الإثنين 21 يوليو 2025 أبوظبي الإمارات 34 °C
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

المقاهي الثقافية.. أماكن الحلم والإبداع والثورة

المقاهي الثقافية.. أماكن الحلم والإبداع والثورة
16 يونيو 2010 21:09
لم يكن المقهى في العصور السابقة مجرد مكان لشرب القهوة أو احتساء الشاي، بقدر ما كان حيزاً أسروياً تفوح منه روائح الحميمية والعلاقات الطيبة بين الناس الذين يقصدونه للتخلص من همومهم وأحزانهم، وتزجية الوقت في تسلية بريئة. كانت المقاهي أيام زمان حالة اجتماعية تحقق وظيفة التواصل بين البشر، ثم تحولت إلى بؤر للفكر والإبداع، وفي حالات كثيرة حملت لواء النضال وباتت حاضنات للثوار والحالمين والباحثين عن غد أفضل لا سيما في سنوات الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، تلك السنوات التي ما يزال المثقفون يستذكرونها بأسى تبين ملامحه في عيونهم وارتجافات شفاههم التي سرعان ما تنطق عبارة الحزن التقليدية “سقى الله تلك الايام”... لا أحد يعرف على وجه اليقين متى تأسس أول مقهى في العالم العربي، لكن الثابت والأكيد أن المقهى لعب دوراً فكرياً وسياسياً، وكان له باع طويل في حركات التحرر الوطني في شتى أنحاء العالم العربي مع اختلاف في القوة والتفاصيل، وبينما تدور الفناجين و”استكانات” الشاي تدور الأفكار والرؤى وتتداخل القناعات وتحتدم الجدالات والنقاشات بين رواد المقهى من المثقفين: كتاب وشعراء ومسرحيين وفنانين، وكم من القصائد ولدت في أفياء المقهى، وكم من فكرة تحولت الى عرض مسرحي شيق كان المقهى الشاهد على تخلقها ونضجها، وكم رواية حبكت أحداثها على مقاعده. لم تكن مسيرة المقاهي سليمة دائماً، أحياناً تعرضت للإغلاق وأحياناً صمدت في وجه التغيرات والتقييد والقمع فأصبحت إرثاً ثقافياً، وربما شكلت معالم ثقافية في بعض المدن العربية، تماماً مثل باقي تجليات الثقافة وتمظهراتها. ففي القاهرة ما يزال مقهى “ريش” يحمل على عاتقه تاريخاً من العراقة ودوراً مقدراً من المثقفين المصريين والعرب الذين يحرصون على زيارته، وفي بيروت كان مقهى “الهورس شو” العتيد معقل المثقفين العرب وليس اللبنانيين فقط، وما فتئت ذكراه عابقة في الذاكرة، يتداولها المثقفون العرب ويحكون عنه كما لو أنهم يحكون عن حبيباتهم. “الهورس شو” في بيروت كان مقهى بحجم مدينة، يقصده المثقفون والكتاب والمبدعين من شتى الجنسيات، وربما تمتلك بيروت خصوصية لكونها كانت تحتضن المثقفين العرب، فكان المقهى الثقافي وسيلة تثاقف وتلاقح ثقافي ضمنت له التعددية والحرية التي وفرتها المدينة أن يطير بجناح كبير الى معظم أرجاء الوطن العربي مع مثقفين عاشوا التجربة ونقلوها. وكان من رواده نضال الأشقر، التي مثلت مسرحيتها “مجد ليون” على رصيفه عندما منعت السلطات اللبنانية عرضها، و غادة السمان، وريمون جبارة، وأنسي الحاج. وشهد المقهى بروز الكتابة الشعرية الجديدة على أيدي مؤسسي مجلة شعر التي أحدثت انقلابا كاملاُ في بنية القصيدة العربية الحديثة. العهد