تعدّ زيارة المواقع التاريخية والمرافق التراثية من أهم الأهداف التي يضعها السائح نصب عينيه لدى زيارته لأي دولة في العالم، وذلك لرغبته في التعرف على تاريخ وحضارة هذه الدولة وعاداتها وتقاليدها الأصيلة. ومن هنا فقد سخّر القائمون على الشأن السياحي في الدولة كلّ الإمكانيات والمواقع التي تقدّم التراث والتاريخ الإماراتي بأبهى وأجمل صورة إلى الآخرين.
بدأت السياحة التراثية في أبوظبي تنمو بشكل متصاعد في الآونة الأخيرة، لتساعد على حماية كنوز الدولة الثقافية المتصلة بماضيها في فترة ما قبل النفط، حيث عانى الإماراتي الأول من قسوة الصحراء وشظف العيش. ساعد على ذلك إنشاء العديد من الجهات والمؤسسات الحكومية التي تولت أمر حماية التراث وتقديمه إلى العالم بالشكل المطلوب، وعلى رأسها «نادي تراث الإمارات» الذي خصص العديد من المرافق لهذه المسألة، ووفر فيها نفس البيئة التي سادت فيما مضى. ومن أهم هذه المرافق «القرية التراثية»، التي تقع في منطقة كاسر الأمواج بأبوظبي، والتي يؤمها العديد من السياح القدامين من كافة أنحاء العالم بشكل يومي.
ويعرّف مختصو السياحة التراثية بأنها «تجربة سفر نحو الماضي حيث الجذور وعمق التاريخ، من خلال أماكن وأنشطة ومهن أو تقاليد تمثل أصالة الناس وحكايات الماضي التي تعني التاريخ والثقافة والمجتمع والموارد الطبيعية». فيما يعرّف المؤرخ الدكتور فالح حنظل السياحة التراثية بأنها أحد أنواع السياحة الثقافية، ويقصد بها الأنشطة والمفاصل المرتبطة بالتراث الثقافي غير المادي اللغة والعادات والتقاليد والأدب الشعبي بأنواعه، أو المادي كالقصور والمواقع التاريخية والحصون الذي خلفه لنا الأجداد، لتشكل بذلك مفهوماً جديداً في السياحة.
ويضيف حنظل إن الإمارات تعتبر واحدة من البلدان الغنية بالتراث الثقافي الذي يعود إلى أزمنة تاريخية.
ويتنوع ما بين مواقع أثرية ومبان تاريخية وتقليدية وقلاع ومساجد ومقابر وقطع أثرية وصناعات تقليدية وأسلحة قديمة، ومثال على ذلك مدافن أم النار، القطارة، قرية حتا، الحيرة، موقع الدور، موقع الزورة، مسجد البدية، قصر الزباء. فضلاً عن وجود عشرات قرى التراث المنتشرة في مدن وإمارات الدولة، وفي مقدمتها القرية التراثية على كاسر أمواج أبوظبي، وجميعها مفاصل تراثية تستقطب زوّار الدولة والمقيمين على أرضها فتصبح من ذكرياتهم وتسكن وجدانهم».
مهن شعبية
تضم القرية التراثية عدة أقسام من أهمها سوق المهن الشعبية حيث يقوم الحرفيون فيه بإنجاز حرفهم أمام السياح من أعمال تشمل الفخاريات والجلديات والزجاج وصناعة الدلال والسيوف والخشبيات والموزاييك، وتدخل تلك الصناعات في باب نشر التراث وخلق تجمع إنساني في أجواء من المعرفة والاطلاع والمتعة والفائدة، فضلاً عن إطلاق مهرجان أسبوعي كل يوم جمعة لتعريف السياح بالتراث الثقافي والاجتماعي للمنطقة.
يقول سلطان المطيري- سائح سعودي: «لقد باتت أبوظبي قبلة الأنظار، فهي مدينة تجمع بين الحداثة والعراقة في طابع هادئ وجو جميل، وأنا شخصياً أعجبت بالقرية التراثية التي تجسد نموذجا مصغرا للحياة الإماراتية، والخليجية بشكل عام، فيما مضى».
أما سيلينا فيليب- وهي مترجمة فنلندية، فقالت: «فوجئت بالحضارة العربية العريقة التي رأيتها في القرية التراثية، فهي تزخر بالكثير من التفاصيل الرائعة، ومن أهمها العلاقة مع الحيوانات مثل الإبل والخيل، إنه أمر إنساني جدا يدعو إلى الاحترام».
من جانبه تحدث إبراهيم الحمّادي مدير القرية التراثية عنها، موضحا بأنه تم تشييدها بأسلوب هندسي يناسب عراقة الماضي، وذلك بهدف الحفاظ على تراث الدولة وتعريف الأجيال بماضي الآباء والأجداد، وتنظيم وتطوير الأنشطة التراثية عبر إقامة المهرجانات والمعارض المتعلقة بالجانب التراثي للدولة، إلى جانب نشر الوعي الفكري والثقافي لتعميق الحسّ الوطني لدى أبنائها، فضلا عن إطلاع الزوار والسياح على تاريخ المنطقة وثقافتها في كافة المجالات وإثراء معلومات الوفود السياحية بكل معطيات الثقافة والمعرفة والعلوم المتعلقة بذلك.
