فتحية البلوشي:
الخط العربي فن من أرقى الفنون الاسلامية، عرفه العالم مقترنا بحضارة المسلمين، وبقيت تصاميمه الجذابة شاهدا على روعة وإبداع خطاطي العرب القدماء، الموهبة فيه تمتاز بالمهارة ويصقلها التدريب والممارسة، خاصة وأنه قابل أكثر من أي خطٍ آخر للتشكيل والتناغم مع مرونة يد الكاتب بحيث يبدو غاية في الأناقة والجمال· ولأنه برز كإبداع فني يأسر قلوب المطلعين عليه، لم يكن من المستغرب أن يحتلّ كبار الخطاطين مكانة كبيرة في المجتمع الإسلامي ويذيع صيتهم ليس فقط كخطاطين وإنما أيضا كفنانين وعلماء جديرين بالاحترام·
ويبرهن العلم الحديث أن خط اليد أشبه بالبصمة، يصعب تقليده ومحاكاته، قد نستطيع تقليد كلمة واحدة أو توقيعا بعد تدريب طويل، لكن من الصعب جدا أن نقلد خط وأسلوب إنسان ما على الدوام، فهو مهارة يمتكلها الإنسان لإيصال أفكاره بأسلوبه، ومن المعروف أيضا أن الخط ليس ميزة وراثية ينقلها الآباء للأبناء، بل هو صنعة يكتسبها الإنسان بالتعلم والممارسة يعتبر خط الكتابة سمة من سمات صاحبه الشخصية، وبالتأكيد يكون الخط أهم ما يتعلمه الطفل عند دخوله المدرسة فهو الأداة التي يستعين بها طوال سنين الدراسة وبعدها·
من هنا لا يختلف اثنان على أهمية تدريس الخط في اللغة العربية في رفع الكفاءة التعليمية·· فكلما كان الخط واضحاً سَهُلَتْ قراءته·· وأفصح صاحبه عن مكنون نفسه، لأن وضوح الخط ييسر فهم المقروء ويوضح فكرة الكاتب ويبعث على الارتياح النفسي عند قراءة النص المكتوب بخطٍّ واضحٍ وجميل وبالتالي سهولة القراءة وتوفير الوقت عندما يكون الخط واضحاً، ومن هنا قد يكون سبباً في تنمية مهارة القراءة·
كل هذه الأهمية التي نعرفها جميعا للخط العربي نراها تكاد تموت بين أيدي
طلابنا وصغارنا بسبب رداءة الخط الذي يكتبون به في دفاترهم الصغيرة·
الضعف وأسبابه
يقول الأستاذ محمود محمد الموصلي (مدرس لغة عربية): إن الخط وطريقة الكتابة بالقلم من أهم ما يتعلمه الطفل عند دخوله المدرسة، لكننا نادرا ما نصادف بين أبنائنا التلاميذ كاتبا جميل الخط، ولهذا الانحدار عدة أسباب منها ما يتعلق بالمعلم فالمعلم الذي يعلم الطفل الكتابة في الصف الأول الابتدائي قدوة للتلميذ وخطه نموذج يحاكيه التلميذ، فالمعلم الجيد الخط غالبا ما يكون تلميذه مثله، ولقد صادفت بعض التلاميذ الذين علمهم الكتابة معلم (خطاط) فوجدتهم بعد سنة أو اثنتين خطوطهم لا تكاد تختلف عن الطباعة في شيء·
وهناك أسباب تتعلق بمنهج التعليم كالتقليل من الأعمال الكتابية في أكثر مراحل التعليم، طلبا للتخفيف عن المتعلمين وهذا سلاح ذو حدين لأن الإكثار من الأعمال الكتابية يرهق طفلنا ويصيبه بالملل والنفور، والتقليل منها يعود عليه بقلة الألفة بينه وبين القلم، فيجب أن يكون مقدار ما يكتبه التلميذ وسطا لا كثيرا فيرهقه ولا قليلا لا ينفعه·
ضريبة التكنولوجيا
ويتابع محمود الموصلي 'من أسباب رداءة الخط أيضا ما يلقى على مجتمعنا الحاضر من قلة الاهتمام بالخط العربي والخطاطين، والاعتماد الكبير على الحاسب الذي يزين ويزخرف حروفا خالية من الذوق والحس، هذا الإسراف في الاعتماد على الحواسيب والآلات الكاتبة وحلولها محل القلم في الكتابة يتجه بنا تدريجيا إلى جيل أمي في الكتابة أو يكاد، وآخر الأسباب التي يضعها الموصلي تتعلق بالمتعلم الصغير كضعف البصر أو السمع دون انتباه المعلم أو الأهل أو فرط النشاط الزائد الذي يعاني منه بعض الأطفال ويسبب لهم تأخرا في مناحي التعليم المختلفة، من غير ضعف عقلي'·
الكتابة في المواسم
أما الأستاذ وجيه أبو خير (معلم لغة عربية) فيوافق على ما سرده محمود الموصلي من أسباب ركاكة الخط وضعفه من الطلاب ويضيف: 'من أسباب ضعف الخط أيضا انقطاع الطالب عن الكتابة لفترات طويلة في العطلات مثلا، وبقاء اتصاله بالكتابة مرهون بتلقيه للدروس فقط أيام الدراسة، ومع أن الواجب يحتم على الآباء تكليف الصغار ببعض الواجبات الكتابية كالنقل من الصحف أو المجلات، كتدريبات إضافية تعزز خطوطهم وقراءاتهم أيضا، فرسم الحرف تذوق وفن إن حافظ عليه صاحبه بالتدريب المستمر أبدع وتطور، ولكن إذا أهمله ساء وتراجع'·