الذهبي كانت الخمسينيات والستينيات هي الفترة الذهبية للمقاهي في معظم المدن العربية، ففي مصر مقاه يتجاوز عمرها القرن. وما إن تذكر المقاهي الثقافية في مصر حتى تأخذنا الى العوالم المحفوظية، بمكانها الشعبي وصبيها الزاعق دائماً بأسماء (المشاريب) ومعلمها الجالس في زاوية يرصد العابرين ويحث العمال على الإسراع. لكنها تأخذنا أيضا الى حكايات السياسة والسجون والصعلكة والمشاكسات بين الأدباء والكتاب، فالمقاهي المصرية كانت ملتقى السياسيين والمثقفين والأدباء والفنانين والمتمردين ومن كل التيارات والمشارب. وعلى رأسها يأتي مقهى “ريش” الذي شهد تقلبات الحياة السياسية وانعطافاتها المختلفة. ويذكر نجيب محفوظ انه كتب قصة الكرنك كلها على اريكة بداخلها، ومن روادها: يوسف ادريس وأمل دنقل ويحيى الطاهر عبدالله وأبو سنة وعفيفي مطر وابراهيم فتحي وابراهيم منصور ونجيب سرور وغيرهم كثير. وفيها أيضا غنت أم كلثوم أولى أغانيها بعد قدومها من قريتها طماي الزهايرة بالدقهلية الى القاهره كما غنى فيها اغلب مشاهير الغناء والطرب المصريين القدامى. وعندما نتذكر مقاهي القاهرة الشهيرة التي ارتبطت بذاكرة ووجدان الانسان العربي، نتذكر أنها كانت ومنذ الثلاثينيات منتديات وطنية ابان الاحتلال الانكليزي لمصر، فضلا عن انها مجالس للادب والثقافة، ومنطلق للتقاليد والذكريات الجميلة والاصيلة.. وجلس فيها صلاح جاهين وعبد الحميد جودة السحار واحسان عبد القدوس وغيرهم، وأرسوا فيها تقاليد ادبية جميلة. وفي بغداد أسست المقاهي الأدبية المرحلة الذهبية من تاريخ الأدب والفن والشعر والقصّة والرواية والمسرح والفن التشكيلي، وكان يرتادها مثقفون من العيار الثقيل: الجواهري، الرصافي، الزهاوي، البياتي، سعدي يوسف، مظفّر النواب، غائب طعمة فرحان الذي يرى بعض النقاد أن عالمه الروائي مختزل في المقهى كمكان سيكولوجي لمواجهة الآلام والهموم الثقافية والسياسية. وبين جنبات المقهى الثقافي كتب جواد سليم حولَ ما شكّله المقهى في فنّهِ “الآن عرفت اللون، الآن عرفت الرسم”، وأسماء كثيرة في شتى الحقول الثقافية. ويتذكر العراقيون عشرات المقاهي الثقافية والشعبية الموزعة في أرجاء بغداد والتي كانت ملتقى لرجال الأدب والعلم والسياسة والفن، والتي كان شارع الرشيد يحوز حصة الأسد منها إذ قامت على جانبيه كل من مقاهي: الزهاوي، حسن عجمي، الواق واق، البرازيلية، ياسين، شط العرب، البلدية، البرلمان، المعقدون، الشابندر، الرشيد ومقهى أم كلثوم، وغيرها الكثير. وكان مقهى الزهاوي مفضلاً من الشاعر معروف الرصافي، جميل صدقي الزهاوي، محمد مهدي الجواهري وعلي الوردي. ويقول فائز الحيدر إن الحياة الأدبية للشاعر بدر شاكر السياب ونشره لقصائده كانت من هذا المقهى. ولا يختلف الحال في دمشق عنه في المدن الأخرى، فقد كانت مقاهيها جزءاً من الذاكرة الشعبية والثقافة العربية وتاريخها السياسي والنضالي، وشهدت بعضها كما في العراق، خروج المظاهرات ضد الاستعمار. ويشير كتاب (الروضة الغناء في دمشق الفيحاء) لنعمان