وأشار الحمّادي إلى أن السياح يفدون إلى هذه القرية من معظم دول العالم، فهي تتصف بجماليات فنية عديدة وتتجلى لمسات الإبداع في بنائها والزخارف التي حفرت على أبواب مرافقها وسوقها الشعبي ومعرض المنتجات المصنوع من سعف النخيل والخوص، ليتجلى سحر الماضي بأبهى صوره مداعباً أخيلة الزوار والوفود السياحية والرحلات المدرسية الزائرة.
هيئة السياحة
من جهتها سعت هيئة أبوظبي للسياحة إلى أن تكون بمثابة الجهة المعنية بتطوير وترويج قطاع السياحة التراثية، فنجحت في تنظيم الأنشطة السياحية ذات الطابع التراثي في الإمارة، من خلال الربط بين السياحة والتراث والثقافة. وتشير إحدى المنشورات الصادرة عن هيئة السياحة إن الفكرة الأساسية في مجال السياحة التراثية هي حفظ التراث والثقافة وتقاسمها مع الزوار وجني الفوائد الاقتصادية والمعنوية من السياحة التراثية لأنها تعرّف الأمم بنا أجداداً وأحفاداً. لذا يعتمد تطوير السياحة في أحد جوانبها على حماية التاريخ والتراث والثقافة، وتقديمهم للآخر عبر طرق جديدة تجذبهم، خاصة أن السياحة والحفاظ على التراث هي أكثر عرضة للتداخل الإيجابي والتطابق بينهما. فنحن من المجتمعات التي لم تفقد تراثها، ولدينا موارد تاريخية وثقافية واجتماعية وطبيعية لجذب السياح الزائرين، فكل وقائع الحياة اليومية لأجدادنا يجدها الزائر في قرى التراث والمتاحف وكبرى الفنادق وحتى في دوارات الشوارع الرئيسة حيث تطالعهم مجسمات دلال القهوة والمباخر والمندوس والنخلة والصقر والسيف والخيمة وغيرها من تفاصيل تراثية عريقة كلها تروّج لتراثنا».
قلاع ومساجد
يحرص أبناء الدولة والمقيمون على أرضها وكذلك السياح على زيارة المساجد القديم منها كمسجد البدية أو الحديث كجامع الشيخ زايد الكبير ذات الطراز المستوحى من التراث المعماري العربي والمحلّي، وكذلك زيارة القلاع والحصون والمتاحف المنتشرة في كافة إمارات الدولة، كونها تختصر كافة مفاصل التراث المحلي ووقائع حياة الأجداد وتاريخ المنطقة بكافة بيئاتها، وتروي سيرة القائد زايد باني الإمارات، كما في متحف مدينة العين.
ويؤكد محمد النيادي- مدير إدارة البيئة التاريخية في هيئة أبوظبي للثقافة والتراث إن متحف العين الوطني يضطلع منذ إنشائه عام 1969 بأدوار مختلفة تجاه المجتمع المحلي والوفود السياحية التي تزور مدينة العين بصفة خاصة والدولة بصفة عامة، وكذلك الوفود الرسمية وطلاب وطالبات المدارس والجامعات المختلفة حيث يتعرفون على الحياة الاجتماعية لإنسان الإمارات والتي كانت سائدة في العصور الزمنية السابقة، كما تشهد مباني المتحف على ماضي قائد عظيم حوّل الحلم إلى حقيقة وتمكن من تأسيس دولة عصرية في زمن قياسي.
بدورها تقول ليليان كابري- سائحة فرنسية: «لقد زرت عشرات من القلاع والحصون والمساجد والمعالم التاريخية والدينية في الإمارات، وأعجبني في متحف العين تلك المرافق والمقتنيات التي تروي حكاية شعب وقائد وماض وحاضر».
أما كارلو بوتشيرو - مصور اسباني فيقول: «أذهلني جامع الشيخ زايد الكبير بروعة معماره فقد تجلّى فيها العنصر المعماري التاريخي بخصائص تحاكي العمارة المحلية التراثية».
تفعيل السياحة
إلى ذلك، تسعى هيئة أبوظبي للثقافة والتراث إلى تفعيل السياحة التراثية الثقافية من منطلق حرصها على تقديم الوجه الحضاري المشرق للإمارات. فالتراث الثقافي يقدّم للسياح بطاقة تعريف واضحة وصورة صادقة عن البلد، لذا تقدم خططها وبرامجها الدورية كلّ ما من شأنه التعريف بثقافة وتاريخ وتراث الدولة وأبنائها، سواء عبر الفنون الإبداعية التي تحاكي التراث والتاريخ أوعبر المنتجات المحلية التراثية. يقول جيلوي بوردو - سائح إنجليزي: «أعجبتني فكرة الجلوس في بيوت الشعر «الخيام» وتناول القهوة العربية، والاطلاع على عدة مهن قديمة كانت النسوة العاملات في المشغل اليدوي تنجزها أمامنا».
وافقته الرأي زميلته ميرايلا، وقالت: «أشكر القائمين على الهيئة لأنهم يشجعون الزوار على متابعة وتنمية معارفهم ومعلوماتهم في المجال التراثي الفني، فيحققون لنا بذلك التواصل الثقافي بين الشعوب».