ويعتبر وجيه أبو خير الاعتماد على الحاسوب في طباعة موضوعاتنا صغرت أم كبرت سبب آخر لنسيان طريقة كتابة الحروف الصحيحة، وكذلك الحالة النفسية للطالب وهي الأمل الذي يلعب دورا هاما في تطوير خطه أو ضعفه، فالهادئ الرزين لديه قدرة على رسم حروفه وكلماته بهدوء وسكينة ليخرج نصا أو عبارة جميلة، بينما عصبي المزاج نجده وفي أحيان كثيرة سريع الرسم لحروفه وكلماته مما يسبب رداءة خطه·
جهل بالمهارات الخطية
ويتابع أبو خير: إن عدم معرفة الطالب للمهارات الخطية مثل تناسب المسافات بين حروف الكلمة الواحدة وبين الكلمة الأخرى، ومراعاة علاقة الحروف بالسطر، وتناسب أحجام الحروف وصحة أشكالها وفي نفس الوقت عدم اهتمام المعلم بتصويب الخط للطالب يعتبر سببا قويا لضعف الخط لديه·
ويضيف: مما تهدف إليه دراسة اللغة العربية بمراحل التعليم المختلفة تكوين الحاسة الفنية لدى التلاميذ، وخاصة مهارة الخط، بمعنى أن يتنبه فيهم الوعي على نواحي الجمال أو القبح والرقة والخشونة في أساليب الكلام ومعانيه فتنمو لديهم القدرة على الحكم والموازنة والنقد لما يقرأون أو يكتبون أو يسمعون·
تقصير من البيت والمدرسة
مدرس الخط العربي في مركز محمد الأستاذ للتدريب الفني محمد بن يحيى يرى أن هناك تقصيرا من المدرسة والبيت في تنمية خطوط الكتابة لدى الطلاب لأن الأستاذ في المدرسة لا يهتم كثيرا بتنمية مهارة الخط للطالب، فتجده يركز على استيعاب الطالب للمادة العلمية وحفظه لها دون أن يهتم بتنمية مهارة الخط، حتى أن كراسات الخط العربي التي كان يتلقاها الطلبة ضمن المنهج الدراسي كانت تظل بيضاء خالية إلى آخر العام الدراسي·
وفي البيت لا يحصل الطالب على المتابعة الكافية من الوالدين، ولا يستعمل معه أسلوب الترغيب في الخط أو أسلوب الثواب على الكتابة النظيفة المرتبة المقروءة وأسلوب العقاب على الخطوط الرديئة إملائيا والمؤذية للعين بأسلوب كتابتها·
ويتابع: أغلب الطلبة الذين يأتون في المعهد هم من الفئة العمرية بين 10 إلى 14 سنة، ويعانون من رداءة كبيرة في الخط، وقلة فقط هي التي تأتي لتعلم جماليات الخط العربي وأنواعه بينما يتركز طلب الأغلبية على أسلوب تحسين الكتابة والخط وهذا ما يعكس قلة اهتمام المدرسة بهذا الجانب الفني بل وتفضيلها جوانب الرسم العادي على الخط العربي الذي يجب أن يحظى بنفس الأهمية لدى الطالب·
ويعتقد بن يحيى أن الكمبيوتر بما يحويه من خطوط عربية رديئة يجعل الطلبة أقل اهتماما بالخط العربي لأنهم في البداية يعولون على استعمال الكمبيوتر لأداء واجباتهم وتكليفاتهم المدرسية وفي نفس الوقت يتعودون على خط الكمبيوتر الرديء ويعتبرونه خطا (مثاليا) للكتابة بينما الحقيقة أنه من خطوط الكتابة الرديئة في اللغة العربية·
الرجال بارزون والنساء مبدعات
ويتابع بن يحيى: يعتقد البعض أن الرجال أكثر جمالية في الخط العربي بينما الحقيقة أن النساء إذا دخلن مجال الخط يكنّ أكثر إبداعا لأنهن يمتكلن الصبر وطول البال وهو ما يفتقر إليه الرجال في عملية تعلم أي شيء وفي نفس الوقت يملكن مهرة الليونة والانسيابية وهو ما يعكس جمالية لوحاتهن، لكن الحاصل أنه على مر العصور العربية لم تشتهر النساء كخطاطات ربما لعدم انتشار التعليم في الماضي، وربما لقلة الممارسة أيضا لأن الخطاط في الماضي كان في الأغلب ( ناسخا) للكتب العربية وكثرة النسخ هي ما يجود حرفه وربما أيضا لاهتمام النساء بالبيت والأولاد في ذلك الزمن أكثر من اهتمامهن بالتعليم واكتفائهن بتلقن العلم من الرجال·
أما اليوم ولانتشار العلم والتشجيع على الفنون أصبح من المعتاد أن نرى خطوط الفتيات أكثر جمالية من خطوط الرجال ولو أن الخطاطين المعروفين ظلوا للآن رجالا وقلة من النساء·!