قساطلي الى ان دمشق كان فيها 110 مقاه في القرن التاسع عشر، من أشهرها: السكرية، القماحين، الدرويشيه، العصرونية، المناخلية، الجنينة، العمارة، جاويش، القيمرية، الرطل، المشيرية. ومن أشهر المقاهي وأكثرها ارتياداً من قبل المثقفين والفنانين مقهى الكمال الذي كتب فيه الاديب معروف الارناؤوط رائعته سيد قريش، ومقهى علي باشا الشعبي ومن رواده الاديب الراحل صدقي اسماعيل، و الطاحونة الحمراء، والأولمبيا، ودمشق، والبرازيلي، والروضة ومن روادها: نزار قباني، عبد السلام العجيلي، أحمد صافي النجفي بعد مجيئة الى الشام، خليل مردم بيك، وشوقي البغدادي، ومقهى الهافانا، في اربعينيات القرن الماضي الذي كان احد عناصر الجذب للادباء والشعراء والشخصيات الثقافية ايضا، ومن رواده عيسى فتوح وشوقي البغدادي وعادل ابو شنب وسليمان عواد وعبد الغني العطري. المقهى الشعبي من يبحث عن دور لـ “المقهى الثقافي”، بالمفهوم الشائع في الثقافة الأوروبية، في الراهن الإماراتي قد لا يعثر على مقهى مشابه، رغم أن المقاهي الحديثة (الكافيهات) تنتشر كالفطر في كل مكان، إلا أن حركة التفافية سريعة على طريقة (الفلاش باك) ستظهر لنا بعض ما غاب بين بطون الكتب، وتناثر هنا وهناك في كتابات المؤرخين أو الباحثين في الثقافة الإماراتية من دون أن تتم مقاربته مقاربة ثقافية فاحصة ودراسته دراسة سوسيولوجية معمقة. وحتى تاريخ كتابة هذه السطور، لا يوجد كتاب أو حتى فصل كامل في كتاب (على حد علمي) يقرأ ظاهرة المقهى الشعبي بوصفه مكاناً أو وسيطاً من وسائط الثقافة، ويلقي الضوء على الدور الثقافي كذا الاتصالي الذي لعبه في فترة مبكرة من حياة المجتمع الإماراتي، فالمقهى الشعبي على ما يبدو من روايات الرواة وكتابات الباحثين ممن تطرقوا الى جذور الوعي في الإمارات هو أكثر من مجرد مكان شعبي، يجري التركيز عند تناوله على بنائه المعماري التقليدي، وأنواع الخشب الذي استخدمت فيه وغيرها من التفاصيل التي لا تغني عن قراءة دوره الثقافي الريادي بحق. ولعل هذه المقاربة المتواضعة التي حاولت أن تستنتج ملامح صورته ودوره الثقافي تحرض الباحثين على إضاءة هذا الدور ووضعه في مكانه الذي يستحقه في مجمل حركة الوعي التنويري والقومي الذي عرفته الإمارات. وقد عرفت الإمارات نوعاً من المقاهي الشعبية التي كانت تقوم بدور (المقهى الثقافي) بوصفه مكاناً للحوار والجدل حول الموضوعات الفكرية المختلفة، لكن الهم الأساسي لرواده كان متابعة أخبار السياسة وما يجري في المجتمع من أحداث. كانت تلك المقاهي تمتلك إمكانات التواصل البشري وتبادل المعلومات والأخبار والمعارف التي تحصلت لدى البعض من خلال قراءة الصحف والمجلات التي كانت تصل الى البلاد مع السفن. صحف ومجلات ثقافية ذاعت في تلك الفترة المبكرة ومارست دوراً توعوياً وتثقيفياً مقدراً كما يروي الذين عاصروا تلك الحقبة التاريخية. ولعب المقهى لكن بصيغته المحلية “المقهى الشعبي” منذ بدايات القرن الماضي دوراً ثقافياً واجتماعياً بارزاً، فقد كان مزاراً