسة والثمانين من عمره كان أصحابه يناكفوه بأن العمر لم يدع فيه الكثير، فيجيب: (أنا ما همتني المرأة ولا الأولاد، ولا البيت··· شو عليهم··· اللي دابحني فراق عنتر)·
وذهب أبوصبحي التيناوي في تلك الظهيرة تاركاً وراءه عنترة وعبله· يصولان ويجولان في طول الارض وعرضها بعد أن اطلقهما في السماء الواسعة طيوراً سعر الواحد منها خمس ليرات غير قابلة للزيادة··· اطلاقاً!