يومياً للصيادين والنواخذة وأصحاب الحرف ولجميع الناس باستثناء النساء والأطفال والفتيان الذين لم يدخلوا بعد في سن الشباب، يلتقون فيه ويتبادلون الأخبار ويعقدون الصفقات وينتظرون عودة محامل الغوص من سفرها الطويل. كسر العزلة في ذلك الوقت الذي كانت فيه العزلة مضروبة على منطقة الخليج ومنها الإمارات، وكانت عزلة شبه كاملة فرضها البريطانيون لأهداف سياسية واقتصادية، لم يكن من فرصة للاحتكاك بالعالم الخارجي ومعرفة ما يدور فيه من أخبار وأحداث سوى الروايات الشفاهية التي يتقن البحارة والتجار العائدون من رحلاتهم التجارية سردها وروايتها على المتحلقين حولهم في المقهى الشعبي، الذي كان أشبه بمنتدى يجتمع فيه الناس للتباحث في شؤونهم ومعرفة ما يهمهم معرفته، وكسر طوق العزلة الذي يحيط بهم. ولا تذكر الكتب فيما إذا كان ليل المقهى الشعبي يتسع لرواية القصص والسير الشعبية كما في مقاهي مصر وبلاد الشام، حيث كان يروى الشعر ويقصد القصيد في المجالس الشعبية. ومع بدايات الطباعة صار المقهى الشعبي هو ايضاً وسيلة المعرفة المكتوبة وتبادل المعلومات كشكل متجاوز للرواية الشفاهية أو الخبر المفتوح على خيال الرواة الذي انتقل من الحكي الى المكتوب، ودخل في الهاجس المعرفي الذي كان يؤرق النخبة الاقتصادية المشغولة أو المؤرقة بالتحولات العالمية سواء على صعيد متابعة أخبار اللؤلؤ الصناعي الذي هدد بضرب أكبر نمط تجاري عرفته المنطقة قبل ظهور الذهب الأسود، أو متابعة تفاصيل الحراك السياسي الذي كانت تشهده المنطقة، أو بالنسبة الى النخبة المتعلمة والمثقفة من أبناء البلاد الذين كانوا يتداولون فيه الآراء والكتابات ويترنمون بالشعر ويسمعون الغناء الأصيل ويمارسون اهتماماتهم واحتداماتهم الفكرية والأدبية. “نخي” وأخبار يذكر كل الباحثين الذين أرخوا للحركة الثقافية والإعلامية في الإمارات، على اختلاف بسيط في التفاصيل الدقيقة، أن العين عرفت في عشرينات القرن الماضي مقهى يملكه مصبح بن عبيد الظاهري (تصفه بعض البحوث والكتابات المتعلقة بنشأة الصحافة في الإمارات بأنه أول صحفي في الإمارات)، لأنه كان يقوم باستقصاء الأخبار ثم يكتبها ويعلقها في المقهى على كرتونة ليقرأها زبائنه. وعرفت هذه الصحيفة البدائية باسم (النخي) أي الحمُّص لأن صاحبها كان يبيع الحمص المسلوق، والتي ستُذكر بعد ذلك باعتبارها أول صحيفة في الإمارات. وفي دبي كان يوجد مقهى (كليوباترا) الذي كان يملكه خادم سرور المعصم وكانت له أيضاً رسالة تمارس أو تعالق مع الثقافة، وكلاهما كانا يوفران لروادهما فرصة معرفة ما يجري حولهما في العالم، حيث كانوا يقرأون الصحف ويستمعون الى المذياع. ولا يصعب الاستنتاج بأن هذا السلوك كان إرهاصات أولى لدور مهم سيلعبه المقهى الشعبي، وإن بدا خجولاً في البداية أو بهدف دعائي قصد صاحبه الترويج لبضاعته من (النخي). مجالسهم.. صالوناتهم الثقافية كانت المقاهي الشعبية في ذلك الوقت المبكر من بدايات القرن المنصرم شاهداً على مرحلة تنوير ثقافي أسسها نخبة من الفقهاء وأصحاب الفكر والمتعلمين ممن باتوا لدى المؤرخين أو الباحثين في شؤون الثقافة الشعبية من قامات الإمارات وأعلامها. وقد ترسخ حضور المقهى (الثقافي) في حياة المجتمع في فترة الحرب العالمية الأولى والثانية، وقتها بات المقهى مكاناً للالتقاء ليس بهدف التواصل الاجتماعي وتزجية وقت الفراغ في شرب القهوة أو الشاي وممارسة بعض الترفيه البريء، بل بهدف معرفة الأخبار السياسية وإشباع الفضول لسماع المزيد من تفاصيلها عبر “الراديو” المذياع، هذا الجهاز الصغير الذي مكن المثقفين الإماراتيين من متابعة التطورات الثقافية والسياسية في العالم العربي. حينها، كان المقهى كما في دول عربية أخرى مكاناً استثنائياً لمن يبحث عن هذه الأخبار أو يهوى الحوار والنقاش في المستقبل وتأثيرات الحرب المتوقعة. وفي الثلاثينات من القرن العشرين برز ما يعرف بالمجالس الشعبية التي اشتهر بها الإماراتيون، ولم تكن تلك المجالس سوى (صالونات ثقافية) بالمصطلحات الحالية، فقد كانت أشبه بالمنتدى الثقافي وقامت بدور تثقيفي كبير، وكانت تقام خارج البيوت، ويمكن القول أنها قامت بالدور الذي قامت به المقاهي في الدول العربية. من المقهى الشعبي إلى “الكافيه” ربما اختفت الآن من دول كثيرة مقاه شعبية كانت ملء الاسماع والأبصار، وربما قل عدد المقاهي لصالح ارتفاع عدد محال “الكوفي شوب” التي لم تستطع أن ترث دور المقهى القديم، وظلت تراوح في إطار المكان الترفيهي والتسلوي الذي لا يعنى بالثقافة ولا بأي من تجلياتها. وبسبب الطبيعة الاستهلاكية للمقهى المعاصر والنظر إليه بوصفه مشروعاً للربح يصعب القول إن هناك مقهى ثقافيا بالمعنى الحقيقي للكلمة. ربما يقع المرء على مقهى هنا أو كافيه هناك يعرض بعض المجلات والصحف لكن لا المناخ العام للكافيه ولا طقسه ولا طبيعة الزبائن الذين يرتادونه يوحي بأنه يسهم في خلق ثقافة كتلك التي اعتنى بها المقهى الشعبي في السابق. لكنها في الوقت نفسه تشيع نوعاً من المظاهر الثقافية التي تطرح سؤالاً مهماً حول ما إذا كان علينا النظر إليها باعتبارها وسائط للمثاقفة. وهو سؤال مشروع تثيره الكثير من تمظهرات الثقافة التي تعبر عن نفسها في المناخات العامة لـ (الكافيه) والطقوس المتبدية في نوعية الملابس (خاصة التي تركز على أن يرتدي العاملون فيها ملابس أوطانهم التقليدية)، وطرق تقديم الطعام وأنواعه، واللوحات الفنية المعلقة على الجدران والموسيقى أو الأغاني التي تصدح في جنباتها، وحتى الاسم الذي يحمله المقهى والدلالات الثاوية فيه. في عصر الثقافة العابرة للقارات والسماوات والفضاءات لا يبدو من السهل تحييد أو سلخ اي مسلك بشري أو منجز تكنولوجي من مهمته الثقافية. والمقهى غدا مع حالة التعددية التي تشهدها الإمارات وسيلة تواصل ثقافي ربما لا يتجلى في أشكال المثاقفة التقليدية لكنه يقوم بدوره كآلة تحريضية على المعرفة والتواصل مع العالم، وهو دور يتوسل الخطاب البصري الذي بات له حضور جدّ مهم في عصر العولمة. زاهي وهبي يرصد تحولات بيروت الحوار والحب والديموقراطية في «قهوة سادة» المقهى البيروتي.. مطرح الحرية الوحيد أسماء وهبة لكل منا نظرته الخاصة لبيروت، تلك المدينة الصغيرة في مساحتها والكبيرة في تاريخها وأحوالها وناسها ومعاناتها. فهناك من يختزلها في عقيدة دينية. وآخر يراها فكرة سياسية يحلم بأن تؤسس لوطن مغاير. وثالث يؤكد على خصوصيتها كمدينة عابقة بالفن، وقبلة للشعراء والمفكرين. وهناك فئة جعلتها أرضاً للجهاد، تجمع المقاومين فتصدح بأغنيات الحرية والصمود. وعلى الرغم من كل هذا الخليط، مازال هناك مساحة صغيرة تجمع كل هؤلاء في العاصمة البيروتية!. إنه المقهى الذي يشكل مرآة للمدينة/ الرسالة بكل أبعادها السياسية والاجتماعية والإنسانية والثقافية، والذي جعل منه الشاعر الإعلامي والشاعر زاهي وهبي في كتابه الجديد “قهوة سادة: في أحوال المقهى البيروتي” الصادر عن الدار العربية للعلوم مكاناً لرصد كل تحولات المدينة. ولعل علاقة الشاعر بالمقهى ذات طابع خاص وربما استثنائي، لأنه الفضاء الذي يمنحه الحرية والانعتاق من الحدود. يواظب يومياً على الذهاب إليه في موعد محدد، فيجلس على الطاولة ذاتها في شارع الحمرا، ويسمع ويدقق ويشاهد في وجوه الناس وحركات شفاههم. وبالتالي أصبح شاهداً على تحولات شارع الحمرا خصوصاً ومدينة بيروت عموماً، لأنه مكان ثقافي لا يكتفي بالشعر والأدب، بل مساحة مفتوحة على حياة لبنانية ذات نكهة خاصة تجمع بين حميمية الأمكنة ونضارتها وصخبها وحيويتها ووجعها أيضاً. على هذه القاعدة بدأ زاهي وهبي كتابه بتأريخ لنشأة المقهى في عالمنا العربي على يد السوريين حكم الحلبي وشمس الدمشقي، اللذين افتتحا أول مقهى في “القلعة الخشبية” في مدينة اسطنبول عام 1554م. وقد ارتبط المقهى، حسب زاهي، بالواقع السياسي والاجتماعي للعالم العربي آنذاك، ما دفع العديد من السلاطين العثمانيين إلى إقفال المقاهي بعد أن أصبحت مكاناً لتجمع المثقفين المعارضين للحكم. وبالطبع لم تشذ المقاهي البيروتية عن هذا الواقع. ولكنها لم تتعرض يوماً للإغلاق كما حدث في مدن عربية أخرى حتى في أقسى الظروف السياسية وأحلك أيام الحرب الأهلية، بل بقي المقهى ملاذاً للشعراء والمثقفين، الذين استطاعوا تحويله إلى كائن حي، “وليس مجرد مساحة وآرائك وطاولات وفسحة لتمضية الوقت أو تصريف الأعمار” على حد وصفه. يمزج زاهي في كتابه الجديد بين تجربته الأدبية وعلاقته بالمقهى، وكيف تطورت تلك الأخيرة وتغيرت كما تبدلت معالم مدينة بيروت. ويقول في حديث لـ “الاتحاد”: “إن خصوصية كتاب “قهوة سادة” تنبع في كونه تحية لبيروت ومقاهيها التي أعتبرها أحد أماكن الحرية والحوار والحب والديموقراطية”. ويتابع: “إن المقهى أحد علامات المدينة الراسخة كالسينما والمسرح والشعر والمنتديات الثقافية أو الساحات العامة والكورنيش. كما أن للمقهى البيروتي مذاقاً خاصاً لأن حلاوتها من حلاوة العيش في بيروت رغم الأزمات والمصاعب. لذلك لم يغفل الكتاب السلبيات التي طرأت على طريقة العيش اللبناني وواقع المدينة، ولكنه في نفس الوقت احتفى بالمقهى”. كما أراد زاهي أن يوضح عبر الكتاب أن المقهى ليس مجرّد مكان. ولا يقتصر مفهوم المقهى على تلك المساحة من التعبير، بل يتعدّاها ليختلط فيه التاريخ والجغرافيا، فيتحوّل إلى مكانٍ وزمان في آن، وإلى أجساد تستريح وأفكار تسرح. ويقول: “بسبب إقامتي في المقهى منذ 25 عاماً رصدت كل التحولات التي طرأت على المدينة، لأن الأمكنة تشبه الناس، تتغير سماتها وملامحها مع الزمن. فهناك أمكنة تذبل وتموت لتولد أمكنة جديدة. لذلك قدمت في الكتاب تحية لأمكنة ذهبت مثل “الويمبي” و”المودكا” و”الكافييه دو باري”. واحتفيت بأمكنة جديدة ولدت مثل “سيتي كافييه” و”تاء مربوطة” و”ليناز” و”جدل بيزنطي”، أي أن كل زمن يخلق أمكنته الخاصة. وكل جيل يترك بصمته على الأمكنة والجدران والأرائك والطاولات والكراسي وحتى مذاق القهوة”. وفي هذا الكتاب جعل زاهي منطقة رأس بيروت التي يمثل شارع الحمرا عمودها الفقري المكان الوحيد الذي استطاع الحفاظ على التنوع الاجتماعي والطبقي والطائفي والمذهبي. كما لحظ نمطاً جديداً من المقاهي يجمع بين المقهى بطابعه التقليدي الذي يفتح أبوابه نهاراً، ثم يتحول إلى حانة ليلاً حيث يختلط الشعر بالإنترنت والصالونات الأدبية بالأمسيات الثقافية، ضمن أجواء دافئة حميمة لا يمكن أن يجدها زائر المقهى إلا في بيروت. كما رصد الكتاب تحول الكثير من المقاهي البيروتية من طابعها النخبوي - الشعبوي إلى ذلك الطابع الاستهلاكي المتصل بالسياحة والتجارة، حيث بدأت تظهر مقاهي جديدة مع انتهاء الحرب الأهلية اللبنانية “وكأننا على موعد يومي مع ولادة مقهى جديد!”. إلا أن النقطة الفاصلة في تاريخ المقاهي اللبنانية كان إقفال تلك التي شكلت علامة مميزة، والتي ارتبطت بأسماء لامعة في عالم السياسة والكتابة والنضال. ولم يستطع اعتصام بعض المثقفين أن يحول دون رغبة أصحاب “الويمبي” و”المودكا” مثلاً من إقفالها. ويتطرق إلى علاقة الشعراء بالمقهى، مستشهداً مثلاً بالشاعر عصام العبد الله الذي يواظب يومياً على المقهى، والذي يعتبره “مطرح الحرية الوحيد”. كما يستعين بالشاعر يحيى جابر الذي يلخص معنى المقهى البيروتي وما يميزه عن مقاهي المدن العربية الأخرى قائلاً: “هنا نتكلم في السياسة بصوت عال، فيما يضطرون هناك لخفض أصواتهم”. واللافت في مضمون الكتاب هو خصوصية العلاقة التي تجمع بين زاهي والمقهى الذي يواظب يومياً على الذهاب إليه في موعد محدد في الصباح أو المساء، فيجلس على الطاولة ذاتها في شارع الحمرا، ويسمع ويدقق ويشاهد في وجوه الناس وحركات شفاههم. وبالتالي أصبح شاهداً على تحولات شارع الحمرا خصوصاً ومدينة بيروت عموماً، لأنه مكان ثقافي لا يكتفي بالشعر والأدب، بل مساحة مفتوحة على حياة لبنانية ذات نكهة خاصة تجمع بين حميمية الأمكنة ونضارتها وصخبها وحيويتها ووجعها أيضاً.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2025©
نحن نستخدم "ملفات تعريف الارتباط" لنمنحك افضل تجربة مستخدم ممكنة. "انقر هنا" لمعرفة المزيد حول كيفية استخدامها
قبول رفض